ما يجري اليوم مع تفجيرات باريس وتنظيم داعش جرى منذ أربعة عشر عام تقريبا – تفجيرات 11 سبتمبر 2001- عندما تم تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن ، حيث اتهمت واشنطن تنظيم القاعدة بالوقوف وراء هذه التفجيرات ،وعلى إثرها حرضت وحشدت واشنطن دول العالم في حملة دولية بقيادتها لمحاربة (الإرهاب) الذي تم اختزاله بتنظيم القاعدة ، وهو التنظيم الذي نشأ وترعرع في بداياته برعاية ودعم واشنطن ودول خليجية . الحملة الأمريكية ضد الإرهاب لم تقتصر آنذاك على ضرب تنظيم القاعدة ،حيث لم يُمس التنظيم إلا قليلا نتيجة هذه الحملة ،بل أمتدت لتضرب دول وأنظمة معادية للسياسة الامريكية دون أن يكون لها علاقة بتاتا بتنظيم القاعدة ،كما جرى مع العراق . واليوم نلاحظ أنه وبعد مرور أربعة عشر عاما لا تم القضاء على تنظيم القاعدة ولا على الإرهاب ،وبالمقابل عززت واشنطن من تواجدها العسكري والأمني في دول الشرق الأوسط ،ونشرت القواعد العسكرية في أكثر من بلد عربي ، وباعت أسلحة لدول المنطقة بمئات ملايير الدولارات تحت ذريعة خطر الإرهاب ، كما تم تفكيك دول وإثارة الفتنة الطائفية وإسقاط أنظمة وابتزاز أخرى الخ . خلال كل ذلك تم إزالة الخطر الذي كان يشكله العراق على إسرائيل ، كما تم إبعاد الانظار عما يجري في فلسطين ،حيث جاءت تفجيرات 11 سبتمبر في أوج انتفاضة الأقصى وحيث كان العالم مُستفزا من القمع الصهيوني للمنتفضين ،وقد عملت إسرائيل على خلط الأوراق من خلال الربط ما بين تفجيرات 11 سبتمبر والاعمال الإرهايبية الأخرى من جانب وعنف الفلسطينيين من جانب آخر ،لتقول للعالم انها تتعرض للإرهاب كما يتعرض الغرب للإرهاب . وكأن التاريخ يعيد نفسه ،فما أن ضرب تنظيم دولة الخلافة (داعش) باريس حتى استُنفِر العالم وخصوصا الغرب متداعيا لتكاثف الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب والذي تم اختزاله بتنظيم داعش ،وكأن الإرهاب بدأ مع تنظيم داعش الذي ولِد من رحم تنظيم القاعدة وفي ظروف ملتبسة ، وكأن القضاء على داعش سيؤدي للقضاء على الإرهاب ! وفي ذلك اختزال مخل لمشكل الإرهاب وتجاهل خطير لأطرافه وأسباب ظهوره ، وعدم استفادة من التجارب السابقة ،في حالة افتراض أن باريس والغرب عموما يريدون القضاء على تنظيم داعش . من حق فرنسا أن تغضب ومن واجب الدول أن تتعاطف معها ، ولا أحد يمكنه أن يقبل هكذا أعمال ضد مدنيين ، إلا أن الأمر يتطلب مزيدا من التعمق والبحث الجاد في تعريف الإرهاب وأسبابه الحقيقية وكيفية مواجهته ، وسيكون من الخطورة والخطأ الكبير اختزال الإرهاب بتنظيم داعش ، فليس داعش المصدر الوحيد للإرهاب في المنطقة ، حتى وإن كانت طريقة ممارسته لعنفه أكثر إرهابا واستفزازا . الإرهاب في المنطقة لم يبدأ مع داعش ولن ينتهي في حالة القضاء عليه ،فهناك بيئة اجتماعية وسياسية تُنتج الإرهاب ، كما أن هناك عوامل خارجية تدعم الإرهاب وتحتضنه ،أو تبرر ظهور جماعات إرهابية . ليس تنظيم داعش لوحده من يمارس الإرهاب في العالم إن ظاهرة (الإرهاب) في المنطقة العربية تستدعي المزيد من البحث والدراسة لوضع ما يسمى تضليلا بظاهرة (الإرهاب الإسلامي) في سياقها الصحيح . الجماعات الإسلاموية التي تمارس الإرهاب لم تاخذ تفويضا ربانيا بالقيام بما تقوم به ،كما أن المسلمين لم يفوضوها بذلك . أيضا هناك شكوك قوية بوقوف دول غربية وراء هذه الجماعات أو بعضها ، كما أن إرهاب هذه الجماعات ليس الوحيد في المنطقة حيث الإرهاب الصهيوني أكثر خطورة وفتكا لأنه يهدد