بوريطة: استقرار إفريقيا مرتبط مباشرة باستقرار المغرب    المقاتلات الشبحية F-35.. نقلة نوعية في القوة العسكرية المغربية    دوري أبطال أوروبا.. سان جرمان-ليفربول ودربي مدريد الأبرز في ثمن النهائي    توقيف شخص يشتبه في تورطه في شبكة للهجرة غير المشروعة والاتجار بالبشر بالحسيمة    "حليوة" أمام النيابة العامة بسبب تدوينة حول الرئيس الفرنسي ماكرون    منتدى دولي بطنجة يناقش تنافسية واستدامة قطاع صناعة السيارات بالمغرب    منع مشجعي الرجاء البيضاوي من حضور مباراة فريقههم أمام الجيش الملكي    تطورات التضخم والأسعار في المغرب    حماس: جثة بيباس تحولت إلى أشلاء    استعدادات لزيارة ملكية مرتقبة إلى مدن الشمال    النصيري يسجل من جديد ويساهم في تأهل فنربخشه إلى ثمن نهائي الدوري الأوروبي    شكاية ضد ابن كيران بتهمة القذف والسب ومطالبته بتعويض 150 مليون    إطلاق المرصد المكسيكي للصحراء المغربية بمكسيكو    شي جين بينغ يؤكد على آفاق واعدة لتنمية القطاع الخاص خلال ندوة حول الشركات الخاصة    القضاء يرفض تأسيس "حزب التجديد والتقدم" لمخالفته قانون الأحزاب    عامل إقليم الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبا عاما جديدا للعمالة    أداء مؤشر "مازي" في بورصة البيضاء    مضمار "دونور".. كلايبي يوضح:"المضمار الذي سيحيط بالملعب سيكون باللون الأزرق"    الجيش يطرح تذاكر مباراة "الكلاسيكو" أمام الرجاء    إطلاق تقرير"الرقمنة 2025″ في المنتدى السعودي للإعلام    الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته    كيوسك الجمعة | المؤتمر الوزاري العالمي الرابع للسلامة الطرقية يفي بجميع وعوده    باخرة البحث العلمي البحري بالحسيمة تعثر على جثة شاب من الدار البيضاء    المندوبية السامية للتخطيط تعلن عن ارتفاع في كلفة المعيشة مع مطلع هذا العام    الذهب يتجه لتسجيل مكاسب للأسبوع الثامن وسط مخاوف من رسوم ترامب الجمركية    روايات نجيب محفوظ.. تشريح شرائح اجتماعيّة من قاع المدينة    المغرب يحافظ على مكانته العالمية ويكرس تفوقه على الدول المغاربية في مؤشر القوة الناعمة    إطلاق أول رحلة جوية بين المغرب وأوروبا باستخدام وقود مستدام    توقعات أحوال الطقس ليومه الجمعة    تراجع احتمالات اصطدام كويكب بالأرض في 2032 إلى النصف    نتنياهو يأمر بشن عملية بالضفة الغربية    فضاء: المسبار الصيني "تيانون-2" سيتم اطلاقه في النصف الأول من 2025 (هيئة)    عامل إقليم الجديدة و مستشار الملك أندري أزولاي في زيارة رسمية للحي البرتغالي    كيف ستغير تقنية 5G تكنولوجيا المستقبل في عام 2025: آفاق رئيسية    محامون: "ثقافة" الاعتقال الاحتياطي تجهض مكتسبات "المسطرة الجنائية"    حوار مع "شات جيبيتي" .. هل تكون قرطبة الأرجنتينية هي الأصل؟    "بيت الشعر" يقدّم 18 منشورا جديدا    أوشلا: الزعيم مطالب بالمكر الكروي لعبور عقبة بيراميدز -فيديو-    "مطالب 2011" تحيي الذكرى الرابعة عشرة ل"حركة 20 فبراير" المغربية    حادثة سير مميتة على الطريق الوطنية بين طنجة وتطوان    "حماس" تنتقد ازدواجية الصليب الأحمر في التعامل مع جثامين الأسرى الإسرائيليين    طه المنصوري رئيس العصبة الوطنية للكرة المتنوعة والإسباني غوميز يطلقان من مالقا أول نسخة لكأس أبطال المغرب وإسبانيا في الكرة الشاطئية    سفيان بوفال وقع على لقاء رائع ضد اياكس امستردام    السلطات تحبط محاولة نواب أوربيين موالين للبوليساريو دخول العيون    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    ثغرات المهرجانات والمعارض والأسابيع الثقافية بتاوريرت تدعو إلى التفكير في تجاوزها مستقبلا    غشت المقبل آخر موعد لاستلام الأعمال المشاركة في المسابقة الدولية ل "فن الخط العربي"    إطلاق النسخة التاسعة للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    سينما المغرب في مهرجان برلين    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التواضع خلق الكبار
نشر في أخبارنا يوم 16 - 07 - 2020

