تعتبرالإدارة العمومية امتدادا للحقل السياسي، ولا يمكن فصلها عنه بأي صيغة من الصيغ، فالقطاع الوزاري ما هو في واقع الأمر إلاّ إدارة عمومية رئيسها التسلسلي هو وزير ينتمي إلى الحكومة، والأمر نفسه بالنسبة للمؤسسات العمومية، والجماعات الترابية حيث تدار من قبل رؤساء الجماعات المنتخبين. وبالتالي، فإنّ إخفاقات الإدارة العمومية هي إخفاقات للفاعلين السياسيين السّاهرين على تدبير المصالح الإدارية بشتى أشكالها، وتعكس عجز الفاعل السياسي على مستوى الاستجابة لمتطلبات الإصلاح الإداري، انطلاقاً من مرحة تشكيل الحكومة، مروراً بتحديد مهام القطاعات الوزارية، وانتهاء بأساليب تدبير المسؤولين لهذه القطاعات الوزارية. فمنذ تشكيل الحكومة، يتضح غياب رؤية إستراتيجية منسجمة للإصلاح الإداري قابلة للتنزيل على الواقع، بين مكونات التحالف الحكومي غير المنسجم، التي تتعارض في العمق مع المفهوم الحقيقي للإصلاح الإداري. على رأس هذه القرارات، تشكيل الحكومة من ترسانة ضخمة من القطاعات الوزارية؛ وهو توجه من المستحيل تفسيره بشكل مقنع خارج منطق إرضاء الخواطر الحزبية فالأكيد أن هذه التركيبة المتناثرة تعرقل في حد ذاتها عملية الإصلاح الإداري وتجعله صعباً إلى درجة الاستحالة. ما يتسبب في اختلاف الرؤى بين المسؤولين الوزاريين المنحدرين من أحزب كثيرة، وهدْر وتشتيت للجهود والطاقات والموارد، إلى جانب تعدد البرامج والمخططات وعدم تلاقيها، خاصة وأن التنسيق ما بين القطاعات الوزارية ضعيف.
فالوزارة المُكلفة بالوظيفة العمومية التي من المفترض أن تقوم بهذا الدور، يُسجل عليها أن لا سلطة لها في هذا المجال، سواء على مستوى الاختصاصات أو على مستوى الموارد البشرية والمالية المخصصة لها، كما أنّه لا سُلطة لها في فرض توجهاتها على مستوى الإصلاح الإداري بباقي القطاعات العمومية، التي تبقى لها سُلطة تقديرية واسعة في تدبير مواردها البشرية وأساليبها التدبيرية والإدارية بالكيفية التي تشاء. أيّ إصلاح إداري يتطلب وجود قطاع وزاري قيادي، يمارس سلطة فعلية حقيقية على باقي القطاعات الحكومية حينما يتعلق الأمر بتقويم أو تصحيح اختلال إداري أو تدبيري معين، بحيث يتم التعامل مع مجموع مكونات القطاعات العمومية ككتلة واحدة مترابطة ومتداخلة فيما بينها، وليست مستقلة تماماً عن بعضها البعض بشكل يجعل من الوزير أو المسؤول الإداري الأعلى له سلطة واسعة بشكل تتداخل فيه مصالحه الخاصة بالمصالح العامة، ما يمكنه من اتخاذ أي قرار وفق ما يتلاءم ومنظوره الشخصي للأمور، حتى ولو كان هذا القرار خاطئا أو جائرا، دون إمكانية إثارة مسؤوليته أو محاسبته.
الإدارة العمومية المغربية هي صورة مصغرة للمجتمع المغربي، كما أن معظم العائلات المغربية أحد أفرادها على الأقل موظف داخل الإدارة، وبالمقابل لكل موظف عائلة تتكون من مجموعة من المواطنين المتعاملين مع الإدارة. وبالتالي، فإنه من العبث فصل ما يقع داخل الإدارة العمومية عن واقع منظومة العادات والتقاليد والقيم والأخلاق المؤطِرة للمجتمع المغربي، وهو واقع يؤكد أن هذه المنظومة تعيش حالة أزمة حادة تهدد وجودها وديمومتها. فالممارسات غير الأخلاقية المنتشرة داخل المجمع، تنتقل بشكل أو بآخر، إلى داخل دواليب الإدارة العمومية بصيغ مختلفة فالمجتمعات الأكثر تخلفاً إداراتها العمومية فاسدة، عكس المجتمعات المتقدمة والواعية تتوفر على إدارات عمومية فعالة. فالإصلاح الإداري الحقيقي يتطلب إعادة هيكلة وترسيخ منظومة القيم دخل المجتمع، كالصدق والإخلاص والتعاون والتضامن والتفاني والاحترام والعدل وتحمل المسؤولية ومحاسبة الذات، وغيرها.
