كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال . و كان الجو ربيعيا . أشعة الشمس الدافئة تتسلل إلى الأجسام ، فتبعث فيها لحيوية و النشاط . و الخضرة تملأ المكان . لقد كان كل شيء يغري بالخروج طلبا للإسترخاء و الترفيه عن النفس قليلا . التقيت بصديقي بديع . و انطلقنا في جولة بحثا عن الراحة و هربا من ضوضاء المدينة و تلوثها ، حتى وصلنا إلى مقهى الأصالة حيت كانت الأعشاب و الأزهار تلتف من حولنا . تبوأنا أحد الأماكن ، و بدأنا نتأمل في جمال الطبيعة ، ثم خذنا في الحديث في شتى المواضيع فمن البطالة و مشاكل الناس إلى التجارة و الإقتصاد ، مرورا بوضع الإسلام والمسلمين في هذا العصر ، وصولا إلى الشيعة و التاريخ الإسلامي ، دون أن ننسى الأدب و الثقافة العامة . بينما كنا نغوص في الحديث ، رن هاتف بديع . إنه عبد اللطيف الذي كان يعاني من أحد الأمراض الجلدية ، حيث غزت الصدفيات عنقه و يده اليمنى . و كان يطلب من بديع مرافقته إلى العين الساخنة ليستحم فيها أملا في أن يشفى من ذلك المرض اللعين . فأخبره بأن يلحق بنا إلى المقهى . بعد حين، وصل سعيد و مراد الذي لم أره منذ فترة ليست بالقليلة . تبادلنا التحية و الحديث حتى وصل عبد اللطيف وقد امتلئ حماسا استعدادا للذهاب إلى الهدف الذي ظل يراوده منذ أن فشلت كل الأدوية، التي وصفها الأطباء له، في محاربة تلك الصدفيات .
نظر عبد اللطيف في وجه بديع و قال له : هيا بنا .
فكر بديع قليلا ثم قال لنا: ما رأيكم بأن ترافقوننا إلى تلك العين الطبيعية ؟
لقد كنت عاشقا للطبيعة خاصة و أن الأمر يتعلق بالعين التي لطالما سمعت عنها و عن مفعولها الساحر تجاه كثير من الأمراض الجلدية. لكنني كنت مرتبطا بموعد في الساعة الخامسة و لم يبقى سوى أقل من ساعتين . لذلك كنت مترددا في قبول الدعوة . فطمأنني عبد الطيف و قال لي : لاتقلق فلن تخلف موعدك فهذه الرحلة لن تتعدى نصف ساعة بفضل سيارتي البيضاء .
بعد سماعي لهذه الكلمات ، لم يعد للتردد مكان في داخلي فقبلت على الفور، ثم انطلقنا بسرعة نحو العين الساخنة بعدما لم يمانع كل من سعيد و مراد .
جلست في المقعد الخلفي للسيارة ، و انطلقنا بسرعة . و بعد هنيهة ، شعرت بدوار في رأسي . فبدأ بديع يسخر مني و قال لعبد اللطيف : أسرع و لا توقف الفرامل حتى نصل بسرعة فهناك من لا يستطيع الصبر أكثر . لم أبالي به لأنني كنت أفكر في العين الساخنة .
و أخيرا وصلنا إليها. فرأيتها و يا ليتني ما رأيتها . فمن كثرة المديح الذي وصلني عنها ، تخيلتها كبيرة مترامية الأطراف ، نظيفة و ساحرة . لكنها لم تكن سوى فتحات صغيرة يخرج الماء منها و تشكل دائرة لا تتعدى مساحتها الثلاثين مترا مربعا. و الرائحة التي تنبعث منها كريهة تذكرني برائحة " الوادي الحار" السيء الذكر. و بينما كنت مندهشا مما شاهدته ، مددت بصري قليلا فإذا بعبد اللطيف و قد خلع ملابسه منطلقا بسرعة نحوها . غير مكثرت لمنظرها . فما يهمه غير ملامسة مياهها الدافئة . أخذ يستحم و يستمتع بها استمتاعا كبيرا . و من عينيه يتطاير الأمل في كل جانب .
كان الناس يحيطون بها من كل جهة . فالمياه تخرج من الأرض ، و ترتفع قليلا ، ثم تنزل مترنحة نحو أجسام المتعطشين لها و لدفئها و لدوائها الفعال. فمنهم من يدعك جسمه ، و منهم من يغمض عينيه مسترخيا و الماء ينهمر من فوق رأسه ، و منهم من يعرض ابنته الصغيرة للماء الدافئ و هي تصرخ خائفة ، و منهم من يملئ قنينة كبيرة بالماء . فالكل يريد أن يأخذ نصيبه منها و يستفيد من فوائدها الجمة. فأكثر ما شد انتباهي تهافثهم على هذه النعمة الربانية الهائلة .
