الملك محمد السادس يعين عددا من السفراء الجدد    جلالة الملك يستقبل وزراء الشؤون الخارجية بالبلدان الثلاثة الأعضاء في تحالف دول الساحل    رسائل مؤتمر "العدالة والتنمية".. تنصيب "الزعيم" والخوف من المستقبل    انقطاع الكهرباء في إسبانيا يربك مطارات المغرب.. والمكتب الوطني يتدخل لاحتواء الأزمة    انقطاع الكهرباء في إسبانيا والبرتغال وفرنسا يوقف خدمة الإنترنت لشركة أورونج في المغرب    فاتح شهر ذي القعدة لعام 1446 هجرية غدا الثلاثاء 29 أبريل 2025    جلالة الملك يهنئ السيد عبد الإله ابن كيران بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية    التوفيق: إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة للقيمين الدينيين في 2024 بلغ مليارين و350 مليون درهم    وزير العدل.. مراجعة الإطار القانوني للأسلحة البيضاء أخذ حيزا مهما ضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي    "الأخضر" ينهي تداولات البورصة    رئيس الحكومة الإسباني.. استعدنا التيار الكهربائي بفضل المغرب وفرنسا    برلمانات الجنوب العالمي تعوّل على منتدى الرباط لمناقشة "قضايا مصيرية"    الرباط.. انعقاد الاجتماع ال 11 للجنة العسكرية المشتركة المغربية-الإسبانية    تداعيات الكارثة الأوروبية تصل إلى المغرب .. أورنج خارج التغطية    مهنيو الصحة بأكادير يطالبون بحماية دولية للطواقم الطبية في غزة    الكهرباء تعود إلى مناطق بإسبانيا    قضايا الإرهاب .. 364 نزيلا يستفيدون من برنامج "مصالحة"    ‪بنسعيد يشارك في قمة أبوظبي ‬    دوري أبطال أوروبا.. إنتر يواجه برشلونة من دون بافار    التحالف الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي يؤكد دعمه للوحدة الترابية للمملكة ويرفض أي مساس بسيادة المغرب على كامل ترابه    الرياح القوية تلغي الملاحة البحرية بميناء طنجة المدينة    أورونج المغرب تعلن عن اضطرابات في خدمة الإنترنت بسبب انقطاع كهربائي بإسبانيا والبرتغال    يضرب موعد قويا مع سيمبا التنزاني .. نهضة بركان في نهائي كأس الكونفيدرالية الإفريقية للمرة الخامسة في العقد الأخير    أزيد من 3000 مشاركة في محطة تزنيت من «خطوات النصر النسائية»    نزهة بدوان رئيسة لمنطقة شمال إفريقيا بالاتحاد الإفريقي للرياضة للجميع    بوتين يعلن هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أيام    توقف حركة القطارات في جميع أنحاء إسبانيا    الدار البيضاء.. توقيف عشريني بشبهة الاعتداء على ممتلكات خاصة    منتدى الحوار البرلماني جنوب- جنوب محفل هام لتوطيد التعاون بشأن القضايا المطروحة إقليميا وقاريا ودوليا (ولد الرشيد)    منظمة الصحة العالمية: التلقيح ينقذ 1.8 مليون شخص بإفريقيا في عام واحد    لماذا لا يغطي صندوق الضمان الاجتماعي بعض الأدوية المضادة لسرطان المعدة؟    مزور يؤكد على التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين في إطار المنتدى الصيني العربي    هشام مبشور يفوز بلقب النسخة الثامنة لكأس الغولف للصحافيين الرياضيين بأكادير    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    403 ألف زاروا المعرض الدولي للكتاب بمشاركة 775 عارضا ينتمون إلى 51 بلدا    فعاليات المناظرة الجهوية حول التشجيع الرياضي لجهة الشرق    مصر تفتتح "الكان" بفوز مهم على جنوب إفريقيا    ترايل أمزميز.. العداؤون المغاربة يتألقون في النسخة السابعة    ندوة توعوية بوجدة تفتح النقاش حول التحرش