كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة حول ميناء عائم يربط القطاع بالعالم الخارجي – تحديدا قبرص التركية- ، حتى أعتقد كثير من الناس العاديين في قطاع غزة المسحوقين تحت وطأة الحصار والبطالة والفقر أن الميناء بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق ، دون كثير اهتمام إن كان الميناء مشروع جاد أم مجرد مناورة لأطراف متعددة تسعى لتحقيق أهداف أخرى تتجاوز مجرد فتح ميناء لأسباب إنسانية وبعيدا عن المصلحة الوطنية العامة ، أيضا دون اهتمام إن كان فتح ميناء سيكون في إطار مصالحة وطنية أو بدونها ، ولا يهم حتى وإن كان الميناء تحت إشراف إسرائيلي أو تركي أو دولي !. المشكلة لا تكمن في الشعب الذي أصبح حاله كحال الغريق الذي يتشبث بقشة ، وبالتالي يقبل بأي مخرج يخفف عنه المعاناة ، ولكن المشكلة فيمن أوصل الشعب لهذه الحالة وفي الذين يروجون لفكرة الميناء ليلهوا الشعب عن قضيته الأساسية . تحدث قياديون في حركة حماس مستغربين انتقاد وتحفظ البعض على المحادثات التي ترعاها تركياوقطر لفتح ميناء ، من منطلق أنه كان في قطاع غزة مطار ومشروع ميناء ، فلماذا ترفض القوى الوطنية المفاوضات التي تجري بشأنهما الآن ؟ ! . نعم كان في غزة مطار ومشروع ميناء ، ولكنهما كانا رمزا للدولة الفلسطينية الموعودة ويخدمان كل مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة والضفة . كان مطار ياسر عرفات – تم افتتاحه يوم 24 نوفمبر 1998 وتوقف عن العمل في ديسمبر 2001 - مشروعا وطنيا كما هو الشأن بمشروع الميناء ولأنهما كانا كذلك فقد دمرهما الاحتلال في سياق حربه ضد المشروع الوطني وضد أبو عمار ومحاولاته بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية على كل أراضي قطاع غزة والضفة . وهنا علينا أن نُذَكِر بأن المطار والميناء جاءا في سياق بناء مؤسسات سلطة وطنية تسعى للتحول لدولة على كامل الضفة وغزة ، وكان العمل فيهما يسير جنبا لجنب مع تواصل غزة والضفة في إطار حكومة وسلطة واحدة ، ومع فتح معبر رفح مع مصر ، كما علينا التذكير بأن تدمير المطار ومشروع الميناء جاء في سياق سياسة إسرائيلية لتدمير ما أنجزته السلطة والجهات الصديقة كرد على الانتفاضة الثانية وعلى عمليات عسكرية قام بها رجال المقاومة . حديث الميناء اليوم يأتي في سياق مختلف ، حيث يأتي في سياق الانقسام الفلسطيني ووصول خيار حل الدولتين لطريق مسدود ، والحديث يدور عن ممر مائي يخدم قطاع غزة فقط الذي تسيطر عليه حركة حماس ، والحديث جاء في سياق مفاوضات تركية إسرائيلية لإعادة العلاقات بين البلدين لوضعها الطبيعي ، وحتى لا تبدو تركيا وكأنها تتخلى عن وعود سابقة لها بكسر الحصار عن قطاع غزة فقد وضعت بندا في المفاوضات يتحدث عن ممر مائي للقطاع يربطه بقبرص التركية ويكون تحت إشراف ومراقبة الجيش الإسرائيلي وقوات دولية . لا نشكك في النوايا الطيبة للشعب التركي تجاه الفلسطينيين ، إلا أن إسرائيل تعاملت مع المقترح كفكرة غير ملزمة وظفتها لتحقيق أهداف أخرى ، والدولة التركية ذاتها تعلم أنها لا تستطيع أن تفرض على إسرائيل مثل هكذا شرط لأن تركيا هي التي تحتاج لإسرائيل في هذه المرحلة وليس العكس ، وبالتالي من المتوقع أن تعود العلاقات التركية الإسرائيلية لعهدها السابق أما ميناء غزة فسيبقى فكرة أو مقترح أقرب لرفع العتب مما هو مشروع قابل للتنفيذ على المدى القريب ، وأطراف متعددة ستوظف الفكرة لتحقيق أهداف خاصة بها . حتى في حالة قبول إسرائيل بالفكرة فإنها ستتعامل معها من خلال حركة حماس كسلطة قائمة في قطاع غزة وليس مع الرئيس أبو مازن والسلطة الفلسطينية ، وستجر إسرائيل حركة حماس لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لسنوات كما فعلت مع منظمة التحرير قبل أن تفكر بوضع حجر أساس في الميناء ، كما ستستعمل إسرائيل مشروع الميناء