ينتهي الفاعل السياسي في عالم اليوم بتسليم المفاتيح والقيادة لفاعل آخر في أجواء من روح الديمقراطية والتناول السلمي للسلطة وفق قواعد ثابتة في التدبير والتسيير . ومعيار الانتقال يكون من التصويت في انتخابات شفافة وذات مصداقية وملفوفة بنظام أساسي يمنح الرئيس مدة معينة ومحددة في تدبير الشأن العام للبلد أو بناء على توافقات في تدبير المؤسسات والهيئات الفاعلة .هكذا تبنى الديمقراطية وفق كفاءتين أخلاقية وفكرية . ديمقراطيات عريقة في الغرب ودول ناشة وصاعدة في آسيا وإفريقيا دخلت في غمار التعددية وفي معترك الإصلاح لأجل ضخ دماء جديدة في شريان العمل السياسي والحزبي . عسل السلطة في انتهاء المدة الزمنية في قيادة المجتمع نحو الإصلاح وترك بصمة تنير طريق الشعوب نحو التقدم والرفع من مستوى العمل السياسي في بلد ما . لا تدوم السلطة بالقواعد التقليدية في علاقة الشيخ بالمريد ولا في تحالفات مدعومة بالنزعة القلبية والجغرافية أو وحدة العرق واللغة ومواصفات القائد المقبول في لم الشتات وتجنب الانقسام والإبقاء على وحدة متماسكة ومتناسقة داخل هياكل التنظيم من الجزائر تعالت صيحات الجماهير في خروج للشارع للتعبير عن الضيق والسخط من جراء إقبال الرئيس على استكمال العهدة الخامسة . لا يصدق العاقل والتافه من الناس مهما كانت ثقافته السياسية عالية أو محدودة في إدراك استحالة القيادة والرئاسة في ظل الشلل وعدم القدرة على الخطاب والكلام . فمن مصلحة القائمين على الشأن السياسي في الجزائر منح تقاعد مريح للرئيس . وشكره على العمل والتفاني في لملمة الجراح في سياسة الوئام المدني وعودة المجتمع إلى طبيعته بعد سنوات عصيبة من الحرب الأهلية الضارية خلفت كدمات وجروحا عميقة في الذاكرة .إراحة الرئيس في وضع معقول يريح الشعب لإقامة ديمقراطية وانتشال السلطة من الحكم العسكري وذوي المصالح والامتيازات . حلاوة السلطة والتسلط تسري في عروقنا ويبدو أننا شربنا حليب السلطة وبقيت عالقة في أذهاننا منذ المراحل المبكر من عمرنا . وأنها بالفعل عميقة ومتأصلة في أعماق اللاوعي . توجه الفعل والسلوك وترغمنا في الاستكانة وعدم القول والتعبير عن ما يخالجنا من رغبة واعية في العبور نحو القرن الواحد والعشرين بكل ثقة . في عالم يتقدم كما وكيفا . ويطالبنا العالم أن نغير من قشورنا بعيدا عن التقاليد وكاريزماتية الزعيم الملهم للجماهير والمستحوذ على العقول والقلوب .
