شكل النهج الذي يعتمده عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة المغربية في إلقاء خطاباته الرسمية انتقادات لاذعة من طرف خصومه السياسيين، لا سيما بعض الأطراف التي تعاتب فيه النبرة الأخلاقية المتعالية الفارغة من المضمون الإجرائي على حد قولها، سواء في البرلمان بغرفتيه أو في وسائل الإعلام أو في مجلس الحكومة أو في أي نشاط رسمي وغير رسمي، وقد يذهب الكثيرون إلى تحليل هذا الخطاب من أجل التمعن في عمق مضمونه، هل هو بالفعل مجرد خطاب شعبوي لإسكات الأفواه المنتقدة والمعبرة عن امتعاظها من السياسة الحكومية؟ أم أن هذا الخطاب له مدلوله ومقصده الرئيسي في ظل الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة ومراكز القرار، في محاولة منه لتخليق الحياة السياسية والإدارية؟ لقد تذكرت قولة بليغة للنابغة السياسي ميكيافيلي في كتابه "الأمير" حينما قال "رجل واحد يستطيع أن يعيد الأمة إلى مبادئها ، فلو كان قدوة جيدة سيقلده الناس الجيدون والأشرار يخجلون أن يفعلوا عكسه ". نعم بالفعل لقد صدق ميكيافيلي فإذا كان بنكيران قدوة جيدة فبالفعل سيقلده الناس، وقد فعل جانب منهم ذلك عبر التصويت له ودعمه سياسيا، ونفس الشيء حصل فيما يخص قوله " والأشرار يخجلون أن يفعلوا عكسه " لبعض الوجوه السياسية التي اتهمت في وقت سابق بالفساد والإفساد فآثرت التحالف مع بنكيران في حكومة واحدة، وهذا يحيلنا على سؤال آخر هو هل بنكيران إنسان صادق بالفعل مع الشعب الذي صوت على حزبه من أجل تسيير الحكومة؟ ربما يعتبر تصدر حزب العدالة والتنمية المغربي نتائج اقتراع 25 نونبر 2011 الذي احتفل قبل أسابيع معدودة بإطفاء شمعته الأولى والتي سميت بثورة الصناديق والتي قادت الحزب الإسلامي إلى تسيير الحكومة المغربية مع تحالفات متنوعة بين الليبراليين والمحافظين؛ هو عربون أولي على صدق بنكيران وحزبه رغم النسبة الهزيلة للمشاركة في الانتخابات التي تدل على عزوف عن السياسيين أكثر منه عزوف عن السياسة، فكما يقال كل ماهو مرتبط بالشأن العام فهو من السياسة، ناهيك عن الانتخابات الجزئية المعادة في كل من طنجة ومراكش وإنزكان، والتي عرفت فوز الإسلاميين. ميكيافيلي يعود ليقول مجددا أنه " عندما تقوم بأمور جيدة فإنك تكسب محبة الأخيار وأكبر قدر ممكن من كراهية الأشرار" تلك هي الموازنة التي كان يبنيها ميكيافيلي وجود طرفين لا ثالث لهما عبر ثنائية؛ أخيار/أشرار، وهذا ما يحاول بنكيران أن يسوق له في كل مرة وهو أنه يريد أن يخدم المغرب وشعبه لكن التماسيح والعفاريت تشوش عليه في كل مرة وتعيق مسار الإصلاح، وهكذا نجد بنكيران يتصدر نسب مشاهدة عالية في الشاشة الوطنية ونسب ظهور عالية في الصفحات الأولى للجرائد والمجلات المغربية، بالإضافة إلى أنه من بين المحاور الرئيسية التي يناقشها المغاربة على مستوى الموقع الإجتماعي فيسبوك بالنظر إلى النفس الجديد الذي أتاحه الفضاء الافتراضي في إذكاء النقاش السياسي بعد حراك الربيع الديمقراطي، سواء المساندون أو المعارضون. تلك هي النبرة الميكيافيلية التي يتحدث بها بنكيران، نبرة تقسم النسق السياسي المغربي إلى أخيار وأشرار، ومن تلك الخيرية يستمد بنكيران شعبيته من الأمة التي سيعيد لها مبادئها وقيمها وأخلاقها التي في اعتقاده أنها هي الأساس من أجل تطوير المغرب ديمقراطيا واقتصاديا. لكن يأتي ميكيافيلي ليدحض هذه المبادئ ليقول أنه لا علاقة بين السياسة والأخلاق، فبممارسة أو عدم ممارسة القيم في السياسة تظل العلاقة منتفية، لذلك فخطاب بنكيران الأخلاقي داخل قبة البرلمان أو في المجلس الحكومي لا علاقة له بالممارسة السياسية وإنما يظل مجرد توجيهات أخلاقية تربوية لتحسين السلوك الفردي للشخص المسؤول سياسيا بعيدا عن ممسارساته التي للقانون فقط الحق في مساءلته فيها لاغير. وعلى عكس النموذج المصري، آثر بنكيران عدم الدخول في أي صراعات جانبية في مرحلة ولايته الحكومية اقتداءا بمقولة ميكيافيلي "لا يمكن تجنب الحرب لكن يمكن تأجيلها من أجل مصالح أخرين"، وهكذا نجد أن ينكيران لم يطرح منذ توليه سدة رئاسة الحكومة ولو قضية هوياتية على سدة حكومته، كما أن المهرجانات الفنية والسينمائية التي كان ينتقدها قبلا في ظل المعارضة بالنظر إلى الميزانية الكبيرة التي تثقل جيب الدولة من ضرائب المواطنين لم يحرك فيها ساكنا، فظلت الأمور كما هي في السابق مهرجانات كبيرة بأموال ضخمة. بنكيران على نفس منوال ميكيافيلي يعرف بالضبط ما يريد بالفعل فهو "لا يهتم بالأمر الواقع، بل يهتم بتغييره"، وهذه هي النقطة المحورية التي يندرج فيها عمق خطاب بنكيران الأخلاقي في مسار المشروع الإصلاحي الذي اختاره طريقا لخروج المغرب من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها في ظل الاستبداد والفساد الموجود قبل حراك الربيع الديمقراطي. وهكذا يظل خطاب بنكيران الأخلاقي هو خطاب واقعي بالنظر إلى متقابلات التحديات، فكما يقابل تحدي الاستبداد مزيد من الحريات فتحدي الفساد يحتاج إلى مزيد من القيم والأخلاق الحسنة التي تمحيه، فمتى نجد القيم والأخلاق مجسدة على شكل ممارسة بدل مجرد خطاب معرض للانتقاد من طرف المستفيدين من الوضع الحالي المتسم بالريع والفساد؟