قبل أيام كتبنا عن البؤرة "شبه العائلية" التي أربكت حكومة العثماني، في لحظة كان الاستعداد فيها لعرض مخطط التخفيف، واليوم نكتب عن بؤرة "للاميمونة" التي سرقت الأضواء، وخلقت حالة من الهلع والقلق والإرباك والارتباك، وحكمت على عمالات وأقاليم بعينها بالبقاء رهن اعتقال "الحجر الصحي"، ومنها على الخصوص "مراكش" التي كانت قبل أيام، مسرحا للبؤرة "شبه العائلية"، و"القنيطرة" و"العرائش" و"طنجة - أصيلة"، حيث تتمركز العديد من الوحدات الإنتاجية الفلاحية والصناعية، بشكل يجعل منها مجالات مهددة أكثر من غيرها بخطر "البؤر"، ما لم يتم التقيد الحرفي بالإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازية، وما لم تتحمل السلطات المختصة، مسؤولياتها كاملة في "الرقابة" وفرض احترام القانون، ما حدث في منطقة "للاميمونة" هو أكبر من بؤرة مهنية فلاحية، وأكبر من "رقم قياسي وطني" يعد الأول من نوعه منذ بداية انتشار الوباء، وأكبر من حادثة عاكسة لأزمة في التواصل بين السلطات الرسمية والمواطن في إطار الحق في المعلومة، ما حدث، يفرض علينا توجيه البوصلة نحو العديد من المناطق القروية التي يكاد لا يسمع لها صوت، بشكل يجعلها خارج دوائر الاهتمام الرسمي والمجتمعي، وبمعزل عن "براق" التنمية، ولا يتم الانتباه إليها، إلا في لحظات المحن والأزمات، بؤرة الغرب، جعلتنا نتعرف على "للاميمونة" و"مولاي بوسلهام" " يا ريش النعام" كما تغنت بذلك مجموعة "نجوم بوركون" في سنوات تألقها، وهي مناطق فلاحية بامتياز، تشغل نسبة مهمة من اليد العاملة المنتمية بالأساس لمدن القنيطرة ووزان والعرائش وسيدي سليمان وغيرها، وتساهم بذلك، في تحريك عجلات الاقتصاد المحلي والوطني . ما حدث من "كبوة" مدوية، يقتضي أولا وقبل كل شئ، فتح ملف العديد من الوحدات الإنتاجية الفلاحية (ضيعات، معامل) المنتشرة في عدد من المناطق على الصعيد الوطني وعلى رأسها منطقة الغرب، والتساؤل عن واقع حال هذه الوحدات الإنتاجية ووضعيتها القانونية، ووضعية مستخدميها من العاملات والعمال الفلاحيين، ومدى تطبيق مقتضيات قانون الشغل ومدى إخضاع اليد العاملة لمنظومة الضمان الاجتماعي، ومدى أنسنة ظروف العمل ومدى احترام شروط الصحة والوقاية والسلامة، ومدى تحمل القطاعات المعنية (الفلاحة، الصحة، الداخلية، حقوق الإنسان، الشغل ، الضمان الاجتماعي، التجارة ... إلخ) مسؤولياتها "المواطنة" في مراقبة وتتبع ما يجري داخل هذه الضيعات الفلاحية والمعامل، ومدى تطبيق مقتضيات القانون، حماية للعاملات والعمال الفلاحيين، ومعظمهم ينتمون لأسر فقيرة ومعوزة بالعالم القروي، وفي غياب أية آليات للرقابة على هذه الوحدات الإنتاجية، يتم الإسهام في إنتاج "بيئة خصبة" تتيح لأرباب هذه الوحدات الإنتاجية، الفرصة لممارسة الجشع والإقبال الهستيري على الكسب والربح، على حساب حقوق العاملات والعمال وصحتهم وسلامتهم، بعيدا عن سلطة القانون، وفي هذا الصدد، نحن نؤكد على أهمية ونجاعة الانفتاح على الرأسمال الأجنبي الذي ينعش الاستثمار ويحرك فرص الشغل، لكن في ذات الآن، نؤكد أن لا أحد فوق القانون أو خارج القانون، ولا كسب أو ربح أو تراكم للثروة، على حساب الفقراء والمستضعفين من مغاربة العالم القروي، وما قيل عن الوحدات الإنتاجية الفلاحية ينطبق على الوحدات الإنتاجية ذات الطبيعة الصناعية والتجارية.
