للتدليل على مقت هذه الصفة في الإنسان منذ أن كان ، لا حاجة لنا في الاستكثار على القارئ بمجموعة من التعاريف النفسية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي ظلت لصيقة بالكذب والكاذب والكذّاب ، لكن يكفي طرح تساؤلات من خلال إيراد أقوال توصيفية لسلوك الكذب ؛ صدرت عن أشخاص من مختلف المواقع .. قالوا عن الكذب
+ " الكاذب لا يصدق حتى ولو قال صدقا " شيشرون ؛
+ " تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو بعض الناس بعض الوقت ، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت "
أبراهام لينكولن ؛
+ " الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب " أرسطو ؛
+ " ليست عقوبة الكذب أن الناس لا يصدقونه بل إنه هو لا يستطيع أن يصدق الناس " برناردشو ؛
+ " إذا لم يستطع الإنسان أن يخترع كذبة مقنعة فأولى به أن يتمسك بالصدق " أنجيلا ميركل ؛
+ " الحقيقة العارية أفضل دوما من أجمل كذبة لباسا " آن لاندرس ؛
+ " الكذبة لا تعيش حتى تصبح عجوزا " سوفوكلس .
من خلال استقراء هذه الأقوال ، يمكن التأشير على تمظهرات رئيسة ثلاثة للكذب :
الكذب كمرض سيكولوجي تفرزه سلوكات أشخاص "كذابين" لا يتعاملون إلا بالكذب ، ويتبدى لهم الصدق كتعرية لخصوصياتهم والكشف عن عوراتها . ثم إن هناك ؛ في التصنيف ؛ الكذب كخداع الآخر ، ومحاولة الشروع في تزوير الواقع وتشويه صوره ، وهو كذب ممقوت في أعين أغلب الناس .
أما أخطر هذه التصنيفات هو الكذب على الجماعة ، أو الصادر من جهة لتمويه ، وخداع جمهور عريض من الناس ، وهو ما يصطلح عليه بالكذب السياسي . وهناك ؛ في تصنيف موال ؛ سلوك المداهنة ، وهو كذب في منزلة التزلف والمجاملة .
الكذب السياسي أو تضليل الرأي العام
يعتبر الكذب السياسي أخطر التصنيفات الآنفة ، وأبلغها أثرا في المجتمع ، ويرمي ؛ بالدرجة الأولى ؛ إلى مكاسب بعيدة المدى ، بوسائل مخادعة أشد فتكا بإرادة الأفراد والشعوب ، ويركب ؛ في سبيل هذه الأهداف ؛ وسائط إعلامية ، وترويج أنباء ، وأحيانا تسويق خطابات ومواقف ؛ بمقاطع الفيديو ، أو وصلات إشهارية زائفة ، أو قنوات تلفزية ببرامج وظيفية ، إلا أنها ؛ في آخر المطاف ؛ تتكشف رسائله التضليلية ، حينما يصطدم هذا الشعب بخبايا اللعبة التي وقع ضحية لها ! إلا أن تداعياتها غالبا ما تصاب الجهة السياسية التي كانت وراء تلفيقها بانهيار لمصداقيتها ، وفقدان لمواقعها الاقتصادية أو المالية ، وإفلاس تام لمواردها .
و بين أيدينا أمثلة عديدة لهذا النوع من الكذب ، يمكن ؛ فيما يلي ؛ التأشير على بعض أشكاله :
+ التستر على الأرقام الحقيقية في مجال قطاعي ما ؛
+ تكذيب أو نفي وقائع وأنباء منتشرة ؛ سارت بها الركبان وأصبحت حديث الخاص والعام ؛
+ الإدلاء بتقارير مزورة ، أو في أحسن الأحوال ، صورية أو مبتورة المقاطع والفقرات ؛
+ التقدم أمام هيئات ومنظمات مختصة بصورة عن البلد بشكل لامع وخالية من الخدوش والبؤر السوداء .
الكذب سلاح الأقوياء كما هو سلاح الضعفاء
عديدة هي الدراسات السيكولوجية Psychological والسيكوسوسيولوجة Psychosociological التي تناولت الكذب كسلاح بالمعنى الدفاعي يلجأ إلى استعماله الأقوياء والضعفاء على حد سواء .
ففي يد الأقوياء ، يتحايلون به على الضعفاء ، كم يتحايلون به على شريحة من الناس من العسير خداعها .. وقد تكون من ورائه مكاسب ظرفية ، سرعان ما تنطلي حيلهم على الضعفاء ؛ كما الحال في مجال الاقتصاد والسوق والمرافق العامة ... ومن أبرز صور هذا الكذب هو الترويج لخطاب ملفق لا يعكس الواقع ، أو يقدمه في صورة مغلوطة ومشوهة لحفاظ أصحابها على الهيمنة واكتساح السوق . وحينما يحتدم الصراع بين الأقوياء يصبح الكذب عملة رائجة بينهم وبدرجات متفاوتة في الفعالية والخطورة ، كما هو الشأن بالنسبة لبعض الشركات العملاقة ، وتسويق منتوجاتها إلى المستهلك الذي تستهويه مواصفات منتوج دون آخر ، أو تقديمها لمواد تركيبية مخالفة تماما لعناصرها الأساسية .
أما بالنسبة "للضعيف أمام القوي" فغالبا ما يكون الكذب يشكل نمطا سلوكيا لتعويض الضعيف عن الفارق الفاصل بينه وبين القوي ؛ فيتظاهر بالعارف وهو جاهل ، أو يتراءى لمن حوله بالحافظ للمواثيق والعهود وهو في الأصل ناكث بها ، أو يدعي ملكية حيازة ما وهو سارق لها ...
الكذب في علاقاتنا الأسرية والاجتماعية
كلما ضعفت وتهاوت سلطة القضاء في بلد ما ، إلا وانتشرت آفة الكذب كمطية للنصب ولاحتيال ، لمقارعة الحقيقة ووأدها أحيانا بالمال والنفوذ ، وتبادل المصالح ، أو ؛ في أحيان كثيرة ؛ بالديماغوجية ، واستحمار المحيط الاجتماعي وتعميته . لكن هذا الكذب يأخذ وتيرة مغايرة أشبه بالخداع حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الأسرية ؛ فالزوجة قد يتلعثم لسانها أو تصاب بدوار إذا هي نطقت بالحقيقة والصراحة ؛ والتي يعتبرها المغاربة راحة للبال (الصراحة راحة ) في حق زوجها أو ابنتها ، لذا تجد الكذب أهون الوسائل وأخفها ضررا في الحفاظ على صورتها أو صورة ابنتها في أعين زوجها أو جارتها .. وقد تفضي الكذبة الواحدة أحيانا إلى طلاق بالثلاث أو اسوداد داخل حياة أسرة ما ؛ انفجرت بين أفرادها كذبة ولو أنها "بيضاء" أو غير "مضرة" ، أو بقصد جبر خاطر طرف معين . ولعل أكثر المجالات إثارة لشهية الكذب هي الهواتف النقالة ، وتواصل أطراف سواء عبر الصور أو الكلمات أو تقمص أصوات كاذبة .