لم يكن متوقعا أن تحدث كل هذه التعبئة الإعلامية والنقابية حول خطأ وقع في إدراج اسم مترشحة تغيبت عن اجتياز مباراة ولوج سلك التفتيش، ضمن لائحة الناجحين في الامتحان الكتابي. فرغم أن إدارة مركز تكوين مفتشي التعليم أصدرت بلاغا أقرت فيه بخطأ في مسك الأرقام وقامت بتصحيحه، إلا أن ذلك لم يوقف مد الاحتجاجات والتنديدات في صفوف المترشحين – الراسبين منهم خاصة – بهذا الخطأ، واصفين إياه على الصفحات الفيسبوكية "بالسقطة المدوية" لمصداقية المباراة، التي ظلت لعقود تشكل إحدى أبرز المباريات التي لا يتمكن من اجتيازها بنجاح إلا ذوو الكفاءة المعرفية والمهنية العالية. وبالنظر للقيمة الاعتبارية والمكانة العلمية التي يحظى بها المفتش داخل المنظومة التعليمية، بوصفه إطارا يمارس التأطير و يسهر على المراقبة، وينتظر منه أن يكرس بقوة المرجعيات القانونية والتربوية والأخلاقية، لم يكن من السهل على كثير من المترشحين استيعاب هذه الزلة غير المعهودة في مؤسسة تكوينية عريقة بمسارها وبكفاءة أساتذتها وأطرها، وساهمت في تأهيل وتخريج أفواج من الكفاءات والخبرات الوطنية في حقل التأطير والبحث والمراقبة وفي شتى التخصصات، الأمر الذي اعتبره بعض المترشحين المحتجين انتكاسة، ما جعلهم يطالبون بإلغاء نتائج هذه المباراة وإعادة إجرائها وفق معايير وإجراءات تضمن الشفافية والتباري النزيه وتكافؤ الفرص، حيث انتظموا في تنسيقية وطنية تحت مسمى "الأساتذة المتضررين من مباراة التفتيش"، دعت إلى سحب ملف المباراة من المركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم، وهي عازمة العقد على رفع دعوى قضائية ضده. لقد كان لافتا أن ما غذَّى أكثر هذا التشكيك في نزاهة تدبير المباراة على صعيد الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، هو تناسل نشر وتداول العديد من اللوائح التي تضمنت أخطاء في أرقام الامتحان، وأسماء مترشحين ناجحين لم ترد أسماؤهم ضمن لوائح الانتقاء الأولي، ناهيك عن مؤاخذات أخرى تتحدث عن "أخطاء" في بعض أسئلة الامتحان، و"شبهات إقصاء" طالت مترشحين من اجتياز الشق الشفوي ينتمون لجهات بعينها حسب بعض البيانات النقابية. وجدير بالذكر، أن هذه الوقائع تزامنت مع التوتر الحاصل بين النقابات ووزير التربية الوطنية ارتباطا بتوقف الحوار القطاعي، ولعل هذا المعطى أرخى كذلك بظلاله على مجريات وأحداث هذه المباراة، ما شكل سياقا جديدا دفع أكثر بالتوتر نحو الشجب الميداني والمواجهات الإعلامية والنقابية. من المؤسف جدا أن تتداعى عن هذه العثرات التدبيرية للمباراة كل هذه الاحتجاجات التي انتشرت كالنار في الهشيم، حيث رفعت سقف مطالبها بشكل لا يساعد على تصحيح الاختلالات المرصودة بعيدا عن لغة التأجيج والتصعيد، كما أن عدم تريث إدارة مركز تكوين المفتشين في إجراء الاختبارات الشفوية ومحاولة تأجيلها لغاية البث في الطعون وتدقيق النتائج، زاد من مفاقمة الوضع الاحتجاجي، خاصة أن الآجال الزمنية لأطوار المباراة أصبحت متجاوزة بعد التأخر بأكثر من أسبوع عن الشروع في إجراء الشطر الشفوي الذي كان مبرمجا إجراؤه ابتداء من 10 دجنبر 2020، بالإضافة للنتائج النهائية التي كان يفترض الإعلان عنها ابتداء من 15 دجنبر 2020. إن عدم الإعلان عن نتائج نفس المباراة خلال دورة 20 و 21 ماي 2017 أو الكشف رسميا عن دواعي التخلي عن إتمام جميع عملياتها، شكل سابقة في تاريخ المنظومة، وقد خلف حينها شجبا واستياء من كيفية تدبير مباراة ولوج سلك التفتيش من طرف وزارة التربية الوطنية، ما اعتبر تجميدا مقصودا للمباراة وتكتما غير مشروع على نتائجها دون إصدار أي قرار إداري يحتفظ بها أو يلغيها. لقد كان متوقعا أن يسهم تأجيل إجراء الشق الشفوي في تهدئة الوضع والتخفيف من حدة الاحتجاجات، مما قد يولد انطباعا إيجابيا لدى المترشحين المحتجين، ويعبر عن حرص