هناك بعض الصيحات من داخل التيار الإسلامي التقليدي تدعوا إلى تجديد الفكر الإسلامي، وفي عمقها لا تزال غير قادرة على فك عزلتها الفكرية عن ذلكم الإرث الثقافي التاريخي، والتخوض في متاهة تقديس الأشخاص والآراء التي تحولت للأسف إلى مرجعية مطلقة غير قابلة للتساؤل والأخذ والرد، وهو المنهج الذي كبل العقل الإسلامي وضيق مساحة اشتغاله، رغم أنه في مجمله اجتهادات بشرية أملتها حاجات معينة ظرفية ومكانية. إن المجتمع الإسلامي المعاصر يحتاج بقوة إلى أن يتنفس فكرا حضاريا يحث على السير والنظر في الأرض، ويقوم بواجب التسخير الكوني، ويفتح آفاق السنن الكونية، ويبتكر طرق الترويض العلمي النفعي لها، حتى لا نبقى نراوح مكاننا ونحفظ وندرس مسائل قد اندرست كل معالمها في الحياة المعاصرة، إذ لا يمكن لفكر من هذا النوع أن يستمر إلا بالقوة والعنف والإكراه، لأنه ينفي المتغيرات الثقافية والاجتماعية، ويغيب العقل ويصادره، ولا يمكن أن نرى في واقعنا المعاصر شعبا يخضع لممارسات الإرهاب بنوعيه الفكري والمادي كالشعب الإسلامي الذي غاب تحت وطأة هذا الإرهاب عن ساحة الفعل الإنساني وما زال. إذا كنا نراهن بالفعل على صلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان، وبالتالي إمكانية استيعابه للقضايا المستجدة، وتفاعله مع المناهج الفكرية الحديثة، واستجابته للأنساق الثقافية المعاصرة، فما علينا إلا أن نعيد النظر في كثير من القضايا التي يطرحها الخطاب الإسلامي التقليدي/الكلاسيكي، والتي لا تستجيب لمتغيرات الواقع، رغم أن هذه القضايا أصلا ليست من ثوابت الإسلام بل هي من ضمن المتغيرات، ولعل أبرزها هو الموقف من الديمقراطية، والمواطنة، والطبيعة المدنية للدولة، وقضية المرأة، والنظر إلى الآخر، ومنكر ونكير، وعذاب القبر، وأهوال الساعة...، وكفانا من النكوص إلى الماضي والاحتماء بأمجاده السعيدة، فهذا لا يعدو أن يكون إلا أوالية شائعة في حالات الفشل. أعتقد أن الدخول في مسلسل التحديث والعصرنة لا يمكن أن يبدأ من دون تطوير منظومة فقهية جديدة للتعامل مع القضايا المستجدة، لا تفرض قيودا على حريات الناس، وتتوافق مع مبدأ المساواة بين الجنسين ومبدأ المساواة بين المواطنين، ولذلك نحن في حاجة إلى قراءة معاصرة علمية دقيقة لمسائل فقهية وعقدية كثيرة ومتعددة، تقطع تماما مع ما يتم تداوله في النسق الثقافي الإسلامي التقليدي، نظرا إلى أنه ليس حتمية وليس ملزما لكل زمان ومكان، لأنه صدر في ظروف تاريخية تختلف عن ظروف عصرنا اختلافا كبيرا. فالأئمة الأربعة أو الستة وحتى التسعة والخلفاء الأربعة وسواهم من الأئمة والخلفاء ليسوا سوى بشر مارسوا حقهم في الاجتهاد والتفكير، وتركوا لنا تراثا يستحق منا أن نفكر فيه ونجتهد، كما فكروا هم واجتهدوا، لكن مع الأسف دائما ما يرفع الخطاب الديني التقليدي السائد لواء الاجتهاد والتجديد بشرط أن يدور المجتهد والمجدد في إطار اجتهادات وتجديدات الأئمة والخلفاء المتقدمين، فهو خطاب يحتمي بالتراث للدفاع عن أفكاره ذات الطابع التقليدي الذي يميل إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يكفر كل مفكر مجدد ومطور ومتطور، كما يطالب الخطاب التقليدي لتحقيق الإسلام كما يفهمه بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وبعودة المجتمع في القرن الواحد والعشرين إلى صورتهم التي كانوا عليها في القرن السابع والثامن الميلاديين، فهو اجتهاد وتجديد يجد مناطه في الانحطاط والتقليد.