من دون التطرق ، في هذا المقال ، لجميع أنواع المحاضر المنصوص عليها في بعض القوانين المغربية ، و التي بمقتضاها ، يتم التأكد و التثبت من الجرائم ، بجميع أنواعها ، وفق شكليات معينة ، فإنه سيتم الاكتفاء فقط بأهمها ، خاصة من ناحية الإثبات . و أعني بذلك ، المحاضر التي يقوم بإنجازها ضباط الشرطة القضائية ، في شأن التثبت من الجنح و المخالفات التي يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات . ربما، أن هذا التفضيل ، و هذا الاهتمام ، في معالجة هذا النوع من المحاضر، دون غيره من المحاضر الأخرى ، يرجع بشكل أساسي ، إلى ما تحض به ، من قيمة في الإثبات . و هو ما يعطيها ، في نفس الوقت ، مناعة قوية ، يصعب في ظلها ، إثبات عكس مضامينها . يضاف إلى ذلك أيضا ، ما يمكن أن يترتب عنها من آثار ، و هي على هذا
الشكل ( الشبه المقدس الذي لا يمُس ) . و التي تكون في بعض الأحيان وخيمة ، ليس على المستوقفين فقط ، و إنما على المجتمع بصفة عامة .
و التاريخ المغربي ، خاصة في المحاكمات السياسية ، مفعم بالأمثلة التي يتغيب فيها كل شيء ، و لا يحضر إلا ما هو مضمن في محاضر الضابطة القضائية . و لعل هذا ، هو الذي شكّل لدى من يشتغل في المجال الحقوقي ، خاصة هيئة الدفاع ، أرق مزمن ، لازمهم منذ أمد طويل ، و لا زال يلازمهم لحد الساعة .
إن هذا الاكتفاء في الدرس ، المحدد في نوع خاص من محاضر الضابطة القضائية ، سوف تنحصر محاوره ، و ذلك عن قصد متعمد ، في أربع فقرات أساسية فقط . مع أن ذلك سوف يتم بشكل مقتضب . إذ أن الفقرة الأولى ، سوف تخصص إلى معرفة ما تحضى به هذه المحاضر من قوة في الإثبات . فيما الفقرة الثانية ، سوف تخصص لمعرفة الصعوبات التي تحول دون إثبات ما يخالف هذا النوع من المحاضر . و الفقرة الثالثة ، سوف تخص الآثار التي من الممكن أن تترب عنها في الواقع العملي . أمّا الفقرة الرابعة و الأخيرة ، فسوف تكون لبسط و معرفة تعامل هيئة الدفاع معها . على أن نحتم الموضوع بخاتمة قصيرة ، نعرض فيها بعض المقترحات الشخصية انطلاقا من الواقع العملي .
أولا : قوة الإثبات التي تتميز بها المحاضر التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في الجنح و المخالفات .
ينص الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية ، على أن المحاضر و التقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح و المخالفات ، يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات .
إذا ، فمن خلال استقراء لهذا المقتضى القانوني ، يتضح على أن المحاضر التي ينجزها ، بالضرورة ، ضباط الشرطة القضائية ( و هو شرط لصحتها ) ، فيما يخص الجنح و المخالفات ، يوثق بمضمونها ، ما لم يثبت عكس ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات . و هذا يعني ، أن تحقق هذا الشرط ، و ذلك بعدم إثبات عكسها ، و إتيانها وفق الشكل المطلوب شكلا ، يجعل مضامينها ، و كل التصريحات المضمنة بها ، حجة دامغة ، يعتمد عليها بشكل كلي في إصدار المقررات القضائية.