المشرفين على تدبير المباراة على تحقيق نزاهة التباري ومصداقيته. على اعتبار أن وقوع الخطأ وارد جدا في مباراة من هذا الحجم، وهو لا يمس من مصداقيتها أو قيمتها. إن حدوث هذا الصنف من الهفوات التدبيرية لا يقتضي منا دوما تشكيكا في خلفياتها أو تأجيجا للاحتجاجات حولها، بل يفترض أن نعتبرها أخطاء غير مقصودة إذا كانت محدودة وغير متكررة، تحصينا للمكتسبات والجهود، وفي الآن ذاته نحرص على المطالبة بإعمال التقويم والمراقبة اللازمين من أجل التصويب أو المحاسبة إن تطلب الأمر ذلك. لكن أن نمضي عمدا إلى نسف البنيان من أساسه أو إحراق القارب بمن فيه، أو محاولة استهداف أسماء أو صفات بعينها دون امتلاك ما يكفي من المعطيات التي تؤكد علاقتها أو مسؤوليتها المباشرة عن الأخطاء المرصودة، فهذا لا يستقيم البتة مع خطاب المَظْلَمَة ولا يضفي عليها أيَّة مشروعية. إن التزام الحياد والموضوعية في تناول هذا الموضوع ليس بالأمر الهَيِّن، فالمترشحون المحتجون يتوقعون مساندة غير مشروطة لمطالبهم باعتبارهم "متضررين"، كما أن المعنيين بتدبير ملف المباراة من الأطر الإدارية والتربوية ينتظرون إنصافا لجهودهم، والمترشحون الناجحون يرجون طيا للملف دون المس بما حققوه من نتائج. ولعل أسوأ ما يمكن أن يقع في خضم هذا التجاذبات هو البحث عن ضحية لإشباع رغبة البعض في إظهار قوته الاحتجاجية، أو لمحاولة تغطية البعض الآخر على الاختلالات الفعلية التي ينبغي تصحيحها. لذلك فتحديد المسؤوليات أمر مطلوب وفق مقاربة قانونية و"افتحاصية" دقيقة، لأن هناك متدخلون كثر في هذه المباراة، ومن غير المعقول ممارسة العقاب الجماعي وتعميم الكَبوات أو وضع الجميع في سلة واحدة، لأن المطالبة بإلغاء نتائج الامتحان الكتابي معناه أن جميع الأكاديميات أخطأت وفشلت في هذه المهمة، والحال أن هناك أخطاء محدودة يمكن ضبطها وتصحيحها. فمثلا حينما نرصد خطأ ما في مسك نقطة تلميذ في مادة معينة، هل هذا يستوجب إلغاء جميع نقط التلاميذ أو إعادة الاختبار؟ لهذا ينبغي حماية حقوق المترشحين الذين بذلوا مجهودا في المباراة وهم يستحقون النجاح عن جدارة. فكما أننا نعترف بوجود مترشحين متضررين وآخرين غاشين، علينا كذلك الاعتراف بوجود مترشحين ناجحين باستحقاق، هؤلاء أيضا يحق لهم تشكيل تنسيقية باسمهم يطالبون من خلالها بإقرار النتائج المعلنة. لكن هذه الخيارات تظل غير متبصرة، لكونها سَتَحُضُّ الجميع على التَّمَتْرُسِ خلف التنسيقيات، وهذا لن يكون مفيدا نهائيا في تحقيق تدبير ناجع للموضوع. إن هذا المشكل، يجعلنا نجدد طرح بعض التساؤلات المتعلقة بملف هيئة التفتيش بوزارة التربية الوطنية، هذا الملف الذي تراكمت مشاكله لعقود، وكُرِّست المقاربة التجزيئية بدل الشمولية في تدبير ومعالجة اختلالاته، حيث يتم إحياؤه إما بشكل مناسباتي استجابة لأهداف تدبيرية طارئة، أو فقط تحت الضغط حينما يتعلق الأمر بقضايا أو مشاكل تنفجر إعلاميا أو نقابيا. ما يعطي انطباعا أنه من "الملفات الملفوظة إداريا" على صعيد وزارة التربية الوطنية. ومن المؤكد أنه ينبغي وضع تدبير مباراة ولوج سلك التفتيش ضمن هذا الإطار، لأن تتالي القرارات والإجراءات بخصوص وضع مركز تكوين مفتشي التعليم ومستويات تدخله في المباراة والتكوين وطبيعة مخرجاته، كل هذا لا ينفصل عن تدبير ملف التفتيش بالمنظومة. فسنة بعد أخرى تترسخ التبعية المباشرة لهذا المركز للمصالح المركزية لوزارة التربية الوطنية، ما أفقده استقلاليته المنشودة.
لقد كان منتظرا أن تهتم النقابات التعليمية بملف التفتيش بما فيه الولوج والتكوين بالمركز ضمن سياق لا تحكمه التجاذبات والتوترات النقابية بينها وبين الوزارة، وأن تمتلك تصورا شاملا يحيط بمختلف قضاياه، لكن يبدو أنها هي بدورها تتعاطى معه بأسلوب مناسباتي يجعله سياقا وليس موضوعا، أو وسيلة ضغط بدل أن يكون ملفا مطلبيا.