وأنا أتسلل إلى ذاكرتي عبر نوستالجيا حفلات الأعراس في الماضي القريب،قبل ظهور مهنة "منظم الحفلات " و"العمارية" وحتى المثلجات ... حيث كانت نساء العائلة والجيران يتكلفون بكل شيء تقريبا،وكل فرد يؤدي مهمته بشكل دقيق احتراما لنظام "ثويزا"،هذا النظام الذي كان معمولا به في شتى مناحي الحياة ، حيث نرصد بوضوح الأدوار الإجتماعية للأفراد والعائلات . وأنا أفكك هذا الزخم من الأحداث التي مرت بذاكرتي هذا الرجل الضخم الذي كان يتدحرج على منحدر وهو يحمل قطعة كبيرة من اللحم بين يديه وقطعتين متوسطتين من البطيخ في جيبه الأيسر بينما جعل جيبه الأيمن مكانا محصنا لحبات الموز والتفاح – وهي الفواكه النادرة آنذاك ورمز اليسر والغنى- هذا الرجل الذي يمكن التعرف عليه من بعيد من خلال بوابة أنفه ووجهه المستطيل وجبهته العريضه،و...طبعا كرشه الكبيرة –مستودع الأسرار- والتي تسبق خطواته بمسافة ليست بالقصيرة لتشكل حاجزا طبيعيا بين رأسه ورجليه المنتفختين مثل بطنه تماما!!إذ ليست له أية معايير لالتهام كل ما يجده أمامه ، وتبقى كلمة " الزرود" هي للشغل الشاغل لصاحبنا ويحبها حبا جما ، وحين يحضر الطعام لايكترث بأية دلالة أو تسويق خطابات انتخابية أو غيرها ،وهمه الوحيد هو الاستهلاك الخام لإشباع غريزة الأكل ،الأكل فقط !!.ويعمل على قاعدة "مثلث" الطعام الذي أشار إليه "كلود ليفي شتراوس " : المشوي والمبخر والمدخن.بدون أية اعتبارات انتربولوجية حول أهمية العادات الغذائية لقراءة ثقافة المجتمعات، لا يعنيه ذلك ولا يعرفه مما يعقد البحث عن الشفرة الغذائية لهكذا ممارسات غذائية. التقيته مرة في إحدى الأسواق الأسبوعية داخل خيمة /مطعم يتناول السردين المشوي –وهو البطل بدون منافس نعلى مدار سنوات ،لمسابقات التحدي داخل دكاكين البادية من قبيل تناول كمية كبيرة من قطع الجبن أو عدد كبير من البيض أو شرب زجاجة من المشروبات الغازية في نفس واحد.......! كما كان مولعا بشراء أوراق اليانصيب، سألته مرة :ماذا ستفعل إن فزت بجائزة اليانصيب ؟ فقال دون تردد : سأشتري مطعما ضخما خاص بالأكلات الشعبية!!
مؤخرا بدا لي حزينا لأنه كما قال توقفت "الزرود"منذ ظهر الجائحة،وأنه يمر بأزمة نفسية بسبب فتور الناس عن إقامة الأعراس كما كان في السابق.أبديت تضامني معه في هذه المحنة وحاولت أن أخفف عنه كون الجائحة تراجعت وان موسم الأعراس سينطلق هذا الصيف وعودة الجالية المقيمة بالخارج،فانتعش وجهه وتهلل وقال باندفاع واضح لا بد وأن يحدث هذا وإلا....! فتساءلت مع هذا التهديد عن العلاقة بين السلوك الاستهلاكي لهذا الرجل وبين القيم المنادية لحماية البيئة!!