إنّ النّجاح في هذا الإصلاح يرتبط بتغيير العقليات والأعراف السلبية داخل المجتمع والإدارة، إذ يمكن تغيير القوانين والبنيات الإدارية في ظرف وجيز. أمّا العقليات، فإنّ تغييرها يتطلب عقوداً مِن الزّمن وهو أمر صعب يتطلب إصلاح ومراجعة اختلالات الأسرة والمدرسة وعلاقة المواطن بالإدارة، التّي تتميز بالكراهية والنّفور والعداء، عوض أن تتأسس على الثقة والتفاهم.
حيثُ نجِد تعقد وبطء المساطر الإدارية، سواء تعلق الأمر بتلك المتصلة بالإجراءات الإدارية اليومية البسيطة التي تمكن المواطنين من الاستفادة من حقوقهم العادية وأداء التزاماتهم، أو تلك المرتبطة بتأسيس المقاولات وتدبير علاقتها مع أشخاص، فكثير من هذه الإجراءات لا يستسيغها المُرْتَفِق، ما يجعل القرارات التي جاءت بهذه الإجراءات لا تعكس توجه المجتمع، فتصبح عائقاً أمام المواطن بدل أن تكون سنداً له.
إنّ غياب الشفافية والتحفظ على المعلومة بجميع أنواعها واحتكارها يغذي مناخ ممارسة الرشوة واختلال آليات توزيع الثروة الوطنية بين أفراد المجتمع، ثم عدم فعالية تدخلات الدولة عن طريق آليات الدعم والامتيازات الخاصة التي تزيد الأمر تعقيداً واستمراراً لسرقة المال العام وتبذيره، فبالرغم من كلّ الجهود المبذولة من طرف السلطات العمومية ومؤسسات المجتمع المدني في هذا الميدان، تظل هذه الظاهرة قائمة. وبالتالي، فإنّ المجهود المبذول في هذا المجال يقتصر على بعض الحالات الخاصة والمنفردة، دون إمكانية الوصول إلى مستوى القطع النهائي مع هذه الممارسة وتفشي ظاهرة المحسوبية والزبونية إلى درجة أنّها أضحت تشكل منظومة قائمة بذاتها، من الواضح أنّ هناك شبه إجماع على أنّ العديد مِن الأغراض أو الحقوق أو الامتيازات المستحقة، من الصّعب الاستفادة منها من دون تدخل أحد النافذين داخل المجتمع، وهي إشكالية خطيرة لها مجموعة من الانعكاسات السّلبية والشطط في استعمال السلطة، فحينما لا يسود القانون يُفتح المجال أمام من يمتلك السلطة لممارستها على المستضعفين. وأمام عجز المنظومة القضائية الوطنية، والإدارية والعادية، لا يجد المواطن البسيط، بمن فيه الموظف، أيّ سبيل
لرفع الشطط الممارس عليه، وحتى لو أقرّ القضاء حقوق المواطنين، فإنّ الإدارة في كثير من الحالات تمتنع عن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الصّادرة ضِدها وتمتع المسؤولين الإداريين بسلطة تقديرية واسعة جداً إلى درجة أنّها تصبح سلبية وضارة. يتخذون من القرارات ما شاءوا وِفق منظورهم للأمور ضمن مجال اختصاصي واسع، وهو مناخ عام يساعد على تكوُّن شخصية الدكتاتور الإداري. وأنّ هؤلاء المسئولون لا يخضعون لأيّ رقابة أو تدقيق مستمرين لمنهجية وأسلوب تدبيرهم. وكمثال على هذا الواقع، نجِد أن قرارات مثل نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، ورفض أو تأخر تسليم التراخيص والتأشيرات للمواطنين من جهة، أو تنقيل موظف تعسفاً أو تأديبه أو حرمانه من الترقية من جهة ثانية، تبدو قرارات قانونية ظاهرياً لاستنادها إلى بعض المبادئ التقليدية للقانون الإداري من قبيل المصلحة العامة واستمرارية سير المرفق العمومي، إلاّ أنّها تكون في واقع الأمر قرارات تعسفية تخدم المصلحة الخاصة للمسؤول الإداري وحاشيته أو جماعات الضغط، من دون استطاعة المتضرر، الطرف الضعيف في هذه المعادلة، إثبات ضرره قانونياً وقضائياً. وهذه كلّها أمور تولد الحقد والتمرد الإداري داخل هياكل الإدارة العمومية، والنّفور والكراهية في صفوف المواطنين في علاقتهم مع الإدارة.
خلاصة القول أنّ إصلاح الإدارة العمومية مطلب صعب جداً، لا يرتبط باتخاذ بعض الإجراءات الإدارية التنظيمية الشكلية والسطحية التي تهرول إليها بعض الإدارات العمومية كلّما تم توجيه تعليمات عليا في هذا الشأن، بل إنّ الأمر أكبر من ذلك بكثير، فالإشكالات العميقة التي تعيشها الإدارة هي إشكالات سياسية ومجتمعية وثقافية قبل أنْ تكون إدارية.