تضاربت الأنباء والآراء من المكان وخارجه عن نقل السلطة للرئيس المنتخب ويبدو في الأمر تناقضات أو تحايل في تهدئة الأوضاع والبحث عن الشخص المناسب باليات الطبقة الحاكمة وليس باختيار الشعب . الجزائر في حاجة إلى عقد اجتماعي . عقدة للحل والسلم وعقدة في الإنصاف والمصالحة الحقيقية بين الشعب والحاكم . دون تخويف أو ترهيب الشعب الجزائري بالعودة للمرحلة السابقة من 1988 في إلغاء الانتخابات البرلمانية ودخول الشعب في حرب أهلية طاحنة . لكن الجماهير التي عبرت ونددت وطالبت بحقها في رئيس منتخب برهنت للعالم من خلال الصورة العابرة عن درجة الرقي الحضاري والاحتجاج السلمي والمطالب العادلة والمشروعة . ونقلت الصورة بواسطة متابعين بالملايين في شبكات التواصل الاجتماعي عن رغبة الجزائر في طي صفحة الماضي وكل مخلفات التسلط والتفرد في الحكم . عانت الجزائر كما قال مالك بن نبي من الاستعمار والقابلية للاستعمار الذي حاول طمس الهوية . وفي أجواء من السلم الحضاري تحتاج الجزائر إلى عقد اجتماعي بمثابة ميثاق و دستور ينهي الاحتقان الشعبي . عقد منصف للعلاقة المتجددة بين الحاكم والشعب دون تدخل عسكري في الشأن السياسي . أن يعود الجنرال إلى عمله في أداء الواجب المناسب . وان يكون يقظا في حماية وحدة الشعب والجغرافيا وان يقتصر تدخله في الشدة والحاجة والتنبيه للمنزلقات ليس إلا .وظيفة المؤسسات المدنية تختلف في الرؤى والمرامي عن هيمنة الحزب الواحد ومنطق القوة في السياسة والتدبير من منطلق الحياة المدنية والتنظيم وفق وظائف المؤسسات والقوانين الوضعية .
دلائل وحقائق في التاريخ البعيد والقريب تشير إلى مساوئ الحكم العسكري وحاجة الدول في ميلاد الدولة المدنية بالمؤسسات والقوانين الوضعية . فالعقدة هنا تندرج ضمن سياق الحفاظ على الحق والكرامة وصيانة الممتلكات وتصويب السياسة نحو العمل المشتركة والإرادة العامة للبلد الذي يحق له انتخاب من يمتلك القدرة والكفاءة والخبرة. العقلاء في الجزائر يقدمون مواصفات الحلول للخروج من الأزمة واحتوائها حتى لا تنزلق في العودة إلى "حالة الطبيعة" وحق القوة . وحرب الكل ضد الكل كما في تعبير الفيلسوف توماس هوبس . الحرب التي عانت منها الجزائر لازالت راسخة في مخيال وذاكرة الكل . وبالتالي فالعودة للامس يعني غياب الأمن والسلم . هيمنة الحرية المطلقة وتكريس الاستبداد وغياب القوانين والعقوبات الردعية . عالمنا المعاصر انتهى بالعديد من الدول للعدالة الانتقالية إلى بناء الثقة بين الحاكم والشعب والى طي صفحات الماضي الأليمة .
فالالتفاف وإعادة ترسيم الأشياء وفق ما ترمي إليه الدساتير من السلطة المقيدة ومن قوة المؤسسات العاملة ومن حق الإنسان في التقدم وبناء دولة الحق والقانون والتي ليست مستحيلة أو ممارسة مثالية في عالم الخيال بل دولة واقعية ومادية وسلطتها مأمولة النتائج في العبور بالجزائر نحو المستقبل .مخاوف الجار واقعية . ومنتظرات الجماهير الشعبية عملية . والمطالب الآنية ليست بالفعل ايديولوجية في توجهات الحركات الإسلامية أو اليسارية أو القومية . خروج الناس في شعارات موحدة تستهدف بالدرجة الأولى انتخاب رئيس جديد وتحييد الحكم العسكري وبقايا الفرانكفونية المهيمنة اقتصاديا وإعادة توزيع الخيرات الطبيعية ورسم سياسة للمستقبل القريب والبعيد .
