عرفت الساحة المجتمعية المحلية والدولية حركية زاخرة لما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، وخاصة للنسيج الجمعوي وأطيافه المتعددة والمختلفة من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تشتغل وتنشغل بموضوعات عدة وفي مجالات لا حدود ولا حصر لها، في عملية تراكمية متسارعة منذ عقود نشأتها الأولى، لتهيمن على أنماط الاشتغال الجماعي والمنظم، خاصة وأن بروزها كان لافتا في سياق الحضارة الغربية الغالبة، لتنتقل بذلك شكلا ومضمونا إلى وسطنا العربي الاسلامي كنموذج يحتذى من أشكال الانتظام الانساني الحديث. وفي نشوة المستظل بكل جديد ثم استنساخ تجارب مشابهة لهذه الجمعيات المستوردة إلينا لتتوارثها الأجيال، دون تقليب الفكر وإعمال النظر في الغاية منها والقصد من ورائها، ومدى استجابتها لانتظاراتنا الحقيقية، لتستحوذ بذلك هذه الأنماط من الجمعيات على الوعي الجمعي للأمة العربية والاسلامية، ولتتفاعل بعد ذلك الأطر الجمعوية والسياسية والحزبية مع برامجها المجتمعية في إطارات جمعوية من منطلق حمولة معنوية غربية غالبة، تتناقض مع حقيقة الأمة المغلوبة، التي تلزمها روح تجديدية طالعة، تسري في كيان الأمة وفي نسيجها الجمعوي لتحيي بها الأمة وتدفع قاطرتها إلى النهوض. فنسيجنا الجمعوي يكاد يكون متشابها، مكررا ومتطابق الأهداف والبرامج والوسائل، رغم اختلاف الأشكال والألوان والأسماء، لأن المنطق الذي يحكمها هو مرتهن لثقافة أخرى ومنطق آخر، روحه الاستهلاك والانتاج. لذلك فإن جمعياتنا تنبني تجربة كل واحدة منها على ما هو سائد من النماذج التي تمتح من أصول فكرية وقيمية تختلف مع منطلقاتنا وأصولنا، ويطغى عليها الطابع الخدماتي، الذي يقدم للناس معروفا دون مقابل، حتى غدت الخدمة مقصدا في حد ذاته، لتتفنن الجمعيات في إبراز معالم الخير الانساني في برامجها وأنشطتها، لتغدو الخدمة الاجتماعية شغلها الشاغل، وتعلن بذلك نصرا مبجلا في سباق الخدمة الذي نجح الغرب في غرس بذوره المشوهة، منهجا وفكرا، في وقت كان الأولى فيه هو استنهاض الهمم وتحريض الناس على النهوض وليس القعود. استوطن الفكر الجمعوي القادم إلينا من بعيد عقولنا ومنطق تفكيرنا، وتم تحريض نموذجه الفاتن وترويجه عبر وسائل الاعلام وعبر الفضاءات الرسمية المتاحة للجمعيات، حتى أصبح نمطا أو مخدرا يتنفسه المجتمع المدني الموجه من بعيد، الذي يخدم رؤى الاستبداد ومخططات الاستكبار العالمي، والذي يغدوا بفعلها المجتمع والإنسان مهادنا للظلم ومسالما، يرضى بقسمته الضيزى، ويسعى في خدمة غيره عبر دائرة مغلقة من الأفعال المجتثة من أصولها، والتي لا تنعش إلا خطط الاستكبار. لم ترتبط مشاريع الجمعيات في الوعي الجمعي للأمة بمواضيع التغيير، ولم ينظر إليها كوسائل مساهمة في التدافع السياسي والمجتمعي، بل غدت الجمعيات في أذهان الناس رديفة لموضوعات التنشيط والخدمة والتأطير التربوي، حتى غدا العمل الجمعوي رقما مهملا في سلم أولويات الحركات التغييرية الحاملة للمشاريع الكبرى. وهي قراءة قاصرة زكاها واقع متخاذل للعمل الجمعوي، لا زال عالقا في المخيال الجمعي للفاعلين السياسيين والجمعويين، على عكس ما هو مطلوب ومرغوب. وبالتالي فإن القيادات السياسية لا تذكر الجمعيات في برامجها ومخططاتها إن ذكرت، إلا