تظل التدابير التي تتخذها الدول على طريق الانتقال نحو الديمقراطية غير ناجعة وغير متينة؛ إذا لم تستحضر ضمن مقوماتها إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته؛ على اعتبار أنه يشكل الدعامة الأساسية التي يفترض أن تحمي الديمقراطية وتقويها من خلال فرض سيادة القانون وإعطاء بعد قوي للمؤسسات. ولا شك في أن القضاء بدوره يظل بحاجة ماسة إلى فضاء ديمقراطي مبني على الشفافية والتداول السلمي للسلطة؛ بالصورة التي تمنحه القوة والشجاعة في تطبيق القوانين وحماية الحقوق والحريات.
ترتبط الديمقراطية عادة بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي بما يسمح بإشراك المواطنين في تدبير أمورهم والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تهمهم، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة على تدبير الاختلاف بشكل بناء. وهي مسيرة معقدة ومركبة تحتاج إلى مجموعة من العوامل والشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والقانونية والمؤسساتية.
إنها عملية مجتمعية تخص الحاكمين كما المحكومين وترتبط بالقيم وبالمؤسسات؛ وتشمل العديد من المبادئ مثل الإصلاح الدستوري؛ ومبدأ الشفافية والاعتراف بسيادة القانون. والإقرار بنظام التعدد السياسي وتطوير المجتمع المدني والتداول السلمي على السلطة
وقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفقرة الثالثة من مادته الحادية والعشرين على أن "إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة؛ ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية واة بين الجميع أو حسب رأي إجراء تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المسامماثل يضمن حرية التصويت".
وهكذا؛ تزايد الاهتمام الدولي في العقود الأخيرة بقضايا الديمقراطية باعتبارها عنصرا أساسيا من عناصر الحماية الدولية لحقوق الإنسان؛ وتبين ذلك سواء من خلال التدابير والإجراءات التي تتخذها الأممالمتحدة باعتبارها منظمة عالمية أو من خلال بعض التدابير الانفرادية التي تقودها بعض الدول الكبرى في مواجهة الأنظمة التي تعتبرها غير ديمقراطية، بالصورة التي أضحى معها احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان مؤشرا أساسيا ضمن مجموعة من المؤشرات التي يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول.
وإذا كانت الممارسة الديمقراطية تسمح بخلق فضاء مناسب لبناء قضاء قوي؛ فإن وجود قضاء مستقل يشكل من جانبه دعامة متينة للممارسة الديمقراطية وترسيخ المساواة أمام القانون.
إذن؛ هناك علاقة قوية متبادلة بين إصلاح القضاء والممارسة الديمقراطية؛ فالديمقراطية تظل بحاجة ماسة إلى قضاء مستقل قادر على مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية؛ بعيدا عن أي تدخل قد تباشر السلطات الأخرى؛ مثلما يظل القضاء من جانبه بحاجة إلى شروط موضوعية وبيئة سليمة مبنية على الممارسة الديمقراطية تعزز من مكانته وتسمح له بتحقيق العدالة المنشودة؛ بعيدا عن أي استهتار أو انحراف بالقوانين.
يقصد باستقلالية القضاء؛ عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية؛ بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.
ويفترض أن يقوم مبدأ الاستقلالية على مجموعة من المرتكزات التي تعززه؛ من قبيل اختيار قضاة من ذوى الكفاءات والقدرات التعليمية والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية؛ وتسمح للقضاء بأن يحظى بنفس القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية؛ وتجعله مختصا على مستوى طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة؛ مع توفير الشروط اللازمة لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلى وجود ضمانات خاصة بحماية القضاة من أي تدخل يمكن أن تباشر السلطتين التشريعية والتنفيذية في مواجهة أعمالهم أو ترقيتهم أو عزلهم؛ وإحداث نظام تأديبي خاص بهم، كما يتطلب وجود هيئة مستقلة تسهر على اختيار القضاة وتعيينهم على أساس الكفاءة وتأديبهم.
وينطوي مبدأ فصل السلطات على أهمية كبرى على اعتبار أنه يحدد مجال تدخل كل سلطة على حدة ويمنع تجاوزها، غير أن هذا المبدأ لا يعني الفصل الصارم والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية؛ السلطة التنفيذية؛ السلطة القضائية) ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلى سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام والقرارات، كما يظل بحاجة أيضا إلى قوانين ملائمة تصدرها السلطة التشريعية؛ كما أن المشرع بدوره يظل بحاجة إلى السلطة التنفيذية والقضائية؛ والسلطة التشريعية بحاجة إلى السلطتين القضائية والتنفيذية.