في إطار سياسة العصا والجزرة في تعاملها مع قطاع غزة وفصائل المقاومة ،وهذا ما لمسناه من خلال إعلان إسرائيل أن الكبينيت المصغر اجتمع بالأمس – 4 مايو - في نفس الوقت الذي تصعد فيه عملياتها ضد قطاع غزة . ومن جهة أخرى فإن الشروط التي ستضعها إسرائيل في حالة قبول مناقشة الفكرة رسميا ستكون مجحفة حيث ستبتز إسرائيل حركة حماس وفصائل المقاومة في قضايا الهدنة والأنفاق والصواريخ والمصالحة الوطنية . وفي حالة خرق حركة حماس أو أي فصيل فلسطيني لهذه الشروط ستوقِف إسرائيل المفاوضات وسيكون الميناء عرضة للتدمير والتوقف عن العمل في حالة إنجازه ، كما جرى مع مطار أبو عمار قبل ذلك . كما أن الميناء سيكون خاضعا للرقابة والإشراف الإسرائيلي الكاملة سواء من حيث الأشخاص أو البضائع . نعتقد أن القيادات العليا في حماس تعلم إشكالات وتعقيدات الميناء وما وراء طرح الفكرة ، وبالتالي فهي تستعمل ورقة الميناء كورقة مزدوجة الأهداف ، فمن جانب تحاول من خلالها الضغط على منظمة التحرير والسلطة وابتزازهما لتحسين شروط المصالحة والتعجيل بها ، وإن لم تنجح على هذا المسار يتم توظيف فكرة الميناء لإجبار مصر على فتح معبر رفح والتعامل مع حركة حماس كسلطة أمر واقع في قطاع غزة ، ومن جانب آخر وفي حالة عدم تحقيق أي من الهدفين فهي مستعدة للذهاب بفكرة الميناء حتى النهاية وبغض النظر عن عواقبها . لقد نجحت مناورة الميناء والتي تشارك فيها تركيا وإسرائيل وحركة حماس في إرباك الطرفين الفلسطيني الرسمي ومصر . فبالنسبة للمنظمة والسلطة توجد تخوفات حقيقية من اشتغال عدة أطراف على صيرورة دولة غزة أمرا واقعا بحيث تصبح هي الدولة الفلسطينية مقابل تصفية السلطة الوطنية في الضفة الغربية ، ووجود ميناء يجعل دولة غزة اقرب للتحقيق . أما بالنسبة لمصر فوجود ممر مائي لقطاع غزة تحت حكم حركة حماس تحت إشراف تركي قطري إسرائيلي ، وخصوصا في ظل استمرار توتر علاقة مصر مع تركياوقطر وحركة حماس ، دون مراقبة مصر وإشرافها على الأشخاص والبضائع التي تدخل القطاع وتخرج منه ، ستعتبره مصر تهديدا لأمنها القومي في ظل الوضع المتوتر في سيناء وعلى الحدود المصرية الفلسطينية . لكن المثير للالتباس والغموض أنه في مقابل التخوفات المصرية من التدخل التركي القطري في الشأن الفلسطيني وخصوصا فيما يتعلق بالميناء إلا أن مصر تستمر في إغلاق معبر رفح حيث لم يتم فتح المعبر خلال العام الماضي 2015 إلا لأيام لا تزيد عن عشرين يوما ، وهو الأمر الذي يثير قلق غالبية الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ويدفعهم للتساؤل عما تريده مصر ؟ . هل مصر مع دولة غزة ومستعدة لفتح معبر رفح والتعامل مع حركة حماس كسلطة أمر واقع إن قدمت لها حركة حماس ضمانات أمنية كما هو الحال مع إسرائيل ؟ أم أن تشديدها في إغلاق المعبر هدفه التضييق على حركة حماس وإجبارها على العودة للشرعية الفلسطينية من خلال تنفيذ بنود اتفاق القاهرة للمصالحة ؟ أم أنها شريك في صناعة دولة غزة بحدودها الحالية أو الموسعة باتجاه سيناء ولا تمانع حتى في فتح ميناء لغزة ، في إطار تسوية شرق أوسطية جديدة تضمن مصالح مصر وأمنها القومي ؟! . مع تفهمنا للظروف التي تمر بها مصر وخصوصا في سيناء إلا أنه يمكن لمصر بما لها من وزن ودور أن تخفف المعاناة عن فلسطينيي قطاع غزة دون أن تدفعهم للتجاوب مع مخطط ميناء غزة الذي سيكون عنوانا لتكريس دويلة غزة والتي إن قامت ضمن معادلة (إسرائيل ، تركيا ،قطر ،الإخوان المسلمين) فستبقى مصدر توتر في العلاقات الفلسطينية المصرية . نأمل أن تساعد الزيارة المرتقبة للرئيس أبو مازن لمصر في إيجاد مخرج مشرف للجميع بحيث يتم رفح الحصار عن قطاع غزة وفتح كل المنافذ بما في ذلك ميناء ومطار ، في إطار مصالحة وطنية ، وبما يضع أسس لدولة فلسطينية متحررة من قيود الاحتلال وإكراهات الأجندة الخارجية .