إمي نولاون"، جماعة قروية تابعة لإقليم ورزازات، تقع أغلب دواويرها على الأطلس الكبير. تطل "إمي نولاون" على الحدود مع إقليمي أزيلال وتنغيرإمي نولاون"، تعني باللغة العربية "فم القلوب" دلالة على وعورة المسالك الطرقية على جبال شاهقة مكسوة بالثلوج. عالم منسي معزول، يزداد عزلة كلما حل البرد والصقيع. معاناة ساكنة نستطلعها في ربورطاج صادم ،،عزلة وتهميش، برد وموت، وسكنة خارج حسابات الرباط. . الطريق إلى "إمي نولان"، ليست سالكة تماما. صباح بارد يلزمك معه ارتداء ملابس وجوارب وكل ما من شأنه حمايتك من قر "فم القلوب". زملاء الوصول إلى "إمي نولان" يعرفون تفاصيل الحياة هناك كنا عندها حوالي عشرين فرد وبيننا حقوقي ذو تجربة مع منظمة اليونيسيف وفاعلة نسائية محلية ستبكي فيما بعد ألَماً لما شاهدناه وسمعناه من أفواه كائنات بشرية تقاوم الجوع والبرد والموت يوميا وتتحدى كل شيء لتُدلي بصوتها يوم "نعم" للدستور وبعده خلال الانتخابات التشريعية التي وصلتهم خلالها الصناديق عبر طائرة الدرك الملكي... المسافة إلى "إِشْبّاكْنْ" وهو أحد الدواوير الغارقة في المجهول بإقليم ورزازات لا تُقاس بالكيلومترات هنا، بل بالساعات التي تحتاجها للوصول إلى عالم آخر، أكثر من خمس ساعات ثلثها فقط على طريق معبدة انطلاقا من مركز ورزازات مرورا بالمدينة الصغيرة "سْكورة" وصولا إلى السوق الأسبوعي للجماعة إمي نولاون على مسافة تقارب السبعين كلم. بقية المسافة هي طريق تأكدنا فيما بعد أنها لا تدخل ضمن ترقيم وزارة التجهيز والنقل وغير واردة ضمن مشاريع الدولة المستقبلية حتى الآن. مسالك طرقية شديدة الوعورة على الجبال يقطها سكان المنطقة على البغال والأقدام أو على سيارة للنقل السري مرة في الأسبوع في أحسن الأحوال. هكذا هي حالة الطريق الضيقة التي لا تسمح بمرور أكثر من عربة وأحيانا أقل، والتي تكسوها الثلوج خلال كل شتاء لتعزل حوالي 19968 نسمة بحوالي 36 دوارا ينتشر أغلبها على الأطلس الكبير، ليختبئ الجميع داخل منازل مبنية بالحجارة ومغطاة بأغصان الأشجار المحلية. في اتجاه أَمزري وتاسكيولت أيت عفان وجدنا بعض المقاطع مغطاة بطبقات من الثلج، لم أُخفِ تخوفي من الخطورة التي تشكلها على السيارات المعرضة للانزلاق في أية لحظة، لكن مهارة السائقين الذين رافقونا خلال الجولة وطيبوبتهم واكتشافنا للمنطقة وذهولنا أمام حياة الناس على سفوح المرتفعات جعلتني أنسى الخوف، خصوصا وأننا استُقبلنا من طرف ابتسامة بريئة لأطفال تقفعت أصابع أياديهم وتشققت وجوههم من قساوة الطبيعة والحياة. أزواج بدون عقود نكاح وأطفال بدون دراسة لم نكن نعرف أن محكمة القرب بالمغرب تركت عشرات النساء ب"إمي نولاون" دون عقود نكاح بعد عِشرة دامت عقودا من الزواج بين جبال الأطلس الكبير، ولم يكن الزملاء الذين استمتعوا بمغامرة الطريق يعلمون أن اللحظات القادمة بعد وصولنا إلى أمزري وإشباكن ستكون أكثر قسوة عليهم. في طريقنا بين دواوير المنطقة استوقفنا رجل يظهر على وجهه الوقار، طبلنا من السائق السماح له بالركوب، وما أن أخذ مكانه بينا داخل السيارة، التي أُقلها رفقة فاعلة نسائية محلية وحقوقي من أبناء ورزازات وصحافيين إثنين، حتى بدأ يحكي