ومن هذا المنطلق فالعلاقة يفترض أن تكون في إطار الضوابط القانونية دون تجاوز أو مصادرة؛ فالقضاء الدستوري هو الذي يبت في مدى دستورية القوانين؛ فيما يختص القضاء الإداري بالنظر في مدى شرعية أعمال الإدارة وإمكانية إلغاء قراراتها في حالة وجود تعسف في استعمال السلطة.
إن السلطة التنفيذية لا يجوز أن تتطاول على المهام القضائية بالضغط أو التأثير؛ أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في حقها من قبل مختلف المحاكم؛ أو تعطيل تنفيذها أو توجيه النقد إليها؛ مع الحرص على توفير الشروط التقنية والمادية الكفيلة بضمان حسن سير العدالة.
وعلى السلطة التشريعية أيضا؛ ألا تتدخل في أي منازعة تندرج ضمن الاختصاص المخول للقضاء؛ أو منح جزء من صلاحياته إلى جهات أخرى.
ومعلوم أن القضاء الاستثنائي الذي تجسده المحاكم الخاصة؛ يعد أحد العوامل التي تسيء لاستقلالية القضاء؛ من حيث كونه يسمح للسلطات التنفيذية والتشريعية بالتدخل في مسار القضايا المعروضة عليه.
لقد أكدت العديد ن المواثيق والإعلانات والقرارات الدولية على أهمية استقلالية القضاء في تحقيق العدالة؛ وطالبت الدول باحترام هذا المبدأ وبلورته ميدانيا؛ فالمادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 تؤكد على أن: "كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق؛ ولا فصل للسلطات؛ ليس لديه دستور".
كما أن المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تشير إلى أنه: "لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه".
وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان في مؤتمر "سانتياغو" سنة 1961 على أن "وجود قضاء مستقل يعد أفضل الضمانات للحريات الشخصية؛ وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية ترصد لتأمين استقلال السلطة القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخرى عليها، وذلك بالحيلولة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في إجراءات القضاء".
وفي نفس السياق؛ نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد وعرض للتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 أ د -21 المؤرخ في 16 كانون/ ديسمبر 1966 (تاريخ بدء النفاذ: 23 مارس/ آذار 1976) يؤكد في المادة 14 منه؛ على أن "الناس جميعا سواء أمام القضاء؛ ومن حق كل فرد؛ لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية؛ أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية؛ منشأة بحكم القانون".
وجاءت المبادئ الخاصة بميثاق القضاة الأوروبيين، ومبادئ رابطة القضاة الدولية، والإعلان العالمي حول استقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال عام 1983، وكذلك اتفاقية الرياض المرتبطة بسلوك القاضي العربي، لتلح على أهمية استقلالية القضاء؛ وتم التأكيد على ذلك أيضا ضمن المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأممالمتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في "ميلانو" بإيطاليا من 26 آب/ أغسطس إلى 6 أيلول/ ديسمبر 1985؛ حيث اعتمدت ونشرت بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 32/40 المؤرخ في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985؛ و146/40 المؤرخ في 13 كانون الأول/ ديسمبر 1985.
وقد تم التأكيد خلالها على ضرورة إيلاء الاعتبار لدور القضاة ولأهمية اختيارهم وتدريبهم مع حث الحكومات على بلورة مجموعة من المبادئ الأساسية التي تضمن هذه الاستقلالية في تشريعاتها وممارساتها الوطنية؛ من خلال: وضع الدولة لضمانات تكفل استقلال السلطة القضائية والتنصيص على ذلك ضمن بنود الدستور أو القوانين الأخرى، فصل السلطة القضائية في القضايا المعروضة عليها بشكل مستقل ومحايد؛ بعيدا عن أي ضغط أو تهديد أو تدخل مباشر أو غير مباشر، إعمال السلطة القضائية لاختصاصاتها فيما يتعلق بالقضايا ذات الطابع القضائي، عدم التدخل في الإجراءات والتدابير والأحكام والقرارات القضائية؛ عدم جواز إحداث محاكم استثنائية لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة في إطار النظام القضائي
المعمول به، ضمان سير الإجراءات القانونية بعدالة واحترام حقوق الأطراف؛ ثم توفير الموارد اللازمة والكافية التي تسمح للسلطة القضائية بأداء مهامها بطريقة سليمة.