ما من فضيلة من الفضائل إلا دعا إليها الإسلام وحث عليها، ومن رذيلة إلا نهى عنها، ومن أهم الفضائل وأسمى الأخلاق وأنبل الصفات التي اهتم بها الشرع ودعا إليها وحث عليها: التواضع.
معنى التواضع:
قال ابن المبارك: (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل).
وسُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال: (يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله).
وعن صالح المرِّيِّ قال: (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلقى مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا).
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (إنَّكم لتغفلون أفضل العبادة: التَّواضُع).
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته).

الترغيب في التواضع:
ورد في القرآن والسنة الكثير من الأدلة التي ترغب في التواضع وتحث عليه وتبين فضله، ومن ذلك:
قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (الفرقان: 63)، قال ابن القيِّم رحمه الله: (أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا).
وقال الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمَّته المتَّبعين لأمره، التَّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159).
كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88).
قال القرطبيُّ: (أي: أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم).
وقال عزَّ وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء: 215).
ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم (يُظهرون العطف والحُنُوَّ والتَّواضُع للمؤمنين، ويظهرون الشِّدَّة والغلظة والتَّرفُّع على الكافرين) حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54 ).
قال ابن كثير رحمه الله: (هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصمه وعدوِّه، كما قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29).
وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24)، (حيث أمر الله بالتَّواضُع للوالدين ذلًّا لهما ورحمة واحتسابًا للأجر).
وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83).
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنَّ الدَّار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}، أي: ترفُّعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم).

الرفعة في التواضع
قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله".
قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم "وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله": (فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الله تعالى يمنحه ذلك في الدُّنْيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تواضعه يُثْبِتُ له في القلوب محبَّةً ومكانةً وعزَّةً.
والثَّاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه).

تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة فإن رفيع القوم من يتواضع

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ".
(يعني: أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى من هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد، وهذا مِن الأمور التي يجب على الإنسان أن يتَّصف بها، أي بالتَّواضُع لله عزَّ وجلَّ ولإخوانه مِن المسلمين).
وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها".

وأحسن مقرونَين في عين ناظر جلالة قدر في خمولِ تواضعِ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس متوسِّطي الحال لا يستطيعون اللِّباس الرَّفيع، فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلَّا تنكسر قلوبهم، ولئلَّا يفخر عليهم، فإنَّه ينال هذا الأجر العظيم، أمَّا إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم، ويلبسون الثِّياب الرَّفيعة لكنَّها غير محرَّمة، فإنَّ الأفضل أن يلبس مثلهم؛ لأنَّ الله تعالى جميل يحبُّ الجمال، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال، يلبسون الثِّياب الجميلة، ولبس دونهم فإنَّ هذا يُعَدُّ لباسَ شهرة؛ فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال).

من صور التواضع:
أولا: تواضع الإنسان في نفسه:
ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره، ولا يظنّ أنَّه قد أخذ صكًّا بالغفران!! وآخر بدخول الجنَّة!! لأنَّ القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمن، يقلِّبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).
وقال أبو زيد: ما دام العبد يظنُّ أنَّ في الخَلْق مَن هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا.
ومِن التَّواضُع ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) ولهذا قال بعض السَّلف: لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن!.
ومِن ذلك: التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ لأنَّ معنى النَّصيحة أنَّ أخاك يقول لك: إنَّ فيك مِن العيوب كيت وكيت.

ثانيا: التَّواضُع في التعلُّم:
قال الشَّافعي: لا يطلب هذا العلم أحدٌ بالملْك وعزَّة النَّفس فيفلح، لكن مَن طلبه بذلَّة النَّفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النَّفس أفلح.
وعن الأصمعي قال: مَن لم يتحمَّل ذلَّ التَّعلُّم ساعة، بقي في ذلِّ الجهل أبدًا.
قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
كذلك ينبغي أن يتحمَّل الطَّالب ما يكون مِن الشَّيخ أو مِن بقيَّة الطَّلبة لئلَّا يفوته العلم، فتفوته الدُّنْيا والآخرة.
قال الشَّافعي: غضب الأعمش يومًا على رجل مِن الطَّلبة، فقال آخر: لو غضب عليَّ مثلك لم أعد إليه. فقال له الأعمش: إذًا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي.

