إن هذه الورقة ستنفض الغبار عن أسماء بعض السادة العلماء الاعلام الذين ساهموا بقسط وافر في الدفاع عن وحدة هذا الوطن وأخلصوا للبيعة الشرعية، وتفانوا في الخدمة والدفاع عن الوحدة وتمسكا بالحقيقة، ليعلم الكل الدور الطلائعي الذي لعب هؤلاء الاعلام من جهاد، تمسكا بالواجب، لينير عملهم المشرف السبيل لنا ولأجيالنا الصاعدة كي نكرس الجهد لنحذو حذو أولئك العلماء الملتزمين الاوفياء المجاهدين الذين لا يحيدون عما أوجب عليهم الشرع قيد أنملة. إن الدارس للقرن الحادي عشر هجري يجد الحضور القوي للعلماء من خلال إسهاماتهم في المشاريع الإصلاحية، وإثبات الهوية المغربية وعلى رأسهم الشيخ عبد القادر الفاسي.( إخماد نار الفتنة أي تورة القبائل، و بيعة المولى اسماعيل).
ومما يستنتج من الأحداث المشار إليها في تلك المرحلة، هو ظهور الوزن الإجتماعي الذي كان للأعيان والعلماء، فهم أهل الرأي والمشورة، ومن جملتهم الشيخ عبد القادر الفاسي _أنموذجا_ الذي كان حاضرا في قلب الأحداث، مؤثرا في مجرياتها عن طريق الممارسة الفعلية، والمشاركة الصريحة، بواسطة تأثير آرائه وإختياراته، والشاهد على ذلك ابنه عبد الرحمان حين قال في تحفة الاكابر: ( يسر الله على يده حقن دماء المسلمين بعد معاينة الهلاك منها عند دخول السلطان مولانا الرشيد .. وكان يتوقع من ذلك أمر عظيم) ، ومن الأساليب التي إتخذها الشيخ عبد القادر الفاسي أمام هذه الأحداث، أسلوب المرونة والإعتدال: ويثمثل ذلك السلوك
عندما أراد المولى الرشيد أن يمد الشيخ عبد القادر الفاسي بشيء، لكنه إمتنع وعندما بلغه الخبر قال: ( قولوا له يشغل نفسه بغيري فالذي رزقني من المهد إلى أن ابيضت لحيتي هو يرزقني)1 .
كما كانت اسهاماته التوفيقية لجمع الكلمة، وكان على رأس وفد المبايعين بل هو الذي عقد البيعة للمولى اسماعيل، وشارك فيها أبناؤه كما يظهر من خلال قراءة لائحة المبايعين:
* الشيخ عبد القادر بن علي الفاسي ت 1091ه/ 1680م، و الشيخ عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي ت 1096ه/ 1685م، و الشيخ محمد بن عبد القادر الفاسي ت 1116ه/ 1704م، الحسن بن مسعود اليوسي ت 1102ه / 1681م، و أبو عبد الله محمد بن علي الفلالي ت 1089ه/ 1679م، و أبو العباس أحمد بن سعيد المجيلدي ت 1094ه/ 1682م، و القاضي أبو مدين محمد السوسي المكناسي ت 1120ه/ 1708م، و القاضي أبو عبد الله محمد بن الحسن المجاصي المكناسي ت 1103ه/ 1691م.
* سرعة استجابة المغاربة لكل التحركات التي تحقق الأمن والوحدة والاستقرار، ويمثل هذا الموقف السياسي الشيخ عبد القادر الفاسي، " وفي تاسع ذي القعدة 1087 ه خرج الناس لتهنئة السلطان ( المولى اسماعيل) بالقدوم مع سيدي عبد القادر الفاسي من زاويتهم التي بالقلقليين من عدوة فاس القرويين" .وهكذا قد ساهم إلى حد كبير في تثبيت الحكم العلوي بمدينة فاس، كما تميزت علاقته بالمخزن بنهج أسلوب الاعتدال، والميل إلى المناصرة ومرونة الخطاب. كما ساهم في حل إشكالية السياسة الشرعية، فكتب رسالة في الإمامة العظمى، وسماها (بحقيقة الإمامة وشروط من يتقلدها).
نختم هذه الورقة بالدعوة الى توحيد التصور للتاريخ المغربي حول البيعة من حيث المنهاج ومن حيث الاسلوب، فكانت التأليف التقليدية تركز على عقد ترجمة واسعة للسلاطين، كما نرى، مثلا في الاستقصا للناصري او في اعلام الناس لابن زيدان، فتوزع بهاته الصورة التاريخ على عهد السلاطين حسب تعاقبهم، لكن الابحاث الجديدة تتأثر كثيرا بالمدارس العصرية، حيث انها تجتنب في
الغالب، منهاج السيرة والترجمة وتهتم بقضايا دقيقة ومحددة في الزمان واحيانا في المكان. كما أشير في هذه الورقة أن الدراسات الشرعية لازالت محتشمة لنفض الغبار على التراث المغربي الذي كان سباقا لتأصيل في هذه المسائل.