ومن خلال ما سبق؛ يتبين أن استقلالية القضاء؛ تتأسس على مرتكزات ذات طابع شخصي ترتبط باستقلالية القاضي نفسه وحياده وحصانته المادية والمعنوية؛ وأخرى ذات طابع موضوعي ترتبط بتقوية القضاء بالشكل الذي يجعل منه سلطة حقيقية على قدم المساواة مع السلطات الأخرى وعدم التدخل في مهامها واختصاصاتها من لدن السلطات الأخرى(التشريعية والتنفيذية) أو التطاول والمساس بالاختصاص الأصلي للقضاء من خلال محاكم استثنائية أو مؤسسات تنفيذية وتشريعية.
يعتبر القضاء المستقل مؤشرا محوريا ضمن مؤشرات التنمية الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فهو مدخل فعال للتغلب على الجريمة في مختلف أبعادها ووسيلة رئيسية لتكريس العدالة وحماية الحريات وضمان احترام حقوق الإنسان؛ وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار؛ كما أن هناك علاقة وطيدة بينه وبين بناء مجتمع ديمقراطي.
إن استقلالية القضاء هي تجسيد للعدالة وعنصر محوري وهام ضمن الأسس التي ترتكز إليها دولة القانون وهي شرط من الشروط الضرورية التي تؤسس لتوازن السلطات؛ بما يسهم في ضمان الاستقرار داخل المجتمع ويكفل سير المؤسسات بشكل سليم؛ ويرسخ ثقة المواطنين فيها(المؤسسات) ويحمي الديمقراطية نفسها من كل انحراف أو زيغ.
فانتهاكات حقوق الإنسان التي تشهدها الكثير من البلدان العربية؛ لم تكن لتقع بنفس الشكل والوتيرة والخطورة في وجود قضاء قوي ومستقل.
كما أن الانتخابات التي تفرز نخبة يفترض أن تتولى تدبير الشأن العام والوطني والسهر على قضايا المواطنين الحيوية؛ تتطلب وجود قضاء فعال ومستقل قادر على ضمان نزاهتها ومرورها في جو سليم وبناء؛ من خلال معاقبة المفسدين وتكريس تكافؤ الفرص واحترام إرادة الجماهير.
ولذلك هناك عدد من الباحثين من يعتقد بأن وجود قضاء مستقل يؤكده ويحميه الدستور هو شرط أساسي للديمقراطية يتجاوز في أهميته إجراء الانتخابات ذاتها.
إن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته ليس بالأمر الهين كما يعتقد البعض؛ وإنما هو عملية مركبة تفترض تجنيد عدد من الجهات وتوافر إرادة سياسية حقيقية بالإضافة إلى شروط قانونية وتقنية مختلفة.
وهو مدخل حقيقي يسهم في تعزيز وترسيخ الممارسة الديمقراطية على أسس متينة؛ كما يسمح بوضع الشروط الكفيلة بتنمية مستدامة ترتكز إلى الثقة في القانون وتشجيع الاستثمار الوطني والدولي؛ والتحفيز على الاهتمام بالشأن العام وترسيخ مواطنة بناءة؛ وقد أكدت الكثير من التجارب الميدانية تلك العلاقة الوطيدة بين إصلاح القضاء والتطور الاقتصادي.
كما تحققت مجموعة من المكتسبات الهامة على طريق إصلاح القضاء؛ فقد أحدثت المحاكم الإدارية؛ التي تختص بالنظر في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وغيرها من القضايا الأخرى.. كما تم استبدال الغرفة الدستورية في المجلس الأعلى؛ بالمجلس
الدستوري الذي يسهر على مراقبة دستورية القوانين؛ وتم إلغاء محكمة العدل الخاصة؛ وإصدار العديد من النصوص والتشريعات القانونية كمدونة الأسرة ومدونة الشغل.. ومراجعة قوانين أخرى..
غير أن مجمل الإصلاحات التي طالت حقل القضاء؛ لم تكن بالنجاعة والفعالية التي تضمن استقلاليته؛ على الرغم من كثرة الانتقادات الموجهة له؛ الأمر الذي يمثل تشويشا على مختلف الإنجازات السياسية والاجتماعية التي حققها المغرب.
لقد حرص المشرع المغربي على التأكيد على مبدأ استقلالية القضاء؛ فالدستور المغربي في الفصل الثاني والثمانين من الباب السابع؛ أكد على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية.