الجنسي بالمدارس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    انطلاق جلسات استماع في محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية    الذهب يهبط وسط انحسار التوتر بين أمريكا والصين    خط جوي مباشر يربط الدار البيضاء بكاتانيا الإيطالية    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    كيوسك الاثنين | قرار وزاري يضع حدا لتعقيدات إدارية دامت لسنوات    ثروة معدنية هائلة ترى النور بسيروا بورزازات: اكتشاف ضخم يعزز آفاق الاقتصاد الوطني    شهادات تبسط مسار الناقدة رشيدة بنمسعود بين الكتابة والنضالات الحقوقية    "جرح صعيب".. صوت عماد التطواني يلامس وجدان عشاق الطرب الشعبي    مي حريري تطلق " لا تغلط " بالتعاون مع وتري    العرائش: عزفٌ جنائزي على أوتار الخراب !    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حتى لا تشكو من عقوقهم
نشر في أخبارنا يوم 11 - 02 - 2012


عمر بن عبد المجيد البيانوني
بسم الله الرحمن الرحيم

إن انتشار ظاهرة العقوق وتفشيها في المجتمعات أصبح أمراً لافتاً للنظر، لا بدَّ من الوقوف عنده والعمل على علاجه، مع أنه من المنطقي والواقعي أن يكون هناك محبة عظيمة بين الوالدين وأبنائهم، لأنَّ الوالدَيْن غالباً ما يكونوا هم أكثر من أحسن إلى الأولاد، والنفوس مجبولة على حبِّ مَنْ أحسن إليها، فلماذا يعقُّ الأبناء أو البنات والديهم؟
إنَّ كثيراً من النَّاس يعرفون الحقوق التي لهم، أما التي عليهم فيجهلونها أو يتجاهلونها، فترى الواحد منهم يلوم الآخر على التقصير في حقه، وهو أحق باللوم منه.
فكثيراً ما تسمع الرجل يشكو من عقوق أبنائه، لكن قليلاً منهم من يحاسب نفسه، هل هو كان السبب في عقوقهم؟ لأن تصرفات النَّاس معنا غالباً ما تعكس طريقة تعاملنا معهم.
فما قلبُ الصغيرِ سوى كتابٍ... تُسَطَّرُ في صحائفه الخلالُ
كما قال الإمام الغزالي رحمه الله: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلِّ نقش وصورة، وهو قابلٌ لكلِّ ما نقش، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمَال به إليه، فإنْ عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإنْ عُوِّد الشر، وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له ([1]).
فلا ينبغي لأحدٍ أنْ يُطالِب بحقِّه قبل أن يؤدي واجبَه، فالذي يشكو من عقوق أولاده قد يكون هو الذي قد قصَّر في تربيتهم على الدين والأخلاق، أو قد يكون مقصراً في الجانب العاطفي معهم، أو يتعامل معهم بشدة غير مقبولة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللهُ وَالِداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ) ([2]).
فمن الآباء والأمهات من يتعامل مع أولاده بأي سلوب سواء كان حسناً أو قبيحاً، ويخطئ في حقهم بما يشاء، وقد ينتقم بعضهم بسبب ما يمر به من ظروف صعبة بالإساءة إلى أولاده إما بالكلام أو الضرب وغيره بحجة تربيتهم، وقد يكون خطؤهم يسيراً لو فعلوه في وقت آخر لما عوقبوا بذلك، وإنما هي الحالة السيئة التي كان فيها أحد والديه.
وقد أخبرني مَنْ أثق به أنَّ بعض الآباء عندما يعود من عمله إلى البيت وتشكو زوجته من أخطاء بعض أبنائه، يتركهم ولا يتصرف معهم بشيء، فإذا عاد من أحد منهم خطأ أو تقصير مرة أخرى وكان الأب مُكدَّرَ الخاطر مُعكَّرَ المزاج، يقوم بضربهم جميعاً، ويكون الذي أخطأ هو واحد منهم وليس جميعهم، فإنْ لامه أحد قال: قد غضبت الآن وليس كل مرة سأغضب نفسي وأضربهم.