عن حياة الناس بهذه الربوع من المملكة العزيزة. أصر الرجل، الذي لمس ذهولنا أمام ما يحكيه، على إفراغ كل ما بجعبته في مدة قصيرة، لذلك كان سريع الكلام، باللغة العربية أحيانا وبالأمازيغية المحلية أحيانا أخرى. طلبنا منه التأني حتى نتمكن من استيعاب المعلومات التي تتدفق علينا، فأكد أن عشرات الأزواج بتلك المناطق لا يزالون بدون عقود نكاح بعد زواج دام لعقود، سألناه عن السبب فقاطعنا مبررا ذلك بالفقر المدقع، وعبّر عن ذلك بجملة كررها أكثر من مرة "الناس هنا مضاربين غير معا ما ياكلو"، واستطرد الرجل الحامل لجزأ مهم من كتاب الله والعاطل عن العمل "المهر هنا غير معمول به في كثير من حالات الزواج، ولا يتجاوز 300 درهم في أحسن الأحوال بين الفقراء". وظل "بطلُ الطريق" يستعرض قصص أسر لم تجد طريقة لتدريس أبنائها بعدما استحال عليها إعداد الوثائق المطلوبة، وكذا حكايات شبان بلغوا عامهم الخامس والعشرين دون أن يستطيعوا الحصول على بطائق التعريف الوطنية. بدأ الشك ينتابنا في جدية ما يقول الرجل لولا أنه قادنا إلى قرية قريبة التقينا فيها برجال تعليم يعانون كل أنواع الويلات ونساء أكدوا جميعا ما سمعنا ونحن في الطريق إليهم، عندها تأكدنا أن البلاد تسير بسرعتين مختلفتين تماما، ما أحدث نوعا من التفاوت الخطير يبدو أنه ليس في علم وزير العدل الحالي. المرأة هنا بعَشْرة رجال ! في السادسة صباحا تغادر عائشة بيتها بحثا عن كلأ للماشية وحطب للطبخ والتدفئة، فيما زوجها منهمك في زراعة الشعير بمدرجات الجبل ورعايته، أما أزواج أغلب النساء الأخريات هنا فقد غادروا العالم القروي القاسي باتجاه مدن المملكة الواسعة بحثا عن عمل، وعلى سفوح الجبال تواصل عائشة ونساء وفتيات دوار إشباكن بحثهن من أجل جمع أكبر كمية ممكنة من العشب والشوك ليعودوا به بعد منتصف النهار (كما حكت لرجال ونساء الصحافة)، الفطور كان كأس شاي وقطعة خبز بالزيت، أما الغذاء فكسرة خبز مبللة بالزيت وكأس شاي كذلك، وبعد العودة من عمل النصف الثاني من اليوم تنهمك النساء في إعداد وجبة "الكسكس باللفت" التي تعد بشكل يومي تقول عائشة التي بدت على وجهها ابتسامة ممزوجة بألم واقعها وهي ترمي ما كانت تحمل على ضهرها عندما استقبلناها بعد عودتها حوالي منتصف النهار. عندما قمنا بأخذ بعض الصور والمعلومات الضرورية كنا نعتقد أننا أنهينا المهمة هنا، ظننا أن ما تعيشه نساء "إشباكن" كان أقسى ما يمكن أن نكتشفه خلال ذلك اليوم، لكننا اكتشفنا أن كثيرا من النساء توفوا نتيجة الحمل، منهن من حُملت على نعش الموتى وهي حية تُرزق، تُغالِب فظاعة ألم الولادة والبرد في انتظار الوصول إلى مركز صحي يستقبلها، في فصل الشتاء يقول سكان جماعة "إمي نولان إن سيارة الإسعاف الوحيدة بالمنطقة تكون محاصرة بالثلوج بينما تُحمل المرأة، التي غالبا ما تقطي بالطريق، على البغل أو النعش. أحد السكان أخبر زميلا لنا أنه فقد زوجتين له، الأولى في سنة 1986 والثانية في 1995، كما لم يخف تخوفه من أن يتكرر نفس الكابوس عند حمل زوجته الحالية، هذه هي الحقيقة التي جعلت إحدى الزميلات تذرف الدموع بينما كنا نتلهف لالتقاط كل معلومة من داخل ضجيج السكان الذين يتكلمون في نفس الوقت