من باب تنويع الوسائل التي تعينها على تنظيم أنشطتها الثقافية والفنية والتربوية والخدماتية، التي تندرج في هدف لا يسموا إلى ما تسموا إليه أهداف الجمعية، إن اتضحت رؤيتها وسمت رسالتها. قد تكون هناك استثناءات، وهي موجودة بالفعل، قد يكون نهجها إحيائيا مدبرا ومفكرا فيه، كما قد يكون عملها مجرد تغيير في الشكل والموضوع صادف المطلب والمطمح. لكن اليقين أن جل الجمعيات تشتغل برؤية قاصرة عن مقصد السيادة للأمة، وعن غاية النهوض للاستخلاف الموعود، الذي يفرض عليها زيال كل ما هو موجود من التجارب الجمعوية التي لا تفتل في صلب مشروع بناء الأمة وتوحيدها، ولا تهتم بالفرد إشراكا ومشاركة وتحميلا للمسؤولية في كل صغيرة وكبيرة، في برامجها وأنشطتها، بكل وضوح وشفافية. لذلك فعلى المجتمع وأطره الفاعلة ألا تخجل من إعادة تقييم تجاربها السابقة والحالية من الممارسة الجمعوية، وتقويمها. لا ضير في ذلك. ولا يغرينا بريق الأنشطة الوازنة كلفة والمتألقة شكلا والجاذبة لتطلعاتنا الذاتية وطموحاتنا التي تستهوي النسخ بعد النسخ، والنسج على المنوال. فمطمحنا أعظم، وقصدنا أسمى من بهارج انتقائية و أنشطة موسمية ومحطات إشعاعية وخرجات إعلامية، وجهد جهيد دون بوصلة، تأخذنا من محطة لأخرى، ولا تربط في عمقها بين العمل الجمعوي وبين واقع الحاضر ومطمح المستقبل. وعلى الطليعة الجهادية والمناضل الميداني والفاعل الجمعوي أن يتذكر دائما أن مطمحنا ومقصدنا هو أن نعود أمة مجاهدة كما كنا، مهابة يطلب ودها، وأن نضالنا وتطوعنا في الجمعيات إنما هو بناء في سياق قدري، يفتل في تشييد خلافة ثانية موعودة على منهاج النبوة، مدعوة للانخراط في سياق تشييدها كثل قوية من المؤسسات الجمعوية ومن المنظمات والهيئات الاجتماعية، القادرة على استيعاب السواد الأعظم من الناس، في تناسق وتناغم مع المطمح الأكبر، وإن في أشكال مختلفة تستجيب لخصائص المجتمعين وتنسجم مع عنوان اجتماعهم وأهدافهم الجزئية. ولن يتحقق ذلك المطمح بعد فضل الله تعالى إلا إن انخرطت العامة من الناس في عملية التغيير والإحياء عبر هذه الجمعيات، التي تعد آلية متاحة للعموم، تعين الناس على الاجتماع المنظم وتحظى بنسبة عالية من الثقة، حين تشيد على مرأى ومسمع منهم، بل وتؤسس بأيديهم وبتدبيرهم وتحت إشرافهم. آنذاك تكون الأمة حاملة لعبء الحاضر والمستقبل، كما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. "إنما الأعمال بالنيات"، وقد يجزى كل فاعل جمعوي بالخير المضاعف ويثاب، جزاءً غير محدود من لدن الكريم الوهاب سبحانه، " ولكنه عز وجل سن ناموسا في هذه الدنيا يقضي أن من لم يتخذ أسباب القوة يصرع في الحلبة مهما كانت نيته"1. فلن تكفي النية الصادقة في ممارستنا الجمعوية الخيرية، وإن تسامت، إن لم يصغها عمل ميداني محكم، وسعي في المجتمع ملموس، تضبطه نظرة منهاجية كلية، وروح تجديدية تربط الحاضر بالمستقبل. فعملنا الجمعوي وأعمالنا الاجتماعية التطوعية إن لم تدخل في خطة مدروسة ولها أبعاد وغاية، بأهداف مرحلية ومستقبلية، تكتيكية واستراتيجية، تفتل في بناء جسم الأمة المترهل ونهضتها، فلن تؤتي ثمارها إلا مرا، يحسبها الفرد والفاعل في الميدان إنجازا، بينما نكتاتها السوداء في جسم الأمة يراها من بعيد من ينظر إلى جزئية الأعمال بمنظار كلي.