وله بعض العذر في ذلك إن كان يراهم – وما أظنه كذلك - كنفس واحدة يجب أن يأخذوا بيد المسيء ويمنعوه، ولعله أخذ بنظرية جحا كما يحكى عنه أنه حذَّر ابنه من كسر الزجاج ثم ضربه، فقيل له: لماذا تضربه ولم يكسر شيئاً؟ قال: ما الفائدة من ضربه إذا كسر الزجاج، أنا أضربه قبل ذلك حتى يأخذ حذره.
وقد يتهاون أحدهم فيدعو على ولده في ساعة غضب، ولا يدري أن هذه الدعوة قد تكون وبالاً عليه وسبباً لفساده، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: (لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) ([3]).
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوت عليه؟ قال: نعم. قال: أنت أفسدته.
وقد يستنكر أحدهم من أولاده سلوكاً سيئاً فتأخذه الحمية لدين الله فيبالغ في تعنيف ولده ويشنع عليه بطريقة غير مقبولة، فيقع في خطأ أكبر من خطأ ولده الذي يستنكر عليه، وقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وقد أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أنْ يقولا لفرعون قولاً ليناً مع أنه قد تجاوز الحدَّ في كفره وطغيانه، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنَاً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وقال أبو عون الأنصاري: «ما تكلم الناس بكلمة صعبة، إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجرى مجراها».
وقال أبو حمزة الكوفي: «واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه».
نعم يجب على الأولاد البر بالوالدين حتى لو أساؤوا، فليس البر مقتصراً على مقابلة الإحسان بالإحسان، إذ الإحسان لمن أحسن يكون لكل النَّاس حتى من غير المسلمين فقد قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين حتى لو كانا كافرين: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنيا مَعْرُوفاً}، وليس هناك ذنب أعظم من الكفر، فإذا كانوا مفرطين في حق الله ومع ذلك أمر الله بالإحسان إليهم فكيف إذا كانوا مفرطين بحق الابن؟! فالإحسان إليهم من باب أولى.
لكن هذا لا يعني عدم التقدير للأولاد أو الإساءة إليهم من هذا المنطلق، وقد عاتب أعرابي أباه - وإنْ كان الابن البار لا يستحسن أن يقول مثل هذا – فقال له: «إنَّ عظيمَ حقِّك علي، لا يذهب صغير حقِّي عليك، والذي تمتُّ به إليَّ أمتُّ بمثله إليك، ولستُ أزعم أنَّا سواء، ولكن لا يحلُّ لك الاعتداء».
إن أعظم المربِّين والمعلمين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ) ([4]). فكيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؟
لقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على الرفق والرحمة واللطف، قال الله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) ([5]). وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الخَيْرَ) ([6]).
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَقَالَ: (تَعفُو عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً) ([7]).
وقالت عائشة رضي الله عنها: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِماً إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ» ([8]).
وقال أنس بن مالك «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ وَاللهِ مَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلا قَالَ لِي لِشَيءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا» ([9]).
إنَّ هذا التعامل الراقي هو الذي جعل زيد بن حارثة رضي الله عنه لا يريد بدلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء لفدائه والده وعمه، وخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبيه وعمه، قال زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً ([10]).
فإذا دَعَتْ قدرةُ أحد على الإساءة لمن يقدر عليه، فليتذكر يوم الجزاء وأن الله أقدر عليه من قدرته على مَنْ ظلمه، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ لي مملوكين يُكذِّبُونَنِي ويَخُونُونَنِي ويَعْصُونَنِي، وأضربُهُم وأسُبُّهُمْ، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُحسَبُ مَا خَانُوكَ وعَصَوْكَ ويُكَذِّبُونَكَ وعِقَابَكَ إيَّاهم، فإنْ كان عقابُكَ إيَّاهم دونَ ذنوبهم كانَ فضلاً لكَ عليهم، وإن كان عقابُكَ إيَّاهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً، لا لكَ ولا عليكَ، وإنَ كانَ عقابُكَ إيَّاهم فوق ذنوبهم، اقْتُصَّ لهم منك الفَضْلُ الذي بقي قِبَلَكَ، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما له؟ ما يقرأ كتاب الله: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إنِّي أُشهِدُكَ أنَّهُم أحرارٌ كلُّهم ([11]).