بغضب وحسرة وهم يشكلون حولنا دائرة، الكل في هذا العالم الآخر يريد أن يتكلم، أن يفصح عما بداخله من معاناة طالت، أحدهم أكد أن خمس نساء حوامل بأحد دواوير "إمي نولان" قضوا في طريقهم إلى المركز الصحي للولادة خلال سنتين فقط، وآخر عبر عن ارتياحه لزيارة الصحافة لأول مرة في التاريخ... صحيح، وصلتهم التلفاز والكهرباء، لذلك فهم يحسدون سكان المدن، يغضبون عندما تصلهم أخبار مناطق معزولة توصلت بالمساعدات والدعم الإنساني والنفسي بينما يتم تغييبهم من خريطة المشاريع والمبادرات. الأستاذ.. عين السكان على الأمل... ب"أمزري" المتاخم لإقليم أزيلال ، وهو آخر دوار وصلنا إليه حوالي الثالثة بعد الزوال، التقينا بأساتذة التعليم الابتدائي الذين وجدناهم يكترون بيتا محاذيا لزريبة الماشية ليعلموا داخله أبناء الدوار، هناك أطلقت العنان لأذني لأسمع أي شيء، أي شيء، ما دام التعليم على هذه الحال بأحد أكبر الأقاليم بالمملكة المغربية، أخبرنا أحد الأساتذة أنه يضطر إلى الشرح باللغة الأمازيغية حتى يمكن الأطفال من الفهم. وبينما نواصل الحديث معهم وجدت إحدى الزميلات "وِصال" تطلب من بعض التلاميذ التصريح ببعض المشاكل التي يعانيها الطفل هناك، فاكتشفنا جميعا أن أغلهم لا يعرف الكتابة، كما أنهم لا يعرفون حرفا واحدا باللغة الفرنسية... يقول الأساتذة هنا إن أطفال المنطقة يجدون صعوبة في القراءة باللغة العربية أو الفرنسية، كما أنهم لا يحرون كل الحصص لما تفرضه عليهم الأسر من مسؤوليات وأعمال، بالإضافة إلى تغيبات بعض الأساتذة والانتقالات الكثيرة لصعوبة الحياة على الجبل. لكن الأستاذ هنا يظل عين الساكنة على الأمل، يدرس الأطفال بالنهار والرجال بالليل، يؤم الناس في الصلاة، يقرأ رسائلهم ويكتب أجوبة كما أنه يصبح حكما في بعض النزاعات والخلافات داخل الدوار للاحترام الذي يحظى به بين السكان بعيدا عن السياسة والسياسيين . حكايات عزلة ما قبل وصولنا.. قبل أن نزور "إمي نولاون" بأسابيع قليلة كانت كل الطرق لا تؤدي إليها، فوصلت أثمنة قنينة البوطاغاز إلى ضعف ثمنها بالمدينة، وتقطعت بالساكنة كل السبل، وحطت الطائرة التابعة للدرك الملكي لأول مرة بالجماعة لتحمل صناديق الاقتراع خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة التي انتزعت خلالها العدالة والتنمية الرتبة الاولى، وأكد كل السكان أنهم قاوموا مختلف عراقيل الطبيعة وصولا إلى مكاتب التصويت للإدلاء بأصواتهم في إصرار على المشاركة في تحديد مستقبل بلادهم. يحتفظ سكان "تاسكيوالت أيت عفان"، "إشباكن" ودوار "إمزري" بذكريات مؤسفة عن الأيام التي يعيشونها في عزلة تامة عن الوسط الخارجي، في تلك الأيام يحكي السكان أنهم فقدوا عشرات رؤوس الماشية من الماعز والأغنام ورؤوسا من الأبقار التي نفقت نتيجة البرد أو الانجرافات التي تسببها الفيضانات وذوبان الثلوج على القمم المحاذية لمساكنهم. نداءات وصرخات يبدو أن لا آذان تسمعها ، محليا أوإقليميا، "أما الرباط فلا نظن أنها تعلم بما يقع هنا" يقول أحدد الشباب الحاصل على الإجازة من بين ثلاثة شبان من الجماعة الذين تمكنوا من متابعة الدراسة، والذي فضل إنهاء كلامه بالجملة الشهيرة "ما خفي كان أعظم".