دونما أدنى قدرة على تفسير أبعاد وخلفيات ما يحدث حولنا، من أجواء ساخنة في عز فصل خريفي، اتسم بانحباس الأمطار، وتهاطلت عوضها مقالات وآراء، منددة غالبيتها بما استشعره أصحابها من ألم الاستفزاز، وما أصابهم من هول الصدمة، حين أبى السيد: نور الدين عيوش إلا أن يعلنها حربا شعواء ضد اللغة العربية، في محاولة يائسة لاستبدالها بالعامية في تدريس الناشئة، وكأنه يريد إعادة كتابة ميثاق التربية والتكوين وفق منظور خاص.. وأنا أتابع السجال الدائر، لم أعلم كيف قفزت إلى ذهني صورة ذلك الطالب البئيس، الذي مسحت المعتقلات السرية المادة الرمادية من دماغه، إبان زمن الجمر والرصاص، وهو يخاطبنا بالقول: "شوفو انتوما الأدبيين والعلميين، واخا تقراو حتا تعياو، راه ما غادين تصوروا حتا زفتة، ولاد لمرفحين هوما اللي غايسيرو البلاد صحة وبزز منكم، وعرفتو بعدا آش وقع؟ واحد النهار الحطيئة توضا، اضرب جوج اشقوفة دلكيف مدرحين، شاف فالمراية وقال: أرى لي وجها شوه الله خلقه,,,,فقبح من وجه وقبح حامله" وأما لمعلم داروين، وغير اضرب ليك واحد جوان وشاف فالمراية، وهو يسولها: "واش القرد تايشبه ليا ولا أنا اللي تانشبه ليه" وانصرف دونما رجعة إلى اليوم! أما الأخ عيوش زاد الله في لسانه، ولا نقص من بعد نظره، فلا هو نظر إلى مرآة ولا جاءه "هدهد" بخبر يقين، وإنما أوحي إليه بأن الزعامة التي أضاعها في مناسبات سابقة، قد يستردها إذا ما توفق في إنجاح المخطط الجهنمي وأحسن إدارة المعركة، التي اشتعل أوارها بعد اختتام أشغال "المؤتمر العالمي للتربية" المنعقد بمؤسسة زاكورة للتربية يومي: 4 و5 أكتوبر 2013، والذي حضره إلى جانب مستشار جلالة الملك السيد: فؤاد عالي الهمة والسيد: عمر عزيمان الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم، والسيد: رشيد بلمختار الذي أصبح فيما بعد وزيرا للتربية الوطنية، خبراء أمميون وباحثون مغاربة ودوليون، خاصة بعد أن شاع بين الناس نبأ رفع مذكرته الشهيرة، وما تضمنته من توصيات تهدف إلى حل أزمة التعليم، انطلاقا من اعتماد التدريس بالدارجة في المراحل الأولى للطفل، إلى الديوان الملكي وإلى مؤسسة رئاسة الحكومة. ولمن لايعرف شيخنا هذا، فإنه: فاعل جمعوي، رجل مال وأعمال، وصاحب "مؤسسة زاكورة" للقروض الصغرى... شاء حظه التعس ذات موسم انتخابي من سنة: 2007، أن يؤسس جمعية أطلق عليها: "2007 دابا"، غايتها الظاهرة المساهمة في رد الاعتبار للفعل السياسي، والعمل على إقناع المواطنين من الشباب والنساء بالمشاركة في الانتخابات، إلا أن ما كان يطمح إلى تحقيقه في الرفع من نسبة المشاركة، جاء معاكسا للأمل وانكسر على صخور الواقع، لتذهب الأموال المرصودة للتحفيز إلى الجحيم دون حسيب ولا رقيب، ثم تلا ذلك قيادته لمجموعة الديمقراطية والحداثة، ولم يبلغ مناه في تشكيل لجنة ضاغطة على البرلمان والحكومة من أجل إقرار حرية المعتقد دستوريا، حسب ما أوصى به المشاركون في اللقاء الدولي المنعقد يومي 16 و17 مارس 2012 ، لتظل التوصيات معلقة في رفوف متحفه... ترى هل تقوى سلطة المال على دحر عناد الفكر الحر وزعزعة الإيمان بالهوية، بعدما خاب المستعمر من قبل في تفتيت اللحمة الوطنية؟ وإذا كانت جريدة الأحداث المغربية، سباقة إلى دعوة الوطني الغيور والمفكر المغربي المشهور السيد: عبد الله العروي لإبداء الرأي حول هذه القضية الشائكة، فإنه لم يتردد في تلبية الدعوة والخروج من مقبعه، رغبة منه في التصدي لمن يسعون إلى محاولة تقويض الوحدة الوطنية وشرذمتها، أولئك الذين يدعون إلى التدريس بالدارجة خدمة لأجندات معينة وبأوامر من جهات خفية، علما أن اللغة عنصر ثقافي فارق في حياة الأمم والشعوب، وهي كما يراها الباحثون وعاء للفكر، ومع ذلك ومن وجهة نظر الأخ عيوش ومن يدعمه، يعتبرون العربية الفصحى لغة متخلفة ومتجاوزة...