فإذا كان من يعاقب العبد المملوك إذا أساء أكثر مما يستحق، يعاقبه الله بقدر زيادته في العقاب ويقتص له، فكيف بغيره؟
وقال أبو مسعود البدري رضي الله عنه: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَماً لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ خَلْفِي (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ)، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قال: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ). قال: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي فَقَالَ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ). قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكاً بَعْدَهُ أَبَداً ([12]).وفي رواية: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَقَالَ: (أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ) ([13]).
فإذا مَلَك الوالدان قلوبَ أولادِهم بالمحبة والرفق وحسن التعامل، صار الأولادُ رهنَ إشارتهم، مطيعين لما يُؤمرون به، مبتعدين عما لا يريدونه منهم، كما قال الحُكماء: يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعنف، ألا ترى أنَّ الماء على لِينه يَقْطع الحجر على شِدَّته؟
أما إذا كان التعامل معهم بالقوَّة والعنف، فإنَّ هذا يورِّث فيهم هذا الأسلوب فيصير هذا شأنهم، وأول من يتضرَّر من ذلك: الأسرة التي يعيش فيها، وسرعان ما يتمرَّد الأولاد بهذا الأسلوب إذا لم يعد هناك سيطرة عليهم.
قال الشيخ محمد طاهر الكردي: (الاستبدادُ والقسوة يورثان البلادة والجفوة)، وقال أيضاً: (هضمُ الحقوق موجبٌ للعقوق).
فمن الأخطاء التي تحدث كثيراً هي: (التعامل بمنطق القوة لا بقوة المنطق)، وهذه كارثة يقع فيها أكثر من يملك سلطة معينة من صغير أو كبير.
وقد يتعامل أحدهم بهذا الأسلوب لاستعجاله وعدم صبره، ولما يرى من نفعه على المدى القريب، وعدم معرفته بما ينتج عنه من عواقب سيئة.
وفي هذه الأحداث التي تجري والثورات دليل على عدم صحة التعامل بهذا الأسلوب، فهو وإنْ نفع بشكل مؤقت إلا أنه على المدى البعيد ضرره أكبر من نفعه.
فعلى مَنْ ولي من أمر الناس شيئاً أن يكون حكمه بقوة المنطق والعقل والإقناع لا بمنطق القوة.
فالعنف يظهر عندما يصعب على الإنسان القدرة على الإقناع، فيلجأ للتعامل بالعنف والقهر، فحين يعجز العقل يتحدث الجسد.
ولهذا فإنَّ مَنْ يعجز عن إقناع الآخر هو شخص فقد الحجة والمنطق التي يقنع بها الآخرين، فلذلك عليه أن يزيد من وعيه وفهمه حتى يستطيع أن يقنع غيره، أو يقتنع هو بالرأي الآخر.
أيها الوالد وأيتها الوالدة، لا تكونوا سبباً في عقوق أبنائكم، لا تكونوا سبباً في فقدانهم لصوابهم وتورطهم بالعقوق، ووقوعهم في غضب الله وخذلانهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) ([14])، وقال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ([15]).
هذا وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.

--------------------------------------
([1]) إحياء علوم الدين 3: 72.
([2]) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 8: 357، (25924)، وهناد بن السري في الزهد (995).
([3]) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، (7705).
([4]) رواه أبو دواد في كتاب الطهارة (8).
([5]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، (6766).
([6]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، (6765).
([7]) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب في حق المملوك (5164)، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في العفو عن الخادم، (1949).
([8]) رواه مسلم في كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، (2328).
([9]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (5691)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً (6151).
([10]) الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 42، والاستيعاب في معرفة الأصحاب 2: 545، والإصابة في تمييز الصحابة 2: 599 .
([11]) رواه الترمذي (3165)، وأحمد في المسند (26933)، والبيهقي في شعب الإيمان 11: 86، والطبري في تهذيب الآثار 1: 429.
([12]) رواه مسلم في كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، (4396).
([13]) رواه مسلم في كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، (4398).
([14]) رواه أبو داود، في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم (1694)، وأحمد في المسند (6495)، والحاكم في المستدرك (1515).
([15]) رواه البخاري، في كتاب النكاح، باب المرأة راعية في بيت زوجها (5200)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (3408) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.