الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقراء. الدنيا: هي حياتنا هذه التي نعيش فيها، وسميت دنيا لسببين: السبب الأول: أنها أدنى من الآخرة؛ لأنها قبلها كما قال تعالى:(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى:4). والثاني: أنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة، كما روى الإمام أحمد رحمه الله من حديث المستورد بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" موضع السوط: موضع العصى القصيرة الصغيرة في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها من أولها على آخرها، فهذه هي الدنيا. وذكر المؤلف رحمه الله آيات عديدة كلها تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يركن إلى الدنيا، أو يغتر بها، أو يلهو بها عن الآخرة، أو تكون مانعاً له من ذكر الله عزَّ وجل، منها قوله تعالى :(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) يعني: المطر( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) يعني أنبتت الأرض منه نباتاً متنوعاً مختلطاً متقارباً، ليس بينه فجوات ليس فيها نبات، كل الأرض نباتات بأنواع الأعشاب من كل زوج بهيج( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ) أي: كملت( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ )كأن لم تكن. وهذه هي الحياة الدنيا، واعتبر ذلك أنت في واقعك، كم من أناس عشت معهم عاشوا في هذه الدنيا عيشة راضية، وفي رفاهية وأنس وأولاد وزوجات وقصور وسيارات، ثم انتقلوا عنها، كأن لم يكونوا بالأمس، انتقلوا هم عنها،أو يأتي دنياهم شيء يتلفها، فكم من إنسان غني عنده أموال عظيمة أصبح فقيراً يسأل الناس. فهذه هي الدنيا، وإنما ضرب الله هذا المثل لئلا نغتر بها، فقال( كَذَلِكَ ) يعني : مثل هذا التفصيل والتبيين (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لمن عندهم تفكير في الأمور ونظر في العواقب. ثم قال:(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) (يونس:25) ، أي فرق بين هذه وهذه، دار السلام هي الجنة: أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها دار السلام وسميت كذلك؟ لأنها سالمة من كل كدر، ومن كل تنغيص، ومن كل أذى. لما ذكر الدنيا قال :(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) فإلى أيهما تركن أيها العاقل؟ لا شك أن العاقل يركن إلى دار السلام، ولا تهمه دار الفناء والنكد والتنغيص، فهو سبحانه وتعالى يدعو كل الخلق إلى دار السلام( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس:25). والهداية مقيدة، لم يقل: ويهدي كل أحد، ولكن قال:( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فمن هو الحقيق والجدير بهداية الله؟ هو من أناب إلى الله عز وجل، كما قال تعالى :(ُوَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(الرعد: 27) وقال تعالى:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )(الصف: الآية5)، فمن كان عنده نية طيبة وخالصة لابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فهذا هو الذي يهديه الله عزَِّ وجلَّ، وهو داخل في قوله:( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ثم ذكر المؤلف آيات أخرى مثل قوله(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)(الكهف: الآية45)، معناه: أن الحياة الدنيا كماء نزل على أرض فأنبتت، فأصبح هشيماً تذوره الرياح، يبس وصارت الرياح تطير به، هكذا أيضاً الدنيا. وقال تعالى:(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ )(الحديد: الآية20). هذه خمسة أشياء كلها ليس بشيء : لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، مثالها:( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(الحديد: 20)، أعجب الكفار ؛ لأن الكفار هم الذين يتعلقون بالدنيا وتسبي عقولهم الدنيا، فهذا نبات نبت من الغيث فصار الكفار يتعجبون منه من حسنه ونضارته:( أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)(الحديد: 20)، ويزول وينتهي الآخرة (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ )(الحديد:20). فأيهما تريد؟ تريد الآخرة؛ فيها عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا على الآخرة، وفيها مغفرة ورضوان لمن آثر الآخرة على الدنيا. والعاقل إذا قرأ القرآن وتبصر؛ عرف قيمة الدنيا، وأنها ليست بشيء، وأنها مزرعة للآخرة، فانظر ماذا زرعت فيها لآخرتك؟ إن كنت زرعت خيراً؛ فأبشر بالحصاد الذي يرضيك، وإن كان الأمر بالعكس؛ فقد خسرت الدنيا والآخرة، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية. * * * وأما الأحاديث فأكثرُ من أن تحصر فننبهُ بطرف منها على ما سواه. 1/457- عن عمرو بن عوفِ الأنصاري رضي الله عنهُ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصارُ بقُدوم أبي عُبيدةَ ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا لهُ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال:" أظنكم سمعتُم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟" فقالوا: أجل يا رسول الله ، فقال: "أبشرُوا وأملُوا ما يسركم، فو الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه. 2/458- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهقال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المِنبر، وجلسنا حولهُ، فقال:" إن مما أخافُ عليكم من بعدي ما يفتحُ عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" متفق عليه 3/459- وعنه رضي اللهُ عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال:" إن الدنيا حُلوة خضرةٌ، وإن الله تعالى مُستخلفكم فيها فينظرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" رواه مسلم