بالرجوع إلى البؤرة / الحدث، التي لا يمكن توصيفها إلا بالسقطة المدوية و الكبوة الكبرى والانتكاسة العظمى، وكلها توصيفات معبرة عن واقع الحال، اعتبارا لقوة الحصيلة اليومية التي تعدد الأولى من نوعها منذ تاريخ تسجيل أول حالة بالمغرب غضون شهر مارس الماضي، وهي حصيلة "مخيفة" نسفت ما بذل من جهد لعدة أسابيع، وأربكت أو من شأنها إرباك "الحكومة" التي لا خيار لها اليوم، سوى المضي قدما نحو "التخفيف" لاعتبارات اقتصادية واجتماعية ونفسية موازاة مع الرهان على الجانب الوقائي والاحترازي، كما من شأنها وضع "تحت المجهر" قرار تجميع كل الحالات النشطة وطنيا في مدينتي "بنجرير" و"بنسليمان"، لأن الرقم المسجل (539)، من المرتقب أن يفرز إصابات أخرى في صفوف المخالطين، بشكل قد يرفع من عدد الإصابات المؤكدة اليومية والإصابات النشطة وطنيا، وهي وضعية تفرض الرهان على بناء مستشفى ميداني بمنطقة الغرب، من شأنه استيعاب البؤر المحتملة بمنطقتي الغرب والشمال (طنجة أساسا)، وعليه، فاللحظة تقتضي كسب رهان التواصل الناجع والفعال، عبر استعجال إحاطة
الرأي العام الوطني علما، بحقيقة ما جرى وكيف جرى، وتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات عند الاقتضاء، إذا ما ثبت تراخي أو تقصير، سواء على مستوى التدابير الوقائية والاحترازية أو على مستوى النقل المهني، أو على مستوى "الرقابة"، خاصة في ظل ما يروج من أخبار، مفادها أن المنطقة شهدت أول حالة إصابة قبل شهر، ومع ذلك تم الاستمرار في العمل، وأن بعض العاملات طالبن وقتها، بالخضوع إلى التحليلات، للتأكد من مدى إصابتهن أو عدم أصابتهن بالعدوى، دون أن يتم التفاعل مع مطالبهن، وإذا ما صحت هذه المعطيات، نكون أمام أوساط مهنية، تمارس "شرع يديها" كما يقال، مستخفة بما تم فرضه من إجراءات وتدابير وقائية واحترازية، مجازفة بصحة وسلامة عمالها، مقابل إرواء عطش الجشع والمصالح، وفي هذا المستوى من النقاش، وحتى إذا ما تم القبول بتقصير وتراخي مهني، فهذا يسائل أجهزة "الرقابة"، أخذا بعين الاعتبار، الدعوة الملكية للموجهة لأرباب المقاولات من أجل إجراء فحص "كورونا" موسع للعاملين، كما يسائل نجاعة وفاعلية ما يتخذ على المستوى الرسمي من قرارات وتدابير، ما لم يتم أجرأتها وحسن تنزيلها على المستويين الجهوي والإقليمي.
وعليه، فشئنا أم أبينا، فبؤرة "للاميمونة" كشفت عن المستور، وأبانت عن نوع من التراخي في تدبير مخطط "التخفيف"، على مستوى بعض الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة بالوحدات الإنتاجية الفلاحية التي يذوب فيها جليد الانضباط والالتزام، بشكل يجعل العمال تحت رحمة بعض أرباب العمل الذين يرفعون شعار "المصلحة أولا"، على حساب "الصحة" و"السلامة" في ظل تراجع منسوب "الرقابة" من قبل الجهات المعنية، ومن يشير بأصابعه إلى العمال، لتحميلهم مسؤولية "بؤرة" للتغطية على فشل أو تراخي أو تقاعس جهة من الجهات، فهي رؤية فاقدة للبوصلة، لاعتبارين اثنين، أولها: أن حصيلة الإصابات المؤكدة بالمنطقة والتي قاربت الخمسمائة، هي حصيلة معبرة عن نفسها، وتدل بما لا يدع مجالا للشك، على سيادة واقع العبث والتراخي والاستهتار واللامبالاة، وبمفهوم المخالفة، لو كان أرباب هذه الوحدات الإنتاجية قد بادروا إلى إخضاع العمال للتحاليل، لأمكن احتواء الوضع مبكرا، ولما تفاجئنا ببؤرة لم تكن في البال ولا حتى في الأحلام، وهنا أيضا يحضر عنصر "الرقابة الغائبة" أو "شبه الغائبة"، ثانيها: أن العمال في مجملهم، ينتمون لأوساط فقيرة ومعوزة، ويتحملون مسؤوليات إعالة أسرهم، ولا نتصور أن يختار أحدهم أو يختاروا جميعا، خيار تعريض أنفسهم لخطر الإصابة أو تعمد الإسهام الفردي والجماعي في إحداث "البؤرة"، وهذا لا يقبله عقل أو منطق، وفي جميع الحالات، فعمال الضيعات الفلاحية، يكابدون الصعاب ويشتغلون في ظروف صعبة من أجل ضمان قوتهم اليومي، ويفترض حمايتهم صحيا ومهنيا وحقوقيا وإنسانيا واجتماعيا، من أي استغلال محتمل من قبل بعض أرباب العمل، الذين يلهثون وراء جني الربح ولا شيء غيره.