يستمر الحراك في الجزائري ويترقب الكل في 28 ابريل أن يعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن نهاية العهدة ويسلم السلطة بعدما قضى أطول مدة في الرئاسة التي دامت 20 سنة . في تجربة الرجل وعهدته تحقيق سياسة الوئام المدني
. مشكورا على سنوات العمل ولنترك التقييم للمحللين والإنصاف للتاريخ والذاكرة الجماعية . أما في المغرب فقد شكلت العهدة الجديدة لإعادة انتخاب أمين عام نقابة الاتحاد المغربي للشغل حدثا وسط مجموعة من الفاعلين في الأحزاب السياسية ومنهم الأحرار واليسار الاشتراكي وعدد من الأطر النقابية . فكان الحضور مكثفا . وبذلك يقتفي الميلودي موخاريق أثر تجربة المحجوب بن الصديق في مدة تجاوزت ولايتين . التيار التصحيحي من داخل النقابة رفض إعادة انتخاب موخاريق واعتبر ذلك خرقا للنظام الأساسي الذي يحصر ولاية الشخص مرتين فقط. انقسام تولد من اتهامه لاحتكار الرأي والسلطة . وغياب للديمقراطية التي تنادي في تحقيقها النقابة كمبدأ في قيام مجتمع متوازن. ومن هنا تبدو المفارقة واضحة بين الخطاب والفعل في رؤى الحركة المضادة . مما يستدعي العودة للمنطلقات التأسيسية ومشروعية القيادة من الالتزام بالقانون الأساسي المنظم للعمل النقابي .
يقود الحركة رشيد المنياري وغيره في صراع الأجنحة . ومن قناعة المعارضة أن السيد موخاريق فاقد للشرعية وانه تجاوز الخط الديمقراطي الذي رسم الممكن وغير الممكن للامين العام . الاتهامات بالجملة وهي عامة وشاملة لكل الزعامات من الانتهازية والتحايل والاستفراد بالسلطة وعدم تجديد الإطار التشريعي وعامل السن والشيخوخة لأغلب الأطر النقابية. والالتفاف على القانون الأساسي المنظم لانتخابات الأمين العام للنقابة. إضافة إلى تقادم الهياكل والإطارات وإعادة إنتاج منظومة فكرية وثقافية وتكييف القانون وفق المصلحة الذاتية وتغيير المساطر وانتهاك الحق في إعادة انتخاب الإنسان المناسب بناء على مشروعية قانونية. في مضمون الحكامة الجيدة وفي عقلنة الممارسة ونهاية الاستفراد بالسلطة وحق الجميع في التصويت على القيادي المناسب في ضح نفس آخر في العمل النقابي من أدبيات الديمقراطية في التجديد وإعطاء صورة عن الفاعل النقابي من البيت الداخلي قبل الصورة الخارجية في تطابق الأقوال والأفعال في معركة النضال وانتزاع الحقوق والثبات على مكتسبات الطبقة العمالية . لا زلنا خاضعين للعلاقة الثنائية بين الشيخ والمريد وتظل الأدبيات على حالها في تمرس النقابي وحقه في القيادة الحتمية . تمرسه في إعادة تكرار واجترار خطاب ينهل من قاموس يعج بالكلمات والمصطلحات من قبيل الحوار الاجتماعي والهشاشة والفقر والتنصل من المسؤولية والجماهير والقوى العمالية والنضال والحقوق والإضراب حق مشروعية والتفاوض ...
حصيلة النتائج هزيلة من سنوات النضال والمطالب في تزايد والملفات العالقة بدون حلول عملية . فمن النتائج الهزيلة والضعيفة أهمها صعوبة انتزاع الحقوق من الحوار الاجتماعي ونفور شريحة واسعة من الموظفين والعمال في عملية الانخراط بالنقابات لأسباب يجب احترامها في أقوال ومبادئ الناس أن العمل النقابي يشوبه اللبس والضبابية في العديد من الملفات الخاصة بقطاعات حيوية مهمة. وان المركز لا يستمد القوة من الفروع . وتأتي القرارات من فوق .وغياب التشارك والتنسيق بين المركز والأطراف . وتشكيك التنسيقيات في جدوى العمل النقابي ونتائجه . فلا تقتصر الحركات التصحيحية على نقابة معينة بل تشمل أحزاب سياسية ونقابات كذلك يرفض فيها الزعيم النقابي والحزبي تسليم مفاتيح السلطة للآخر بالتحايل على القوانين المنظمة أو تزكية الفاعل . آخرها في حزب التقدم والاشتراكية في حق نبيل بنعبد الله والعهدة الثالثة كأمين عالم حزب التقدم والاشتراكية مدعوما من مجلس الرئاسة والديوان السياسي . أما حزب العدالة
والتنمية فكانت رغبة السيد بنكيران في عهدة ثالثة في قيادة الحزب قوية . حلاوة السلطة والرغبة في مواصلة المغامرة في الحكم والاستفراد بالقرار داخل الحزب انتهت برفض المجلس الوطني تعديل القانون الذي يسمح للامين العام بولاية ثالثة .