و لعل ذلك ، يظهر جيدا ، في أحد الشكليات ذات الأهمية البارزة ، التي اعتبرها المشرع شرط وجوب في كل المحاضر ، و رتب عنها البطلان . و ما فتئ محررو المحاضر ، كيفما كان نوعهم و صفتهم ، يحرصون أشد الحرص ، على عدم إغفالها ، و يجتهدون منتهى الاجتهاد في التوصل إليها . فتوقيع المصرح ، المستوقف ، على كل ورقة من أوراق المحضر ، يعتبر إجراء ضروري . و في حالة الامتناع ، الذي قلما يحصل ، يشار إلى ذلك في المحضر بشكل صريح .
و التوقيع ، يعني الاعتراف المطلق ، بكل ما ورد في ذلك المحضر . مما يعني أيضا ، أن كل ذلك ، منسوب إلى المصرح ، بمحض ذلك التوقيع ، الذي أمهره بيده ، على كل ورقة من أوراق المحضر . و هذا، ما يجعلها ذات قوة ترجيحية كبرى ، تضاهي في ترجيحها السندات الرسمية .
و وفق هذا المنطق ، فإن ما ينطبق على هذا النوع من المحاضر ، ينطبق أيضا على المحاضر الأخرى ، التي اعتبرها المشرع مجرد بيانات . كما هو الأمر في الجنايات ، أو المحاضر التي لا ينجزها ضباط الشرطة القضائية . ذلك أن إتيانها وفق الشكل المطلوب ، مع التسليم بصعوبة إثبات عكسها ، تجعلها من ناحية الإثبات ، في مرتبة تعادل مرتبة المحاضر التي لا يطعن فيها إلا بالزور .
ثانيا : صعوبة إثبات ما يخالفها .
دائما و في نفس الفصل ، أي الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية ، فالمشرع ، حينما نص على أن هذا النوع من المحاضر ، يمكن إثبات عكسها بأي وسيلة من الوسائل ، فإنه لم يحدد ، لا صراحة ، و لا ضمنا ، هذه الوسائل . لقد ترك ، ربما عن حسن نية أو عن غيرها ، الباب مواربا للاحتمالات المتعددة .
و كما هو معلوم ، فإن مهمة وضع تعريفات للمفاهيم القانونية ، تعود بالدرجة الأولى إلى الفقه . في حين أن الاجتهاد القضائي ، و عن طريق الممارسة و الاعتياد ، يقوم بمهمة التحديد و التوجيه للعمل القضائي ، خاصة في بعض الأمور القانونية التي تتسم بالنقص و يطبعها اللبس . و الفراغ الموجود في هذا النص القانوني ، الذي نحن بصدد الكلام فيه ، بخصوص عدم تحديد وسائل الإثبات ، التي من الممكن أن يتم من خلالها إثبات عكس ما هو مضمن في مثل هذه المحاضر ، ما هو إلا واحد من الأمثلة العديدة التي تزخر بها المنظومة القانونية المغربية .
و رغم أن الاجتهاد القضائي ، قد فعل المطلوب منه ، في هذا الصدد ، و حدد بعضا من هذه الوسائل ، كشهادة الشهود ، أو التناقض الذي تعرفه أجزاء المحضر الواحد .. إلا أنه لم يأت على تحديد و ذكر كل ما من شأنه ، أن يكون وسيلة دحض و إثبات لعكس ما جاء في المحاضر . حتى لا يكون هناك إفراط أو تفريط في التعامل معها .
لكن ، قد يبدو للعارفين في هذا المجال ، أن هذا الأمر ، طبيعي جدا ، مادام أن المحاضر ، تختلف و تتعدد باختلاف القضايا ، ولا يمكن معها و الحالة هذه ، حصر و تعداد كل هذه الوسائل . و لهذا السبب ، و أسباب أخرى ، ربما تم (منح) ، قناعة القاضي ، السلطة المطلقة في ترجيح صحة مضامين المحاضر من عدمها ، خاصة في المجال الجنحي . و أثر ذلك ، موجود و ملموس و مرئي ، في العديد من قرارات محكمة النقض .