ثالثا: التَّواضُع مع النَّاس:
فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلاميَّة، ومِن طبيعة النَّاس أنَّهم لا يقبلون قول مَن يعظِّم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقًّا، بل عليه أن يعرف أنَّ جميع ما عنده هو فضلٌ مِن الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظًّا في كلامه مع الآخرين، ومِن تواضع المسلم مع النَّاس: أن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28).

رابعا: التَّواضُع مع الأقران:
ومِن التَّواضُع: تواضع المسلم مع قرينه؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تشتعل المنافسة ويقع التَّحاسد بينهم، وربَّما يؤدي ذلك إلى نوع من استعلاء بعضهم على بعض، ثم محاولة الحط من قدر قرينه، والتنقص منه بأي صورة من الصور، أو السعي في النيل منه، وقد يلبس عليه الشيطان ذلك ويلبسه لبوس النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

خامسا: تواضع الإنسان مع مَن هو دونه:
مِن التَّواضُع: التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك، فربما كانت معصيته سببًا في توبة وإنابة، وذل وانكسار، وربما كان إعجاب الإنسان بعمله سببًا في حبوط عمله.
عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث: "أنَّ رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وأنَّ الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".

سادسا: تواضع صاحب المال:
فإنَّ مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوَّة، والنُّفوذ، أحوج الخَلْق إلى خُلُق التَّواضُع؛ لأنَّ هذه النِّعم مدعاة إلى الكِبْر والفخر.
وأكثر ما يكون الكبر في الأمَّة مِن هؤلاء إلا ما رحم ربي، ولو نظر صاحب المال -مثلًا- إلى سالف أمره، لكان أجدر به إذا ما رُزِق مالًا أن يشكر ربَّه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمَّنه بعد خوف، وأن يجعل التَّواضُع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشُّكر العملي الحقيقي.

سابعا: تواضع القائد مع الأفراد:
القائد النَّاجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين تحت إمرته؛ لأنَّه كلَّما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محببًّا إليهم، فهم يطيعونه عن حبٍّ وإخلاص، يقول تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء: 215).
ومِن مظاهر هذا التَّواضُع، عدم الاستبداد بالرَّأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أنَّ استفراغ ما عند الأفراد مِن آراء وأفكار لا شكَّ أنَّ ذلك يفتح أبوابًا كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنُّزول عن الرَّأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلِّل مِن نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشُّورى قد يجبر الله ما بها مِن قصور، ولله درُّ القائل:

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

وومن مظاهر التواضع التي ينبغي أن يتصف بها القادة ألَّا يجدوا في نفوسهم شيئًا إذا تحوَّلوا إلى جنود أو أفراد في الصَّفِّ بعد أن كانوا قادة؛ وذلك لأنَّ الأجر والثَّواب يكون بالإخلاص والتجرُّد، والصِّدق مع الله.
وكما يقول الفضيل بن عياض: (مَن أحبَّ الرِّياسة لم يفلح أبدًا)، ولا شكَّ أنَّ المؤمن كلَّما ازداد تواضعًا ازداد إيمانًا بالله وقربًا منه، وكلَّما ازداد عتوًّا وترفُّعًا على النَّاس، ازداد مقتًا وبعدًا منه سبحانه.

الرسول سيد المتواضعين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه".
وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله".
وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، القيام بخدمة أصحابه، روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي قتادة، وفيه في قصَّة نومهم عن صلاة الفجر، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأبو قتادة يسقيهم -أي أصحابه- فلم يَعْدُ أن رأى النَّاس ماءً في الميضأة تكابُّوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الْمَلَأَ كلُّكم سيَرْوى". قال: ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمَّ صبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "اشرب". فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: "إنَّ ساقي القوم آخرهم شربًا". قال: فشربت، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتى النَّاس الماء جامِّين رِوَاء. أي: مستريحين قد رووا من الماء.

ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم، فقد روى البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله.
وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: "يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَير؟".
ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم: استجابته للدَّعوة، وقبوله الهديَّة مهما قلَّت قيمتها، روى البخاريُّ مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أُهْدِي إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت".
هذا تواضعه صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم أجمعين، فهلا تأسينا به؟!.
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عز وخير ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيد المتواضعين وإمام المتقين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.