في حين أنها الوعاء الأصلح والجامع والمتماسك، النقي والعميق، وهي الجسر الآمن الذي يتم عبره الاتصال بالحضارة والتراث، ولا أحد منا ينفي ما للدارجة المغربية من قيمة رفيعة، لما تجسده من غنى وتعدد، وما يميزها من عمق دلالي وإيحاء رمزي، حتى وإن كان البعض يسيء استعمالها، فهي لهجة للتواصل والتحاور في البيوت وفي الشارع، إلا أنها تبقى غير مؤهلة للتدريس، وأن أي تمادي في مثل هذه النقاشات، لن يعمل سوى على تعطيل مسارنا التنموي. وحسنا فعلت القناة الثانية، حين حذت حذو الجريدة سالفة الذكر، باستدعاء طرفي المعادلة لمناظرة تلفزيونية عبر برنامج "مباشرة معكم"، وقد أقر السيد: نور الدين عيوش، أمام الجمهور الواسع بأن اقتراح التدريس بالدارجة، هي مبادرة شخصية لم تأت بإيعاز من أي جهة عليا، وأن الفكرة راودته إبان تجاربه الميدانية، حيث تبين له أن الست سنوات التي يقضيها تلميذ التعليم الأساسي في المدرسة العمومية، يقضي منها تلاميذ مدارسه الخاصة فقط ثلاثة أعوام سريعة وبدون صعوبات، "OH LA LA !، يا لسحر التدريج في صناعة التهريج !". أما السيد عبد الله العروي، وباعتباره أستاذا مبرزا في الحضارة وخبيرا باللغة العربية وشعابها، فقد بدا الفرق واضحا وشاسعا بينه و"غريمه"، وبقدر ما بدا الأستاذ العروي ممتعا ومقنعا سواء في حواره الشيق والجاد مع الجريدة أو أمام الشاشة، حيث كشف بالملموس عن حقائق علمية تبرز أن اعتماد الدارجة في التدريس، لن يؤدي سوى إلى التقوقع وتحويل الوطن إلى جزيرة معزولة، مما يدحض مزاعم من تحركهم أجندات وإيديولوجيات وينسف طروحاتهم، كان "اللاعب" عيوش في وضع تسلل، معطوبا وتائها، ينطق بكلمات شاردة تكاد تميل إلى ما يشبه الهذيان، البعيد كليا عن المنطق والبيان، مما جعل الكل يفطن إلى أن الرجل يبحث فقط عن زعامة ورقية موعودة، وأن مدربيه لم يحسنوا تأطيره ليكون في مستوى الحدث... نحن لم نعترض إطلاقا على أي نقاش نراه جادا ومسؤولا، يأتي لنفض الغبار عن العقول المتكلسة وتحريك البرك الآسنة، وإنما نعترض على الجدالات المغرضة، التي تحاول أن تلهينا عن واقعنا، وتؤخرنا عن ركوب قطار الديمقراطية الحقيقية لتعمق مشاكلنا، إننا لسنا مستعدين للمزيد من هدر طاقاتنا بعيدا عن قضايانا الحيوية السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولعل ما أتانا به السيد عيوش يستحق التثمين في أحد جوانبه، حيث أظهر بجلاء للناقمين من ذوي النوايا السيئة، أن المغرب مازال والحمد لله يزخر بالطاقات الخلاقة، ويتوفر على عمالقة من الرجال الأفذاذ، الذين مهما تقدم بهم العمر لن يغيبوا عن مواكبة شؤون حاضر الوطن، وسيستمرون يقظين للذود عن ثوابته ومقدساته...
أكيد أن اللغة العربية، في حاجة إلى التطويع والتبسيط، لكن ذلك لا يشفع لأحد باتهامها بالتراجع في الأداء والضعف في العطاء، لأن أزمة التعليم أعمق من أن نختزلها في مشكل اللغة... وقد ورد في المادة: 23 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين: " إن إصلاح نظام التربية والتكوين، يتطلب الحزم وطول النفس، ويتطلب انخراط كل القوى الحية بالبلاد، حكومة وبرلمانا وجماعات محلية وأحزابا سياسية ونقابات مهنية، وجمعيات وإدارات ترابية، وعلماء وفنانين ومثقفين، والشركاء المعنيين بقطاع التربية والتكوين"، وأن جلالة الملك سبق وأن أنذر في خطاب 20 غشت 2013 بما يهدد المنظومة التربوية من أخطار داهمة. فهل فشل 42 مشروعا للإصلاح يكمن في إفلاس اللغة العربية، أم في تجاهل مواد الميثاق المعتمد في صياغته على مقاربة وطنية تشاركية واسعة؟ إن اللغة العربية بريئة من مذبحة منظومتنا التعليمية، وعلى منظري الزمن البائس إعادة حساباتهم، فالبقاء للأصلح بدون أدنى مواربة...