" التعلم لا يقتصر فقط على حفظ الكلمات باستخدام الذاكرة ، فلا يمكن استيعاب أفكار الآخرين إلا من خلال التفكير ، وهذا التفكير هو تعلم أيضًا ". فريدريش هيغل (1770 - 1831). الحلقة الاولى ما أن نبدأ في الكلام عن حاضر المغرب ، و البحث في جذور معاني التراجعات و الانكسارات التي تسجل في مجالات المعيش اليومي، حتى نعثر على خطابات و آراء ، متضاربة أحيانا، ومتفقة أحيانا أخرى في معالجة هذا السؤال. هناك من يقول إن واقع الحال المغربي أضحى عصيا على الفهم ، و بالتالي هناك شيء ما غير مفهوم في تاريخ البلد. عدم الفهم هو تحصيل حاصل في مجال العلوم.
المغرب يعرف بل وعرف ويلات و كبوات عدة غير مفهومة ، وهي الحافز طبعا الى البحث و المزيد من النبش في المسكوت عنه و المجهول أيضا . فهل فهمت بما فيه الكفاية جذور و أسباب حرق كتب الفيلسوف ابن رشد مثلا ؟ وهل فهمت كذلك أبعاد الحماية و الاستعمار الفرنسي و شروطها التاريخية ؟ وهل فعلا، أخدت العبرة في إخراج جثة صاحب " تهافت التهافت"، من قبرها المراكشي ، و حملها على بعير ، في ذلك المشهد الرهيب و الجنازة الغريبة ، (هناك حكاية يرويها ابن عربي عن هذه الواقعة ) لدفن الفيلسوف وللمرة الثانية في قرطبة ؟
اختيارنا لهذه التأملات البسيطة ، هو محاولة للتفكير في سؤال المغرب ورهاناته ، أمام ما يقع يوميا من أحداث صعبة و معقدة تواجه الفرد المغربي كل يوم ، و الانسان في كل بقاع العالم .
في سؤال الاستقلال يبدو لي، عندما أقرأ نصوص الباحثين في العلوم الانسانية (مغاربة و مستشرقين) عن المغرب أن هناك حلقات ضائعة لم تفهم بعد في مسار تطورات المغرب التاريخية بداية الاستقلال. تلك الحلقات تقع في سياق المفارقة و التعارض بين الأحداث في ما يخص سؤال البدايات. لننصت الى كلام الانثربولوجي الأمريكي ديل ف. إيكلمان وهو يستحضر ما قاله د. عبدالله العروي عن الاستمرارية . يقول العروي :" إن الحكومة المغربية لم تكن استئنافا لماضي ما قبل الاستعمار، لكنها كانت استمرارا لنظام الحماية ". هذا الكلام وإن اتفق معه ايكلمان ، فإنه يعود ويعقب عليه : "إن هذه الاستمرارية لم تكن بادية لأولئك الاشخاص الذين عايشوا أحداث تلك الفترة التي طبعها العنف في أغلب الاحيان. فجل أسر الاعيان التي تمتعت بالنفوذ في عهد الحماية ، استمرت دون استثناء في مكانها بعد الاستقلال ( لابد من العودة هنا الى فصل " السياسة و الدين"، من كتاب المعرفة و السلطة في المغرب لديل ايكلمان). هذا الأمر ظل مفتوحا على البحث حتى نفهم وقائعه و مضامين خفاياه . التأريخ هو صناعة وقائع و تهديم أخرى . يحاول ايكلمان النبش في الوهم أو عدم الفهم ، بأدواته الانثربولوجية وهو يستحضر سيرة مثقف من البادية في القرن العشرين، كما حاول آخرون بأدواتهم المنهجية في مختلف العلوم الاجتماعية ، البحث عن المعاني المجتمعية في مغرب الأمس و اليوم . تتوضح الرؤية أكثر، عندما نلقي بنظرتنا التي تهدف التحليل بمنظار متعدد المقاربات. إننا لا نرى بحواسنا (الحواس خداعة كما يقول ديكارت)، بل بما نصنعه بمعارفنا و نظرياتنا و مناهجنا و ملاحظتنا التي هي من يصنع واقعا ما. هذا لا يعني أننا نبتعد عن الواقع بقدر ما نقترب منه عن طريق قراءته قراءة مغايرة .