وهي فرصة سانحة، لنوجه البوصلة نحو مهنة "صاحبة الجلالة"، لنؤكد أن "الصحافي المهني" في هذه الظرفية الاستثنائية، ليس محاميا للترافع باسم جهة من الجهات، وليس قاضيا لتوزيع صكوك الإدانة والاتهام يمينا وشمالا، وليس برجل سلطة يتحمل مسؤولية فرض النظام العام، ولا ممثلا، يتقمص أدوار الإثارة والانفعال، ولا كاتبا مهووسا بالخروج عن النص وحب الظهور، ولا حتى طبيبا نفسانيا لتقديم الحلول والبدائل، مهمته المقدسة، لا يمكن أن تخرج عن أطر الإخبار والتوعية والتحسيس والارتقاء بمستوى الأذواق وتقديم الحقيقة كما هي، بجرأة وموضوعية ومصداقية وتجرد وحياد، بعيدا عن كل الأهواء والمؤثرات الذاتية والموضوعية، في ظل التقيد بأخلاقيات المهنة وما يرتبط بها من احترام تام للمتلقي مشاهدا كان أو مستمعا أو قارئا، "الصحافي المهني"، هو من يتملك سلطة التأثير الناعم وملكة التواصل الناجع والفعال، بعيدا عن الحماسة المجانية التي تحضر فيها مفردات الأنانية والإثارة والجدل وحب الظهور والاستهزاء والتعالي، وهي مفردات، تجرد المهنة من قيمتها ورقيها وكبريائها وقدرتها على التأثير، ولا يمكن قطعا كمتلقين، القبول بها أو التطبيع معها، ليس فقط لأنها تشكل خروقات ماسة بالعمل الصحفي المهني الرصين، ولكن أيضا، لأنها تؤسس لعلاقة بين "الصحافي" و"المتلقي"، مبنية على التعالي والاستهزاء والاستخفاف والمس بالكرامة، عوض أن تكون العلاقة قائمة على "الثقة" و "الاحترام" و"التقدير".
وفي هذا الصدد، لسنا بصدد إلقاء محاضرة أو تقديم مرافعة حول ماهية "الصحافي المهني"، وما كنا لنخوض في موضوع، قد يبدو للبعض خارج سياق المقال، لولا بعض الأصوات الصحافية، التي خرجت عن نطاق المهنية وربما حتى عن منظومة أخلاقيات المهنة، عبر إبداء مواقف و ردات أفعال "غير مهنية" بخصوص ما وقع في منطقة "للاميمونة"، وصلت حد الغضب والانفعال، رأى فيها البعض انزلاقا مهنيا حاملا لمشاعر التعالي والاستهزاء والمس بالكرامة، وهنا نؤكد مجددا أن "الصحافي المهني" مهمته هي "الإخبار" لا أقل ولا أكثر، وليس من حقه إبداء الموقف أو توزيع صكوك الاتهام أو تحميل المسؤولية لطرف دون آخر، أما التعبير عن الغضب أو إعلاء الصوت أو الصراخ العصي على الفهم والإدراك، فهي تصرفات فاقدة للبوصلة ومثيرة للجدل، وتشكل مساسا بالمهنة وأخلاقياتها، ونرى في هذا الصدد، أن "المجلس الوطني للصحافة" الذي كشف قبل أيام عما شاب الممارسة المهنية من خروقات في زمن كورونا، لا بد أن يضطلع بأدواره ومهامه في تخليق المهنة وصونها من كل الممارسات أو التجاوزات "غير المهنية" الماسة بقيمة المهنة وكبريائها.
وعليه، واعتبارا لخصوصية ما نعيشه من ظرفية خاصة واستثنائية، نرى أن المرحلة، تقتضي صحافة مهنية على درجة كبيرة من التواصل الذي يضع المتلقي في صلب ما يحدث من متغيرات، باحترام وتقدير، بعيدا عن مفردات التطبيل والتهليل والإثارة، عسى أن تكون "للاميمونة" فرصة بالنسبة للحكومة لفتح ملف الوحدات الإنتاجية الفلاحية للتثبت من مدى احترامها للقوانين ذات الصلة، حماية للشغيلة الفلاحية من أي استغلال محتمل من قبل بعض أرباب العمل، وفرصة ثانية، بالنسبة، لبعض الصحافيين المهنيين، لمراجعة الذات وتصحيح المسار، وقبل الختم، نؤكد أن ما حدث في منطقة "للاميمونة" لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، وهو يقتضي استعجال فتح "تحقيق" يسمح بتحديد المسؤوليات، لضمان عدم حدوث "بؤرات" مماثلة، لأن مغرب ما بعد كورونا، لا يمكن تصوره إلا داخل نطاق "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، وإذا كانت الحكومة تتحمل مسؤولية تدبير الجائحة، فالمسؤولية أيضا تبقى على عاتق المواطنين، فيما يتعلق بالتقيد بالإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازية، ونختم بالقول، أننا لا ندين أحدا ولا نوجه اللوم والعتاب لأحد، وإذا ما أشهرنا سلاح الإدانة أو العتاب، فمن باب البناء لا النسف أو الهدم، ومن باب التصويب لا التنديد، ومن باب التحسيس لا التبخيس، من أجل وطن يحمينا من حرارة التشرذم وقساوة الشتات ... ومن أجل الوطن، كتب القلم وسيكتب، فليس له من سلطة، سوى "الكتابة" رغم ما تحمله من وجع ومعاناة ومخاض مستدام