إسقاط الأسد لم يشكل يوما أولوية أمريكية ولو كانت تريد ذلك لكان، رغبة الإدارة الأمريكية التي هي في الحقيقة رغبة إسرائيل هي إنهاك وإضعاف نظام الأسد لأكبر قدر ممكن، وذلك بما يجعله بعد ذلك مجرد أداة طيعة ينفذ ما يؤمر به كي يحافظ على كرسي حكمه وفقط، وكانت الوسيلة هي عبر تأجيج بعض الجماعات المخترقة لشن حرب استنزاف طويلة ضده كما يحدث الآن. فالضربة الأمريكية الأخيرة هي في الحقيقة إعادة للتوازن على الأرض بعد النجاحات التي حققها نظام الأسد وحلفائه، وبعد تمكنه من استعادة زمام الأمور من جديد، بل و أصبح الأخير يفاوض من موقع قوة ويرغم أعداءه على الإذعان لشروطه.
بالتالي فواشنطن تقصف، لكنها لا تحارب بالتالي فلن تستطيع تحصين أي إنجاز على الأرض، بل الأرجح أنها غير مهتمة أصلا بذلك، فهي الأكثر من غيرها على الدراية التامة أنه لا يمكن إحداث أي تحول في مسار الصراع دون تغيير لموازن القوى على الأرض التي حاليا في صالح الأسد وشركائه. أي أنه دون تدخل عسكري بري مباشر فكل ما يتم العمل به حاليا هو لأهداف أخرى غير إسقاط الأسد وهذا الأمر لا يحتاج إلى كثير ذكاء لاستنتاجه .
لكن الإشكال الأكبر والسؤال الحقيقي الآن هو إذا كان الغرض ليس هو إسقاط نظام الأسد، فما هو الغرض والغاية من الضربات العسكرية إذا؟، خاصة وأن الأمر لا يمكن أن يكون اعتباطيا أو حتى لأهداف استعراض للعضلات وتجريب للأسلحة الجديدة وفقط.
في العمق فإن إبقاء سورية محمية روسية قد لا يشكل كثير قلق لواشنطن، بل بالعكس، فهي أحسن حالا من بقائها محمية إيرانية أو حتى تركية، لأسباب عدة هو أن البقاء الروسي سيضمن إلى حد كبير أمن إسرائيل على جبهة الجولان، مادام أن روسيا ستكون الضامن المثالي لإسرائيل للحيلولة دون وقوع مواجهة على تلك الجبهة.
فالتوافق الروسي الأمريكي يشرح الكثير من الخلافات العميقة بين تركياوأمريكا بشأن كيفية الحل السياسي في سوريا منها منع تركيا من إقامة منطقة عازلة أو دعم الثوار عسكريا بما يكفي لإسقاط الأسد...
فأمريكا بأي حال من الأحوال ليست عاجزة عن خلع الأسد، لكنها ليست راغبة في القيام بدور القيادة، الأمور مثالية بالشكل الحالي بالنسبة لإسرائيل ما يعني تلقائيا لها كذلك أيضا ، فسوريا مجزأة حتى مع بقاء الأسد أحسن من سوريا موحدة حتى ولو ديمقراطيا، مادامت إسرائيل تريد ذلك.
وطالما أن أمريكا لم تمارس أي ضغوطات جدية على روسيا لوقف عدوانها ومجازرها، -وهي قادرة على ذلك-، فهذا يعني أنها راضية عما تقوم به إذا لم تكن هي من أعطتها الضوء الأخضر للقيام بهذه الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
المعطى الآخر في هذا السياق هو أن الولاياتالمتحدة في إستراتيجيتها المستقبلية لم يعد يشكل الشرق الأوسط أي أهمية كبيرة لها باستثناء ضمان أمن إسرائيل، إذ أن أنظارها متوجهة صوب شرق أسيا وبحر الصين حيث الفرص الهائلة للاقتصاد الأمريكي وحيث يقطن نصف سكان العالم، وحيث الفرص غير مسبوقة في الاستثمار والتجارة والصناعة والنمو الاقتصادي والوقوف على احدث التقنيات الصناعية لا توفره أي منطقة أخرى في العالم.
فصحة الاقتصاد الأمريكي تعتمد على التصدير والاستفادة من السوق الاستهلاكية الهائلة في دول شرق آسيا. ناهيك عن الرغبة في كبح جماح التنين الصيني الراغب بقوة في اخذ قيادة دفة الاقتصاد العالمي من يد الولاياتالمتحدة.
فمواجهة تمدد الصين هو الأولوية القصوى حاليا، صحيح أن الأمر لا يزال ضمن نطاق الشق الاقتصادي لكن بعد عشرين سنة أو ربما اقل قد تتحول الحرب الاقتصادية الحالية إلى مواجهة عسكرية ربما، حتى وان كان ذلك بالنيابة.
بالتالي ليست أمريكا التي تريد شيئا من سوريا. مادام الخليج ومصر والأردن يدخل ضمن نطاق نفوذها ، وبما مجال يجعلها تطمئن على ما تبقى من مصالحها بالشرق الأوسط...، لكن ما يؤرق بال الإدارة الأمريكية وعرابي السياسة لإستراتيجية الأولى في العالم هي إسرائيل.
لكن المشكلة الأخرى أيضا أن تكلفة ما تريده الأخيرة مع كل الوعود من الإدارة الأمريكية بمنحها عيونها إذا ما أرادت ذلك، هي الأخرى مكلفة و بمخاطر عالية للغاية والتي من
الممكن أن تعصف بكل ما تم إنجازه وقد تؤدي إلى تغير في خريطة التوازنات بالعالم وليس بالشرق الأوسط فقط.
فإسرائيل لا طالما اعتبرت أن في نظام الأسد المسنود مباشرة من حزب الله وإيران هو تحول نوعي في موازين القوى، ويشكل تحديا وتهديدا استراتيجيا لأمنها القومي، ذلك أن الانتصار في الصراع الحالي سيمنح الطرف الآخر خاصة إيران وضعا على خطوط التماس معها قد تستغله حتما في أي مواجهة مقبلة.
أما روسيا المتحكم الفعلي في زمام الأمور على الأرض، فمادام الغرب لم يجد لها بديل مغري ومضمون للغنيمة السورية فهي حتما لن تتخلى عنها، فحتى البديل المفترض الذي هو ليبيا فهي لا تحقق طموحات القيصر، كما أن ليبيا عكس سوريا مثلا فهي بلا ظهر إقليمي قوي يمكن أن يعول عليه عكس الأخيرة التي لها إيران.
أما تركيا على اعتبارها الخط الثالث بين الفريقين فلا تزال قوة فتية وقوة سلاحها لا يمنحها ذلك التفوق المطلق كما القوتين السابقتي الذكر، وهي على دراية بالأمر لذلك لن تستطيع فعل الكثير دون أمريكا أو روسيا أو حتى إسرائيل أن تطلب الأمر.
صيغة اللاحل للصراع هي الأقرب للاستمرار في ظل الشروط الحالية، -على الأقل على المدى القريب-، في انتظار أن تكون هناك صفقة معلنة أو غير معلنة أو اتفاق ينتج عنه توافق يؤدي في عناصره المختلفة على ما يضمن تحقيق مصالح الطرف الروسي في سوريا، ومصالح الطرف الأمريكي-الإسرائيلي و التي ربما يساعد علي حلها صفقة روسية -أمريكية، تنضم إليها باقي الأطراف الإقليمية بعد ذلك.