كما أن هناك مجموعة من النصوص القانونية الأخرى التي حاول المشرع من خلالها ترسيخ هذا المبدأ؛ ونذكر في هذا السياق الظهير الخاص بالنظام الأساسي لرجال القضاء الذي أكد على استقلالية القضاة وعدم جواز عزلهم ونص على مختلف الضمانات الكفيلة بتوفير الشروط اللازمة لتحصينهم وتأمين حمايتهم وحريتهم في اتخاذ الأحكام والقرارات، وحاول المحافظة على حياد القضاة من خلال منعهم من ممارسة أي نشاط سياسي أو اتخاذ أي موقف ذي طابع سياسي.
ومعلوم أن المجلس يحظى بصلاحيات حيوية وهامة في علاقتها بالسلطة القضائية؛ فهو يسهر بموجب الفصل السابع والثمانين من الدستور المغربي على " تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم".
كما أن الفصل الرابع والثمانين؛ يشير إلى أن الملك يعين "القضاة بظهير شريف باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء".
إن خضوع القضاة للمجلس الأعلى للقضاء على مستوى التعيين والترقية والتأديب؛ تطرح مجموعة من الإشكالات في علاقتها باستقلالية القضاء بالمغرب؛ ذلك أن هذه المؤسسة الدستورية التي يرأسها الملك، وتتكون بموجب الفصل السادس والثمانين من الدستور - كما رأينا - من ممثلين عن السلطة القضائية(رئيس الغرفة الأولى بالمجلس وقاضيان من محاكم الاستئناف وأربعة قضاة من محاكم الدرجة الأولى يتم انتخابهم من قبل زملائهم)؛ تعرف حضورا وازنا للسلطة التنفيذية التي يمثلها وزير العدل والرئيس الأول للمجلس والوكيل العام للمجلس الأعلى باعتباره يمثل الحق العام.
وتبدو سلطات وزير العدل - الذي يترأس المجلس واقعيا وإن كان مجرد نائب عن الملك من الناحية القانونية - واسعة في هذا الشأن؛ فهو يملك صلاحيات تقديرية مهمة من حيث إمكانية إيقاف القاضي حالا إذا ارتكب خطأ خطيرا؛ بموجب الفقرة الثانية من الفصل 62 من النظام الأساسي لرجال القضاء؛ كما يلعب دورا أساسيا على مستوى ترقية القضاة بمقتضى الفصل 23 من نفس النظام؛ كما يمكنه تحريك الدعوى التأديبية ضد القضاة دون استشارة المجلس(الفصل 61 من نفس النظام)؛ وله إمكانية اتخاذ القرار بصدد منح التقاعد للقضاة الذين بلغوا سن الستين عاما أو إحالة ملف المعني بالأمر على المجلس الأعلى للقضاء لتقرير تمديد مدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين لنفس الفترة؛ بمقتضى ظهير وباقتراح من وزير العدل(الفصل 65 من نفس النظام)؛ بالإضافة إلى الرقابة التي يفرضها على مختلف الأنشطة
الثقافية والعلمية التي يمكن للقضاة أن يبشروها من قبيل المشاركة في ملتقيات ومؤتمرات علمية أو نشر دراسات وأبحاث(الفصل 15 من نفس النظام)..
ومن جهة أخرى وبموجب قانون المسطرة الجنائية؛ فإن النيابة العامة تعمل تحت سلطة وزير العدل.
كما يلاحظ أن المشرع الدستوري حرص على وصف المجال التشريعي والتنفيذي ب"السلطة"؛ حيث تحدث عن السلطة التشريعية في معرض تبيانه لممارساتها(من الفصل 52 إلى الفصل الثامن والخمسون من الدستور) وعن السلطة التنظيمية للوزير الأول(الفصل الثالث والستون من الدستور) أو في بابه الخامس عند الحديث عن علاقات السلطات بعضها ببعض(قاصدا العلاقة بين الملك والبرلمان)؛ أو في الفصل الثاني والثمانين حيث أكد على أن: "القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية".
وفي مقابل ذلك؛ نجده يستعمل مصطلح القضاء فقط دون اعتباره سلطة؛ عند تناول المجال القضائي؛ وهو ما يثير تساؤلات عديدة بصدد استقلالية القضاء ومدى اعتباره سلطة بالفعل أو مجرد وظيفة.