الشرح هذه الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله في باب الزهد في الدنيا والترغيب فيه، وقد ذكر قبل ذلك آيات متعددة كلها تدل على أن هذه الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة، وأنها ممر ومزرعة للآخرة، فإن قال قائل: يقال ورع، ويُقال زهد، فأيهما أعلى؟ وما الفرق بينهما؟ فالجواب أن الزهد أعلى من الورع، والفرق بينهما أن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع، فالأشياء ثلاثة أقسام: منها ما يضر في الآخرة، ومنها ما ينفع، ومنها ما لا يضر ولا ينفع. فالورع: أن يدع الإنسان ما يضره في الآخرة، يعني أن يترك الحرام. والزهد: أن يدع ما لا ينفعه في الآخرة، فالذي لا ينفعه لا يأخذ به، والذي ينفعه يأخذ به، والذي يضره لا يأخذ به من باب أولى، فكان الزهد أعلى حالاً من الورع، فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهداً. ولكن حذر النبي عليه الصلاة والسلام من أن تفتح الدنيا علينا كما فتحت على من كان قبلنا فنهلك كما هلكوا. لما قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، وسمع الأنصار بذلك، جاءووا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافوه في صلاة الفجر ، فلما انصرف من الصلاة تعرضوا له فتبسم عليه الصلاة والسلام، يعني ضحك، لكن بدون صوت، تبسم لأنهم جاءوا متشوفين للمال. فقال لهم:" لعلكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة من البحرين؟" قالوا: أجل يا رسول الله . سمعنا بذلك يعني وجئنا لننال نصيبنا. فقال عليه الصلاة والسلام:"ما الفقر أخشى عليكم"الفقر لا أخشاه . والفقر قد يكون خيراً للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال:"إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى"، يعني : أطغاه وأضله وصده عن الآخرة والعياذ بالله ففسد،" وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر". فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"ما الفقر أخشى عليكم" يعني: لا أخشى عليكم من الفقر؛ لأن الفقير في الغالب أقرب إلى الحق من الغني. وانظروا إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ من الذي يكذبهم؟ يكذبهم الملأ الأشرار الأغنياء، وأكثر من يتبعهم الفقراء، حتى النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من يتبعه الفقراء. فالفقر لا يخشى منه ، بل الذي يخشى منه أن تبسط الدنيا عليهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:" أخشى أن تبسط عليكم - يعني كما بسطت على من كانوا قبلنا، فتهلككم كما أهلكتهم". وهذا هو الواقع، وأنظر إلى حالنا نحن هنا- يعني في المملكة- لما كان الناس إلى الفقر أقرب، كانوا لله أتقى وأخشع وأخشى، ولما كَثُر المال؛ كثُر الإعراض عن سبيل الله ، وحصل الطغيان، وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها... سيارة ، بيت، فرش، لباس، يباهي الناس بهذا كله، ويعرض عما ينفعه في الآخرة. وصارت الجرائد والصحف وما أشبهها لا تتكلم إلا بالرفاهية وما يتعلق بالدنيا، وأعرضوا عن الآخرة، وفسد الناس إلا من شاء الله. فالحاصل أن الدنيا إذا فتحت- نسأل الله أن يقنا وإياكم شرها - أنها تجلب شرًّاً وتطغي الإنسان (كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى) (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6). وقد قال فرعون لقومه :(يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (الزخرف:51) ، افتخر بالدنيا ، فالدنيا خطيرة جداً. وفي هذه الأحاديث أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن الدنيا حلوة خضرة" حلوة المذاق، خضرة المنظر، تجذب وتفتن، فالشيء إذا كان حلواً ومنظره طيباً فإنه يفتن الإنسان، فالدنيا هكذا حلوة خضرة حلوة في المذاق، خضرة في المنظر. ولكن:" وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" يعني جعلكم خلائف فيها؛ يخلف بعضكم بعضاً، ويرث بعضكم بعضاً." فينظر كيف تعملون" هل تقدمون الدنيا أو الآخرة؟، ولهذا قال:" فاتقوا الدنيا واتقوا النساء". ولكن إذا أغنى الله الإنسان ، وصار غناه عوناً له على طاعة الله ، ينفق ماله في الحق؟، وفي سبيل الله؛ صارت الدنيا خيراً. ولهذا كان رجل الدنيا الذي ينفق ماله في سبيل الله، وفي مرضاة الله عز وجلّ، صار ثاني اثنين بالنسبة للعالم الذي آتاه الله الحكمة والعلم وصار يعلم الناس. فهناك فرق بين الذي ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله، ويكون غناه سبباً للسعادة والإنفاق في سبيل الله( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة: 201)