من خلال استعراض كرونولوجيا الخطب الملكية لافتتاح الولايات التشريعية البرلمانية ، يلاحظ المراقب السياسي تركيزها على القضايا الآنية ، وإبداء توجيهات عامة للعمل الحكومي ؛ سواء في هذا القطاع أو ذاك ، بيد أن الخطاب الأخير الخاص بافتتاح الولاية التشريعية العاشرة شكل استثناء ملحوظا بشمولية كل فقراته وتركيزها على علاقة المواطن بالإدارة وأثرها على مستوى الاستثمار .. فأية مؤشرات يمكن استقراؤها والتقاطها من خلف سطوره ؟ من خلال تزامن الخطاب مع نتائج الانتخابات التشريعية ، وتصاعد نسب العزوف والمقاطعة من جهة ، وانتشار خطاب ذائع الصيت بالأوساط السياسية داخل المغرب وخارجه بأن الملك هو الذي بيده تدبير الشأن العام والمتحكم في خيوط اللعبة السياسية من جهة أخرى ، فضلا عن ظاهرة اعتراض الموكب الملكي من قبل المواطنين ... كل هذه المؤشرات وغيرها تسمح لنا بإجمال أسباب النزول في النقاط الرئيسة التالية :
العزوف ومقاطعة الانتخابات
قراءة الخطاب الملكي الضمنية لعزوف ومقاطعة الانتخابات ؛ وبنسب عالية ؛ ارتقت إلى استشراف أعمق لأسباب هذا العزوف والتي يمكن اختزالها في عامل نفور وعداء المواطن تجاه المرافق الإدارية بوصفها الأقرب إلى تعامله اليومي . ولما كان هذا التعامل موسوما ؛ في معظم الحالات ؛ بالتشنج والإحباط والتذمر ، تولد لديه عدم الثقة بمؤسساته والعمل السياسي برمته إلى درجة التجاهل والعداء والقطيعة .
الخطاب الشائع بأن الملك هو من يحكم
جاء تركيز الخطاب الملكي على الإدارة كجوهر تعامل المواطن مع السلطة ، لكن الحكومة ؛ وفي مرات عديدة ؛ حينما تضعها الانتقادات سواء من قبل المعارضة أو الإعلام بصفة عامة أمام المحك تلجأ إلى الاحتماء بالملك لتنشر عليه كامل أوزارها ؛ بأنه هو الحاكم الفعلي ، وما هي إلا أداة تنفيذ ! فجاء الخطاب الملكي ليضع قطيعة أو بالأحرى حدا لهذه "الشائعة" ، ويضع النقط على الحروف بضرورة الالتزام بالعمل الذي ينيطه الدستور والقوانين بكل موظف مهما كان موقعه وصفته الإداريتين ، مع ضرورة وجود فعلي لجهاز قوي لمحاسبته وزجره ومعاقبته.
اعتراض الموكب الملكي من قبل المواطنين
هذه ظاهرة ألفناها ؛ لدى تنقل الملك ؛ ضمن موكب أو بدونه ؛ وتهافت المواطنين على اعتراض سيارته أو "قذفه" بالرسائل . لكن وفي جميع الحلات وما أكثرها يمكن القول بوجود مطالب لدى هؤلاء المواطنين المعترضين للموكب الملكي ، إما يشافهون بها الملك مباشرة أو يعبرون عنها كتابة ، ومعظم هذه المطالب بتقديري عبارة عن شكايات وقضايا معلقة . لكن ؛ وكما عبر عنها الخطاب الملكي بصريح العبارة ؛ أن هذا الاعتراض ستقل نسبته لو كانت هناك إدارة مغربية نزيهة وقريبة من المواطنين . كما أن هذا الاعتراض دوما تلتقطه بعض الوسائل الإعلامية الغربية ليس رغبة فقط للقاء الملك بل لحل قضاياهم .
الإدارة المغربية وضعف الاستثمارات
جاء الخطاب الملكي ليضع الأصبع على داء عضال متمثل في تدني مستوى الاستثمارات داخل المغرب ، وعلاقته بتعقيد المساطر والإجراءات الإدارية التي تكبل عادة كل مستثمر من الداخل أو الخارج يروم استثمار أمواله في مشروع ما ، وتفرض عليه الدخول في متاهات إدارية ومساومات ورشاوى ؛ مما يضطر معه وفي أحيان كثيرة إلى سحب ملفه وإيداع أمواله في البنك ولو مبتورة !
ضعف جهاز المراقبة الإدارية
يمكن القول ؛ وبكل شفافية وموضوعية ؛ أن إدارتنا المغربية ومنذ اندلاع شرارة الربيع العربي عرفت تسيبا غير مسبوق ، وفوضى عارمة من حيث ضبط مواقيت العمل والتعامل مع الملفات والتباطؤ في الأداء والإنجاز ، والأخطاء الفاحشة في تدبير الملفات وعلاجها .. مما كان له الوقع الحاد في نفوس المواطنين باعتبارهم أول الضحايا ، انعكس ذلك ؛ وبصفة خاصة ؛ على أبنائهم وهم يغدون ويروحون إلى المؤسسات التعليمية دون مردودية تذكر . وهل يمكن اعتبار الخطاب الملكي جاء ليقطع مع ظاهرة انتفاء جهاز المراقبة والزجر والمحاسبة باتجاه الموظف ؟
الأطر المغربية إجمالا غير مؤهلة !
تعتبر الأطر المغربية كمخرجات لمنظومة التربية والتعليم في بلادنا ، ولما كانت هذه الأخيرة مصابة بمجموعة من الاختلالات الهيكلية والتدبيرية ، انسحبت آثارها على جميع الأسلاك التعليمية ، ونظم التكوين ، كان لا بد لها من تداعيات خطيرة ؛ يمكن معاينتها بالأساس لدى الأطر المغربية ابتداء من أفواج 2005 حتى الآن سواء في الإدارة أو القطاعات المهنية والخدماتية الأخرى وقد نقر بوجود ضعف ملحوظ في أدائها وضحالة خدماتها ، ومن ثم كانت مؤهلاتها المهنية مرفوضة في سوق الشغل الدولية . على أن الحكومة المقبلة ملزمة بإعطاء الإدارة المغربية دينامية جديدة وزخما قويا يقطع مع الأساليب القديمة والتعقيدات المسطرية ، ويعمل على تسريع وتيرة تعاطيها مع الملفات ، والارتقاء بجودة خدماتها واسترضاء المواطن بالدرجة الأولى .