وعلى مستوى الممارسة الميدانية؛ تنامت الانتقادات الموجهة إلى القضاء المغربي في السنوات الأخيرة؛ نتيجة لبعض الممارسات التي تسيء لاستقلاليته ونزاهته؛ من قبيل عدم اعتماد الصرامة في تنفيذ الأحكام القضائية بما يجعل عددا كبيرا منها حبرا على ورق؛ والتأثيرات التي تباشرها السلطة التنفيذية على مسار القضاء وبخاصة فيما يتعلق ببعض المحاكمات ذات الصبغة السياسية أو المرتبطة بحرية الرأي والصحافة.
بالإضافة إلى مظاهر انتشار المحسوبية والرشوة وسيادة منطق التعليمات؛ وهي كلها عوامل تحول دون ترسيخ سيادة القانون وتكرس الاستهتار بالقوانين والإفلات من العقاب.
كما تزايدت التقارير الصحفية والحقوقية التي تتحدث عن انتشار الرشوة والفساد في هذا القطاع الحيوي؛ بالإضافة إلى عدم متابعة بعض الأشخاص ذوي النفوذ السياسي والاقتصادي رغم اقترافهم لجرائم ومخالفات قانونية؛ وعدم فتح عدد من الملفات المرتبطة بالفساد الإداري ونهب المال العام..
وفي هذا السياق؛ تعرض في السنوات الأخيرة عدد من القضاة للاعتقال والمتابعة بتهمة الارتشاء وعلاقتهم بمروجي المخدرات في شمال المغرب إلى جانب عدد من المسئولين في جهاز الأمن.
وأمام هذه الوضعية؛ تزايدت في السنوات الأخيرة المطالب الداعية إلى إصلاح وتقوية القضاء بالمغرب سواء من قبل فعاليات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية؛ ليكون في مستوى التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب.
بل إن العديد من المنتمين إلى هذا القطاع الحيوي (قضاة؛ محامون؛ موظفون) تحدثوا غير ما مرة عن مختلف المشاكل والاختلال التي يعرفها القضاء؛ وعبروا عن استيائهم من الظروف الصعبة التي يشتغلون فيها.
إن مطالب الإصلاح تجد أساسها في الوضعية الصعبة التي يعيشها القضاء بالمغرب؛ وفي أهمية وضرورة ذلك لبناء دولة ديمقراطية ترتكز إلى المؤسسات وإلى التوازن بين السلطات؛ بما يسمح بترسيخ مبدأ استقلالية القضاء ويتيح المحاكمة العادلة وحماية حقوق الإنسان في مختلف تجلياتها.
فهيئة الإنصاف والمصالحة التي أحدثت سنة 2004 من أجل طي صفحات قاتمة من تاريخ المغرب؛ أوصت في تقريرها النهائي الذي قدم إلى الملك بضرورة تعزيز مبدأ فصل السلطات؛ وبمنع الدستور لكل تدخل من طرف السلطة التنفيذية في تنظيم وسير السلطة القضائية.
وفي شهر مارس 2007 وخلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية للبرلمان المغربي؛ أكد العاهل المغربي عن عزمه فتح لقاءات تشاورية واسعة من أجل تغيير عميق وشامل للقضاء.
وعلى إثر هذا الخطاب؛ قامت وزارة العدل بإعداد مشروع يتضمن خطة شاملة لإصلاح القضاء والنهوض به.
وخلال اجتماع أعضاء الحكومة المغربية بتاريخ 03 أبريل 2009؛ قام وزير العدل بعرض المحاور الكبرى للمشروع؛ حيث أكد أنه ينطلق من "التشخيص الموضوعي لأوضاع القضاء وغاياتها الهادفة لتعزيز وتحصين استقلال القضاء وتحديثه وتأهيله للنهوض، بمهنية عالية وبكل فعالية، بدوره على أحسن وجه، كدعامة لدولة الحق، ولترسيخ الديمقراطية، وكدرع للأمن القضائي الضامن لسيادة القانون والمحفز على التنمية".
وفي هذه الأجواء قامت مجموعة من الجمعيات والمنظمات الحقوقية بطرح مذكرة تدعو فيها إلى إصلاح القضاء وقدمت مجموعة من المقترحات والتوصيات التي اعتبرتها مدخلا للرقي بالقضاء المغربي إلى سلطة دستورية قوية ومستقلة.