الوجود الوطني لشعب بكامله - الشعب الفلسطيني – بالإضافة التي الجرائم المستمرة من خلال حالات العدوان المتكررة على قطاع غزة وعمليات الاستيطان وتدنيس المقدسات وقتل المواطنين في الضفة والقدس . كيف يمكن منع جماعة من أن تمارس الإرهاب باسم الإسلام أو الجهاد- حتى وإن كانت الممارسة والتوظيف خاطئين في المكان والزمان – بينما إسرائيل تحتل القدس وتدنس المسجد الأققصى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين ،وهو المكان الأكثر قدسية بعد مكةالمكرمة ؟ كيف يمكن إقناع مليار ونصف مليار مسلم بعدم وجود ازدواجية في المعايير في سلوك الغرب ،حيث يحشد الغرب الجيوش لمحاربة جماعات إرهابية إسلامية هنا وهناك ، ويصمت على الاحتلال الصهيوني لفلسطين وممارسات الجيش الإسرائيلي التي تُوقِع يوميا القتلى والجرحى وتعتقل الآلاف من الفلسطينيين ؟ . كيف لا يفكر سنة العراق والسنة بشكل عام بالانتقام ممن كانوا سببا في إذلالهم من طرف الاحتلال الأمريكي في العراق وإذلال ميليشيات شيعية أذلت أهل السنة ؟ كيف لا يفكر مليون جندي وضابط -عدد افراد الجيش العراقي الذي تم حله من طرف الامريكي برايمر وأعوانه في العراق بعد احتلاله عام 2003 - لا يفكرون هم أو ذويهم بالإنتقام ممن كانوا سببا في أهانتهم وإذلهم ؟ كيف لا يفكر شخص أو جماعة بالانتقام ممن كانوا سببا في تحويل ما كان يُفترض أن يكون ربيعا عربيا إلى فوضى وحروب أهلية تثير الفتنة الطائفية وتفكك الاوطان ؟ . ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية ليس حزبا كبقية الأحزاب، إنه تركيبة معقدة من الغضب والحقد والفقر واليأس والتخلف ، وتوظيف كل ذلك من طرف أنظمة عربية وإقليمية وغربية وإسرائيل والتآمر الخارجي . وبالتالي يمكن تفكيكه او إضعافه ولكن يُصعب القضاء عليه ما دامت الأسباب المُنتِجة له قائمة ،وإن تم القضاء على داعش ستوجد دواعش جديدة . أن الأمر بحاجة للبحث في أسباب الظاهرة المسمى إرهاب وفي الحالة المُسماة تنظيم الدولة الإسلامية. كما يحتاج الأمر لوضع مقاييس أخلاقية وسياسية وقانونية لتعريف الإرهاب وتمييزه عن كفاح الشعوب من أجل حريتها واستقلالها. وكذا يحتاج الأمر أن يشمل تعريف الإرهاب حالات العدوان والتدخل الفج للدول الكبرى على شعوب المنطقة. والقانون الدولي والمنظمات الدولية بحاجة إلى وضع قواعد قانونية حول هذه الظواهر، بل وإعادة النظر في قواعد الحرب والعدوان كما هي مدونة في القانون الدولي الكلاسيكي حتى تناسب أشكال الحرب والعدوان غير المعلنة التي تمارسها الدول المهيمنة ضد الشعوب المستضعفة. ربما كانت مصادفة أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 جاءت في أوج انتفاضة الأقصى التي أثارت العالم على إسرائيل ووضعتها أمام أزمة وجود حقيقية ، وتفجيرات باريس في نوفمبر 2015 جاءت في ظل الانتفاضة الثالثة وتزايد المواقف الدولية والشعبية الأوروبية خصوصا المؤيدة للفلسطينيين والمنددة بالسلوك الإسرائيلي ؟ . ولكن من المهم التفكير بما قاله وزير الدفاع الفرنسي قبل أيام من تفجيرات باريس بأن الشرق الأوسط لن يعود كما كان ! ،فهل ستوظف باريس هذه التفجيرات لإعادة ترتيب الشرق الأوسط كما عملت واشنطن بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 أم انها جادة في البحث عن الأسباب الحقيقية للإرهاب والعنف في المنطقة ؟. ليس هذا هوس نظرية المؤامرة ولكن هذه هي السياسة في الشرق الأوسط وفي السلوك الصهيوني على وجه الخصوص . وللحديث بقية حول تعريف الإرهاب .