هذه منطلقات قد تمكننا من فهم حالة الاستقلال في أبعادها المختلفة . لحظة الاستقلال هي حاملة لمعاني زئبقية مفتوحة على أكثر من معنى. د. العروي وبعد عقود من الزمن والبحث التاريخي يستحضر شبابه كطالب جامعي، تتجاذبه ثلاثة تيارات في فهم معاني الاستقلال : التحرر من الحماية، التوق الى الاستقلال وضرورة الاصلاح الجوهري القبلي، لأن الاستقلال لا يعني شيئا ، فهو يرمي فقط لتقوية مصالح الطبقة المسيطرة . لكن اليوم يقول العروي : " بما أن لفظ الاستقلال لفظ مشترك يحمل معاني شتى يمكن القول إن الحركة الوطنية المغربية حققت هدفها الاساس بفسخ عقد الحماية، وفي الوقت ذاته لم تحققه، بمجرد الإعلان عن هذا الاستقلال ، إذ الفرد المغربي لا يزال يعاني من آلام الفقر والجهل و المرض."( عبدالله العروي ، استبانة، ص 130) هذا سؤال مفتوح على كل الإحتمالات . لحظة الاستقلال كدلالة و ممارسة في الواقع تتغير ، و الإمساك بها بشكل عميق في ظل ما نتوفر عليه من وثائق و كتابات و أبحاث هو أمر الى حد ما أمر صعب . يستمر البحث و تستمر القراءات/ التأويلات .
في سؤال المجتمع يعرف الباحثون في علم الاجتماع مقولة بول باسكون عن المجتمع المغربي الذي يراه خليطا مركبا . في نصه عن تكوين المجتمع المغربي أبدى باسكون رغبته في إعادة كتابة تاريخ مغربي خارج مدارات الدولة و الامبريالية الاستعمارية . هل حقق الهدف ؟ جزئيا ربما . اختلاف النظريات و المدارس و الايديولوجيات في تحديد طبيعة المجتمع يدفعنا لا محالة الى التساؤل حول هذه التركيبة التي ارتبطت بالشرف و المال والبيعة والعلم والكرامات و الحرية و حقوق الانسان و علاقة الدين بالسياسة ، وأشياء أخرى . فهل هذه العناصر في تمازجها ترتبط بشكل أو بآخر بما قاله عبدالله العروي عن المغاربة ؟
يقول العروي : "الشعب المغربي خليط من أقوام جاءت من الجهات الثلاث، من الشمال،و من الجنوب، و من الشرق. و الى حد الساعة لا أحد يعرف بالضبط متى و كيف رغم الافكار المسبقة التي نحملها جميعا."( عبدالله العروي ، استبانة ، ص59)
نحتاج الى الكثير من الجهد و القراءة كي يعيد المؤرخ بناء شتات الأحداث والوقائع . أهتم بالخطاب و دلالاته و أبعاده في مجالات العلوم الانسانية . ما زلت أنبش في التاريخ و قراءاته . علاقة المجتمع المغربي بالأحداث التاريخية طبعها الشد و الجذب وعدم الوضوح، حتى العلماء يعكسون هذه الصورة ، فهم وسطاء و خدام و ممانعين و متمردين و مرآة لحركية المنظومة المجتمعية و مدى تقدمها أو تراجعها. حالة المثقف في علاقته بالسلطة في مرحلة ما قبل الحماية و ما بعدها ، تستحضر سؤال الضياع التي يعيشه المثقف (هنا لا نود تصنيف المثقف و تحديده حتى لا يساء الفهم ) .
لو انطلقنا من تاريخ المغرب منذ ما قبل الاسلام والى اليوم، فلا نفهم منه إلا بضع حلقات في سجلات المؤرخين والباحثين. العروي و الخطيبي و المرنيسي و جسوس وباسكون وغيرهم نبشوا في موضوع الشخصية المغربية عسى أن يعثروا على شيء يسمح بفهم المعنى في هذه التركيبة المعقدة. نستعرض على سبيل المثال ، حديث العروي حين يقول عن المغربي: "إنه يختلف عن مغربي آخر، سحنة أو لهجة أو انتماء الى قبيلة أو زاوية ، لكنه يرى، حقا أو باطلا ، أن وراء هذه الفوارق الطبيعية والقوية توجد صفة أو صفات على مستوى معين من الوعي أو اللاوعي، تطبع المغربي وتميزه عن غيره حتى ولو كان مسلما أو عربيا أو مغاربيا ."( عبدالله العروي ، استبانة ، ص65) لكن في مستوى مغاير من الحديث عن الشخصية المغربية، حاول الخطيبي فك الغاز بعض المفارقات المجتمعية التي تواجهه كباحث في العلوم الانسانية . ففي رأيه ، " إن المغربي، كفرد كائنٌ إشكالي وتجزيئي، يعاني من انفصام في الشخصية، ومن صورةٍ هشة عن نفسه غير أنه باعتباره عضوا في مجموعة بشرية ، يغدو كائناً تاكتيكياً ماهراً ومحنكاً، وسليل محارب فتاك ". (عبد الكبير الخطيبي، المغرب العربي وقضايا الحداثة، ص73)