حيث أشارت إلى أن الإصلاح الحقيقي للقضاء ينبغي أن يبدأ بإصلاح دستوري يضع ضمانات فعالة تكفل استقلالية القضاء والفصل بين السلطات بدل التنصيص عليها فقط؛ وأكدت على أهمية إعادة هيكلة المجلس الأعلى للقضاء بالشكل الذي يجعله مستقلا بالفعل عن وزارة العدل التي هي جزء من السلطة التنفيذية؛ سواء من حيث موارده المالية أو من حيث مقره ومن حيث تركيبته التي ينبغي أن تتوسع وتنفتح لتضم قضاة ممثلين عن مختلف المحاكم المغربية وبعض الشخصيات غير القضائية من قبيل رئيس هيئات المحامين بالمغرب.
كما أوصت المذكرة بضرورة مصادقة المغرب على مختلف الاتفاقيات الدولية التي ستعزز دور القضاء واستقلاليته من قبيل معاهدة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية والاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري والبروتوكول الاختياري المحلق باتفاقية مناهضة التعذيب؛ مع التأكيد على أهمية تنصيص الدستور بشكل جلي وواضح على سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادق عليها على القوانين والتشريعات الداخلية.
وتم التأكيد في هذه المذكرة أيضا على حق البرلمان في التشريع في مجال العفو العام طبقا للقانون الدولي المعاصر.. وبخصوص الجوانب المتعلقة بالإصلاحات التشريعية الضامنة لاستقلال القضاء والمجلس الأعلى للقضاء، أوصت الجمعيات والمنظمات الحقوقية بضرورة توضيح مهام المجلس الأعلى للقضاء على المستوى الدستوري والقانون التنظيمي، على اعتبار أن هذه المؤسسة هي الممثل الدستوري الضامن لاستقلال السلطة القضائية عن
السلطتين التشريعية والتنفيذية، لتشمل تتبع الحياة المهنية للقضاة منذ تعينهم إلى تقاعدهم، وتتبع سير المحاكم على مستوى ضوابط توزيع المسؤوليات والقضايا والمهام القضائية التدبيرية للمحاكم، وتتبع التكوين، والسهر على التقيد بأخلاقيات المهنة وإقرار جزاءات على الإخلال بها، ومراقبة شروط تسيير المهن المساعدة للقضاء.
وحملت المذكرة توصية تدعو إلى تعديل القانون الخاص بالنظام الأساسي لرجال القضاء رقم 1.74.467 لسنة 1974؛ بما يسمح بتعزيز استقلالية القضاء واستقلال النيابة العامة عن وزير العدل.
كما تضمنت مقترحات أخرى ترتبط بتطوير عمل المعهد العالي للقضاء وتوحيد المعايير المرتبطة باختيار القضاة وتعيين قضاة التحقيق من طرف المجلس الأعلى للقضاء، وتوصيات أخرى تتعلق بمهنة المحاماة وكتاب الضبط وتنفيذ الأحكام وبنايات المحاكم وأوضاع السجون وإصلاح المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية وإصلاح المسطرة الجنائية وتوخي الشفافية ومحاربة الرشوة والسماح بالوصول إلى المعلومات..
وفي غمرة هذا النقاش؛ جاء خطاب الملك محمد السادس ليوم 20 غشت 2009 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب؛ ليجسد وجود إرادة لإصلاح القضاء؛ وليؤكد على أهمية بناء "قضاء فعال ومنصف باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية، وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين"، والرغبة في إحداث "هيأة استشارية قارة، تعددية وتمثيلية، تتيح للقضاء الانفتاح على محيطه".
وقد حمل هذا الخطاب دعوة إلى وزارة العدل من أجل الشروع الفوري في هذا الإصلاح من خلال التركيز على ستة مجالات؛ حددها الخطاب في دعم ضمانات الاستقلالية، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل القضائية والإدارية، وتأهيل الموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وتخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ.
إن فتح أوراش الإصلاح في هذا القطاع الحيوي؛ وتطهيره من مختلف العوامل التي تساعد على انتشار الفساد السياسي وخرق حقوق الإنسان واستغلال النفوذ ونهب الأموال العامة.. من خلال تعزيز الضمانات الدستورية في هذا الشأن؛ وتطوير وتحديث المحاكم؛ وإعادة النظر في تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء بالصورة التي تعزز استقلاليته عن السلطة التنفيذية المجسدة في وزير العدل؛ بالإضافة إلى تأهيل وتطوير العنصر البشري في وزارة العدل؛ واعتماد الصرامة في مواجهة كل ما من شأنه التأثير في هذه استقلالية هو مدخل أساسي وحقيقي للانتقال نحو الديمقراطية، وهو أمر لن يتأتى إلا بفتح نقاش واسع وبناء تنخرط فيه مختلف الفعاليات المجتمعية إلى جانب الدولة.