حيث نوهت في أحد قراراتها بعمل القاضي ، الذي مارس سلطته التقديرية و قناعته ، في استبعاد محاضر الضابطة القضائية ، فقط لتناقض أجزائها ، برغم من عدم وجود أي من الوسائل التي من شأنها أن تثبت العكس.
من هنا ، و مع كل هذا ، يتضح جليا ، صعوبة إثبات عكس ما جاء في هذا النوع من المحاضر . خاصة و أنه في بعض الشكليات المتطلبة لإنجازها ، المنصوص عليها أيضا في قانون المسطرة الجنائية ، تزيد صعوبة على هذه الصعوبة . لعل أهمها ، كما سبق و تم التعرض له في الفقرة السابقة ، يكمن في توقيع أوراق المحضر ، من قبل المصرح . مؤكدا و معترفا بذلك التوقيع ، على نسبته إليه ، جميع ما ضمن بتلك الأوراق من أقوال و تصريحات . و دائما ، و أثناء أطوار المحاكمة ، ينكر المصرح ، كل ما هو منصوص عليه في تلك المحاضر ، لكنه يواجه بذلك التوقيع ، الذي اجترحته يداه في مخفر الشرطة .
و هنا ، تعدم الوسيلة ، أمام حقيقة و صحة التوقيع ، ولم يعد من شيء آخر قد ينفع . ما عدا ملتمسات ، من قبيل التخفيف .
ثالثا : الآثار التي تتربت عنها .
من النادر جدا ، أن نسمع في المجال القضائي ، أنه قد تم استبعاد أحد محاضر الضابطة القضائية ، لأي سبب من الأسباب المشروعة قانونا . إما ، لبطلانها و إما لتناقضها و عدم صحتها.. و حتى إذا ما حصل ، فهو يعتبر شجاعة ما بعدها شجاعة .
و نظرا ، لصعوبة إثبات عكس ما جاء في تلك المحاضر ، فإن المشرع رتب أيضا ، على عدم احترامها للشكليات المتطلبة ، البطلان . لكنه ، فعل ذلك على مضض . ذلك أن مثل هذه الأمور ، التي تعرف في مجال القانون ، بالدفوع الشكلية ، تكون بالضرورة ، قبل أي دفع أو دفاع في الجوهر . و حتى الادعاء ، بتعرض الموقوف ، للعنف ، الذي
أفضى إلى إدلاءه بتلك التصريحات و الاعترافات ، رتب عليه الرفض ، إن لم يثار في مرحلة دقيقة من مراحل المحاكمة ، وبالضبط أثناء تقديمه أمام النيابة العامة .
كل هذا ، يعطي الانطباع على أن ما هو موجود في المحاضر ، المحررة من قبل محرريها كيفما كانت صفتهم ، يمثل الحقيقة و لا شيء غير الحقيقة . الأمر الذي يترتب عنه ، إصدار كل الأوامر و الأحكام و القرارات ، و هي مرتكزة بشكل أساسي ، على ما هو مضمن في هذه المحاضر .
رابعا : تعامل هيئة الدفاع مع هذا النوع من المحاضر .
ربما ، إن بداية المتاعب التي تنهك هيئة الدفاع في تعاملهم مع مثل هاته القضايا ، خاصة إن كان المتابع فيها ، في حالة اعتقال ، تبتدئ منذ الوهلة الأولى . أي منذ إلقاء القبض على المعني بالأمر ، مرورا بمرحلة البحث التمهيدي ، وصولا إلى مرحلة التقديم أمام النيابة العامة و الإحالة على قاضي التحقيق من طرف هذه الأخيرة ، إن اقتضى الأمر ذلك .