في رفض المجلس تعديل المادة 16 من القانون المنظم .انتهت العقدة وأحلام العهدة الثالثة وبقيت حلاوة السلطة تلازم السيد بنكيران في العودة بين الفينة والأخرى للمشهد السياسي لإعطاء الرأي في أمور معينة كمواطن وليس كفاعل سياسي. وزاد من مرارة السلطة عملية " البلوكاج " والصيغة الجديدة في نهاية اللعبة والمسرحية بإخراج فني ودهاء سياسي وحزبي .فكانت النهاية قاسية في نهاية عسل السلطة . وطلاق بائن بين الفاعل والسياسة الرسمية . لا ينتهي مسلسل العقدة الفريدة بالتراضي والتوافق وفق صيغ معقولة وديمقراطية في النقابات والأحزاب السياسية بالنتائج الايجابية في ظل التحايل على مضامين العقد وتجديد البنود وما يتناسب والمصلحة الفردية ومصالح الفئات الرافضة للتغيير أما العقدة في مجال التعليم فهي من أكثر العقود صراعا وأكثرها احتجابا . نظام العقدة المنصوص عليه في الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المادة 135 في اللجوء إلى التعليم بالتعاقد في مدة زمنية قابلة للتجديد على مستوى الجهات والأقاليم . وفي العقدة إلزام المتعاقد بمجموعة من البنود تحتوي على مرامي العقد وما يتعلق بالحقوق والواجبات والترقية وفسخ العقدة وتدبير الخصاص . فالوزارة المعنية تعتبر التعاقد منطق جديد في تدبير الموارد وخلق جهوية موسعة ونقل المهام من المركز إلى الأطراف في إطار ما يعرف باللامركزية وعدم التمركز . لا حق في الترسيم أو المطالبة به . والتوظيف بالآليات السابقة أصبح من زمن الماضي .
الخيار الاستراتيجي لنظام العقدة حسب الوزارة تمليه مصلحة الدولة في الاختيارات النابعة من التوجهات السياسية في التدبير ونقل الصلاحيات . وفي نظر الطرف الآخر العقدة من طرف واحد أداة في إرغام الأستاذ على الاستسلام والاستعباد وهي شروط نابعة من توصيات المؤسسات المالية الدولية ومنها صندوق النقد الدولي في توصيات حتمية للإصلاح والتقليص من النفقات العمومية . فالعقدة مجرد أداة لبيع المدرسة العمومية والإجهاز على المجانية . في العقدة الطرف الأقوى هي الدولة في اختيارات ليست نابعة من إرادة إصلاح المنظومة التعليمية . بيع الخدمة العمومية وفتح المدارس أمام الأداء وتحمل الفئات الهشة خوصصة القطاع العمومي .وبالتالي لا بديل عن الترسيم من وجهة نظر الأستاذ المتعاقد . فالأكاديميات وفي إطار الجهوية الموسعة أمام خيار وحيد لاستخلاص الأموال من جيوب الناس أو عقد شراكات مع مؤسسات وترك الأستاذ تحت رحمة جشع المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال . يبدو الفرق واسعا والتضاد واضحا بين أطروحة الدولة القائمة على الفصل بين التوظيف والتكوين من جهة وخيار التعاقد استراتيجي للرفع من المردودية وفق شروط لم يعترض عليها المتعاقد في المباراة . وأطروحة الأستاذ المتعاقد في اعتبار العقدة من طرف أقوى لا يمكن أن يتنازل إلا بخيار النضال والرفض . ومن لأهداف المعلنة والخفية النيل من المدرسة العمومية وعدم التكافؤ في ظل عقدة مبنية على الإرغام والإلزام . وتطبيق الإصلاح على حساب الأستاذ الحلقة الأضعف . وهكذا يبقى الملف مفتوحا على احتمالات عدة .