دعانا عبد اللطيف للإستحمام بمائها ، فلم يتحمس أحد غير سعيد الذي لم يصبر على الحضور إليها دون أن يستمتع بها . أما نحن فقد أحضر لنا قنينة من مياهها . غسلنا بها ايدينا و وجوهنا . ثم بدأنا نتحدث عن سر دفئها ودوائها فقال مراد : إني أعتقد أن عمقها الكبير الذي يتعدى خمسمئة متر هو السبب في سخونتها . أما تأثيرها الفعال تجاه الأمراض الجلدية فيعود للمواد التي توجد فيها منها الكبريت الذي يقهر الطفيليات التي تنمو في جلد الإنسان .
فقلت سبحان الله الذي يخرج من الأرض ماءا دافئا فيه شفاء للناس و رحمة لهم .
أما بديع فقد كان منشغلا بالتفكير في طريقة للإستحمام بماءها المبارك لكن بعيدا عن مكانها هذا المقزز ، فصاح قائلا : يا ليتنا أحضرنا برميلا ، لأخذناه معنا ممتلئا بالماء الساخن لنستحم به في بيوتنا .
قلنا له لا تحزن خذ القنينة الآن ، و إذا برد الماء الذي فيها سخنه ثم توضا به . و في المرة القادمة سنحضر لك البرميل الذي تحلم به .
تبسم قليلا ، ثم طلب من سعيد أن يملئ له القنينة بماء العين الساخنة .لكن سعيدا لم يكن يجيد ملأها . فأخذها منه أحد المستحمين الذي كان بارعا في ملئ القنينات ذات الفوهة الصغيرة .امتلئت القنينة ثم أعطاها لبديع الذي شكره على حسن صنيعه .
و بينما كنا نستعد لرحلة العودة ، آثارت انتباهنا خيمة صغيرة تباع فيها بعض المأكولات الخفيفة لزوار العين . فقال بديع : إنه مشروع مربح خاصة و أنه يوجد في هذا المكان الدائع الصيت .
فقلت له : لا ريب في ذلك يا بديع . لكن ، ألا ترى تواضعها الذي ينم على تواضع هذه العين ؟ فلو اعتني بها قليلا و كانت نظيفة و أكثر تنظيما . لعرفت إقبالا كبيرا ، و لتطور هذا المشروع ، و لكان أكثر ربحا و مدخولا.
و بعد أن حقق الهدف الذي جاء من أجله ، هممنا بركوب سيارته . و قبل أن أركب طلبت من بديع أن يبادلني مقعده . فجلس في المقعد الخلفي بينما جلست في المقعد الأمامي . لقد كان المقعد الذي جلست فيه هذه المرة مريحا ، فلم أشعر بالدوار . غير أن بديع طلب من عبد اللطيف الإسراع دون فرملة فقد بدأ يشعر بالدوار. فضحك الجميع عليه ثم قلت له : عليك ألا تسخر أو تستهزئ من أحوال الآخرين ، فقد تكون حالتك مثلهم لو كانت ظروفك و أوضاعك مثل ظروفهم و أوضاعهم .
تبسم ثم رد علي قائلا : معك حق يا صديقي ، لا يجب أن نسخر من بعضنا البعض ، و علينا أن نطلب من الله العفو و العافية . فلا أحد يضمن بقاء حالته كما هي ، فدوام الحال من المحال .
لم تتوقف سيارة عبد اللطيف إلا أمام مقهى الأصالة . لنعود من حيث أتينا و قد صارت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال . طلبنا إبريق شاي ، ثم بدأنا نتحدث عن هذه الرحلة القصيرة .فأكثر ما أحزنني فيها هو منظرها المقرف . فإذا كان الله قد أنعم علينا بخيرات من الطبيعة و أخرج من الأرض ماء يداوي الناس ، فإن المسؤولين عنها أهملوها فصارت نسيا منسيا .فما أكثر خيراتك يا بلدي . و ما أقل الإهتمام بك و بأبنائك .
اقتربت الخامسة . ودعت الجميع ، ثم انطلقت مسرعا لألحق موعدي. و في الطريق، ظلت أسئلة تحيرني و تزعج ذهني : ما الذي سنخسره لو أننا قمنا بتبليط المكان الذي تحيط به العين الساخنة ؟ و بنينا حمامات للإسترخاء و للإستحمام ؟ و شيدنا منتزهات بالقرب منها ليستريح فيها الزوار ؟