و الأسباب التي تكرس ذلك ، كلها أسباب قانونية مسطرية . إضافة ، إلى ضحالة الوعي بثقافة التقاضي ، لدى شريحة واسعة من المغاربة . ذلك أن المحامي ، رغم أن القانون يسمح له بمؤازرة المتهم ، منذ لحظة استوقافه من قبل الضابطة القضائية ، لكن على أرض الواقع ، يتم تغييب هذا المقتضى الذي يعتبر مهما جدا . و في الأغلب الأعم ، لا يتدخل ، إلا أمام النيابة العامة أو أمام هيئة الحكم . أي بعدما يجد أن كل شيء ، قد انتهى و تمّ ، بإتمام تحرير المحاضر ، و إرسالها إلى النيابة العامة ، لكي تصك اتهاما وفقا لما تشاء لها مضامين تلك المحاضر . و هو الأمر الذي يجعل المحامي ، يجد صعوبات جمة ، أمام المناعة القوية ، التي اكتسبتها هذه المحاضر من النصوص القانونية .
و القانون ، يشدد على الحق في الاستعانة بمحامي ، حتى أثناء مرحلة البحث التمهيدي . بحيث اعتبر ، مجرد عدم تذكير المستوقف بهذا الحق ، و الإشارة إلى ذلك في المحاضر ، كحق من الحقوق التي يخولها القانون للمستوقف ، خرقا شكليا ، يترتب عليه ، بطلان المحضر برمته . و من الممكن ، في حالة العوز ، أن يتم تعيينه في إطار المساعدة القضائية . لكن هذا المقتضى لا يُفعّل إطلاقا ، و يتم الاكتفاء بذكره فقط ، على صدر أوراق المحاضر ، كشكل من أشكال الزينة لا أقل و لا أكثر .
و حتى تظهر هذه الصورية جيدا ، فإنه على فرض حضور المحامي ، كمؤازر ، خلال هذه المرحلة الحساسة من مراحل المحاكمة ، أي أثناء مرحلة البحث التمهيدي ، فحضوره هذا ، يكون صوري ، أكثر منه واقعي . ذلك أن القانون لا يسمح له ، خلال هذه المرحلة ، إلا لبرهة وجيزة ، للتخابر مع موكله . كما يسمح له ، أن يدلي ببعض الوثائق ، إن ظهر له أنها تخدم مصالح موكله .
و أمّا أثناء الاستنطاق ، أمام قاضي التحقيق ، فوجوده أقرب إلى ملاحظ أو مراقب منه إلى دفاع . إذ لا يمكنه ، أخذ الكلمة . و يمكنه فقط ، أن يقوم بطرح استفسارات ، و بعد أن يسمح له قاضي التحقيق بذلك .
و أمام كل هذا التقزيم من الطول الطبيعي لتدخل المحامي ، كما هو متعارف عليه عالميا ، و أمام هذا الصمام المنيع ، الذي أحيطت به محاضر الضابطة القضائية من كل جانب و زاوية ، يجد المحامي نفسه أمام مواجهة ، يصعب كسب رهانها .
ختاما ، ينبغي التذكير ، على أنه و من أجل الزينة فقط ، فقد أشارت ، أحد الحكومات السالفة ، إلى عزمها تزويد مخافر الشرطة القضائية ، بكاميرات مراقبة ، و ذلك لأجل هذا الغرض . أي لتجنب ، القيل و القال ، حول طريقة تحرير المحاضر في مخافر الشرطة . و أيضا من أجل إعطائها الشرعية و المشروعية الكاملتين . و قد اتضح ذلك
مؤخرا ، في أحد القضايا التي كانت مثار جدل وسط الرأي العام . لتظهر الكاميرات فيما بعد ، المصرح و هو يوقع على أقواله ، بعد أن تلاها بنفسه . أي من دون ضغط و لا إكراه .
لكن ، أمام صعوبة هذا الأمر ، و أمام عدم تعميمه ، و أمام عدم تفعيل حضور المحامي كمؤازر خلال مرحلة البحث التمهيدي ، و أمام قلة ثقافة التقاضي لدى الغالبية العظمى من المغاربة ، فضلا عن العناية الكبرى التي أحاطها المشرع بالمحاضر ، قاطبة ، سيبقى الحال على ما هو عليه . و دائما ، ما سوف يشار بالبنان ، إلى هذه النقطة بالذات .