تعيش التمثيليات النقابية أزمة غير مسبوقة، فسرعان ما وجدت نفسها مُستبعدة وغير مرغوب فيها من طرف هيئات الشغيلة خصوصا في قطاع التعليم. الاحتجاجات التي أفرزها خروج النظام الأساسي لوزارة التربية الوطنية من طرف أغلب الفئات المكونة للشغيلة التعليمية وسَخَطِها عن مُخرَجَاته التي عَززت من امتيازات فئات على حساب أخرى. هذه الفئوية المستفحلة، كان يُراد بها تقسيم وإضعاف كتلة الشغيلة التعليمية، لكن الأمور انقلبت على غير المتوقع واتخذت كل فئة مسارا مستقلا من خلال تأسيس تنسيقيات منفصلة تنأى بنفسها عن الانتماء للنقابات للدفاع عن مصالحها الفئوية. المسارعة إلى إنشاء تنسيقيات كبديل عن النقابات، جاء نتيجة مُعطيات موضوعية ملموسة، تتمثل في نجاح تنسيقية الأساتذة المتعاقدين في إرغام الحكومة على اتخاذ خطوات متقدمة نحو الحل، وكذا تمكن نقابة المفتشين المستقلة عن باقي النقابات من تلبية أغلب مطالبها في جل المحطات التي تدخل الوزارة الوصية في مفاوضات مباشرة معها. إن المتأمل للوضع الداخلي الذي تعيشه النقابات، يبدأ بتقلد قيادات طاعنة في السن تغيب عنها الكاريزما القيادية والقدرة على الدفاع عن أراءها المستقلة ومُجابهة ضغوط الحكومات، مرورا بتبعية أغلبها للأحزاب السياسية، وصولا إلى تطويقها بملفات فساد مالي، نتيجة لحصولها على دعم من الدولة بالمليارات. هذا الوضع يجعل من الصعب على أغلب النقابات أن تكون أمينة في الدفاع على مصالح شغيلتها، ويجعلها تُوقع وتَقبل باليسير وتعتبره إنجازا ونصرا لا يشق له غبار، على خلاف الهدف الذي وجدت من أجله النقابات حسب مقتضيات الفصل الثامن من الدستور وهي الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها، وفي النهوض بها. خروج فئات الشغيلة التعليمية للاحتجاج مؤخرا، يعني أن الحوار بين النقابات والحكومة لم يكن حوارا حقيقيا بل مجرد تفاهمات لتمرير قرارات أحادية، وبالتالي فمخرجات النظام الأساسي لوزارة التربية الوطنية ليست نابعة من مطالب وانشغالات الشغيلة التعليمية. المشهد الماثل أمامنا اليوم، هو نقابات شبه فارغة من المناضلين، وبدون امتداد جماهيري ولا تتوفر على قواعد صلبة في الساحة الوطنية، مما يُظهرها في صورة العاجزة عن التحكم في وتيرة الاحتجاج. الوزارة الوصية تَرفض التفاوض مع التنسيقيات وبالتالي لا تَعترف بها ولا تريد إلبَاسَها لُبوسا قانونيا، على الرغم من تزايد وزنها وكتلة حضورها في ساحة الاحتجاج، سعيا لإنقاذ ماء وجه النقابات التي سحب البساط من تحت أرجلها، وتفادي الدخول في مفاوضات مع تنسيقيات تصدر قراراتها بناء على مبادئ التشاور والرجوع إلى القواعد قصد الحسم في قراراتها وفق الآليات الديمقراطية على عكس النقابات التي يسهل احتوائها. هنا سيطرح التساؤل العريض، مع من ستتحاور الحكومة في ظل تهديد مجموعة من التنسيقيات الفئوية لخوض سلسلة من الاحتجاجات والإضرابات، مما يُنذر ويهدد الموسم الدراسي للتلاميذ والتلميذات بانتكاسة جديدة. موضة التنسيقيات والتكتلات الفئوية، امتدت إلى المسؤولين في القطاع، حيث يتم الحديث عن عزم بعضهم إنشاء تكتل في خطوة غير مسبوقة للمطالبة برفع التعويضات تماشيا مع إقرار الزيادات الجديدة في صفوف المفتشين ومديري المؤسسات، وهو ما أفرز وضعا إشكاليا، أصبح فيه المرؤوس يتقاضى تعويضات أكثر من الرئيس. أمام هذا الوضع، الوزارة الوصية في مواجهة خيارات أحلاها مر، إما الاستمرار والإصرار على تنزيل القانون الأساسي الجديد بعد خروجه في الجريدة الرسمية كإنجاز يُحسب للوزير الجديد، على الرغم من تصاعد احتجاجات الشغيلة، والرهان على عامل الوقت لخفوت وهج الاحتجاجات، ومحاولة إقناع شركائها على أن الظرفية الاقتصادية المالية الصعبة للبلاد، تسمح فقط بما تم تحقيقه كحد أقصى، وإما إرجاء تنزيل هذا المرسوم إلى إشعار آخر، في انتظار إجراء بعض التعديلات خصوصا وأن بعض النقابات التي وقعت الاتفاق تراجعت عنه تحت الضغط، وإما أن ترضخ الوزارة لضغوط التنسيقيات وتقبل بفتح الحوار معها في ظل انفلات الأمر من يد النقابات "الاكثر تمثيلية" وعجزها عن التحكم في ضبط أشكال الاحتجاج، وقد تتحول للعب دور الوسيط بينها وبين الوزارة، وهو أمر مازالت ترفضه تلك التنسيقيات. إذا كان خروج النظام الأساسي للشغيلة التعليمية، كان يُراد به حل المشاكل العالقة، فإنه على العكس من ذلك أثار فتنة بين فئاتها، واحتجاج أغلب الفئات التعليمية يشير إلى أن صياغته غير مدروسة ومتسرعة، وأعطت صورة أن الفئات القوية في القطاع شَرعت لنفسها قوانين تعزز امتيازاتها ومكاسبها، في حين وجد الاستاذ نفسه كحلقة أضعف من أكثر الضحايا تضررا بأجر زهيد لا يوازي مكانته الاعتبارية في المجتمع.