حين ستتأمّل حجم الأشياء الصغيرة التي تراها من المسلّمات في عالمك، ستدرك أنّ الحياة أعظم تجربة مطلقة يمكن أن يخوضها المرء بحياته.. فأحيانا حين أتذكر أن جملة صغيرة صادفتها بأولى دروس النشاط العلمي وهي أنّ "الأرض تدور حول الشمس" .. كانت سببا في محاكمة چاليليو ونفيه والحكم عليه بالإقامة الجبرية إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، أصاب بنوع من التقلّبات المزاجية والمعدية المُزمنة .. وحين أستحضر أمامي قصة أوّل شهيدة في الإسلام سمية أم عمار وكيف أنّها عُذّبت واستشهدت من أجل كلمة لا إله إلاّ الله، وعدد كبير من المسلمين الآن يشهدون أن لا إله إلا الله ويشربون الخمر ويرتكبون الفواحش ويصومون ويُزكّون، أحاول أن لا أنظر لحالنا بِالمرآة كي لا أرى التشوه فينا أكثر .. وحين أتذكّر أن أحدهم قرّر أن يكتب مقدمة لكتابه فوجد نفسه يكتُب مُجلّدا فيها حتى صار الأُدباء والمُفكرون وحتى المُستشرقون لا يذكرون اسم ابن خلدون دون أن يكون مُرتبطا بكلمة المُقدّمة، أستحضر حجم التوعُّك الأدبيّ الذي تُعاني منه اللغة في زماننا .. وحين أغوص كل مرة على سبيل الاستجمام في قصة من قصص الزمن الآخر، أستوعب لأيّ درجة صارت عليه التفاهة في زماننا مُستشرية.. فكلّما التفتت لأرى من يتباهون بقطع قماش أو إكسسوارات أو هواتف باهظة الثمن..أدرك أنّ بعض الوجود ثلاثيُّ الأبعاد وخال حتى من أصغر عناصر الوجودية عند سارتر، فهُم يتباهون بأشياء لا يد لهم فيها ويُنصّبون أنفسهم ببروج عالية تجعلُهم يمنحون أنفسهم شرعية تصنيف النّاس حسب المظهر وطريقة نُطق بعض اللغات وحسب مخزونهم واحتياطيّهم من الأوراق الزرقاء ..لا حسب مُستواهم الفكريّ والثقافيّ والأخلاقي ! فالكثير من هؤلاء إن وضعتهم بالميزان الذي يقاس به البشر، لن تجدهم أكثر من كيلوغرامات مُكدسة يعلوها الشّحم والعظم، وإن أنت حظيت بفُرصة الجلوس معهم، ستجدُ نفسك جالسا مع عقول جوفاءَ انتهت صلاحيتها لكنها لا زالت تعيث في الأرض تكبُّرا وعُلوّا ! ذلك أنّ اهتمام عدد كبير مِمّن حولنا مُنصبّ بالأساس على تلميع القشور والتفاخُر والغلوّ في ذلك، ولا تهمُهم كثيرا قولة سقراط : "تحدّث لأراك" فهم منشغلون بتكوين إمبراطورياتهم من المادِّيات الصّرفة غير عابِئين بنُبوءة تشرشل التي تقول : إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل، فلسان حال بعضهم يُفضل أن يُنشد للمُتنبّي راضيا "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم" ! وإن كانت الزائدة الدُّودية لسنوات طويلة اعتبرت مجرّد عضو يمكن إزالته دون ارتدادات سلبيّة قبل أن تشير الدراسات في جامعة "ديوك" الأمريكية إلى أنّها تحفظ نوعا معينا من البكتيريا التي تلعب دورا مفيدا للمعدة.. فهذه الزوائدُ البشرية تُحافظ على وجودها بقُدرة قادر لتجعلنا نُؤمن أنّ بعض الأموات أحياء وأنَّ بعض الأحياء أموات وأنّ بعض الحالات المُستعصية لا تحتاج دراسات بقدر ما تحتاج غسيلا فكريّا من التّرسبات التي تُفرغ الفرد من وجوده وفاعِليته كإنسان لا كمخلوق كباقي المخلوقات ! والحقيقة أن أزمة المُواطن العربي هي أزمةُ تصدُّعِ رُؤى بالأساس، هي مجموع تراكُمات سلبية تجعل من جدليّة وُجوده عبثية تُلغي مسألة الاستيطان الكريم للمخلوق العربيّ على هذا الكوكب، فالبقاء للأحياء لا لأشباه الأحياء.. انتهى زمن القرشي .. وانتهت معه المعاني الواضحة، ولا يسألني أحدكم ماذا أعني هنا ! وفي الختم: الصّرخات .. الأشياءُ البشعة، يمكن أن تجعلنا أسوَء أو أجمَلَ بأمتار قياسيّة.. الحياةُ تُمارِس لعبتها ونحن نُمارس إِدماننا الكئِيب في حُبّها !