لا نكاد نودّع حادثة مأساوية في الوسط المدرسي حتّى نستقبل أخرى، وكأنّ بالمدرسة المغربية حلبة صراع تتجدّد فيها فرجة ال"أكشن" مع كلّ دخول مدرسيّ جديد. ففي إحدى المؤسسات الإعدادية بإنزكان-آيت ملول، تعرّض مدرّس مادة الرياضيات في عقده الخامس بحر هذا الأسبوع لضربة قلم كادت تفقئ عينه وترسله إلى التقاعد الاضطراري أعور، في محاكاة رديئة لما وقع لأستاذ "سلا" الذي أوشك على مغادرة الحياة بضربة سيف، إلا أن الفرق بين الأول والثاني يتمثّل في الزيّارة الحكومية التي حظي بها الأخير كدلالة قويّة على الوقوف إلى جانب الأستاذ "الضحية" في محنته، وهو ما ينتظره صاحبنا للخروج من أزمة نفسيّة حادّة يحاول التعايش معها دون جدوى. مصادر من عين المكان، أفادت بدخول النّقابات التّعليميّة على الخطّ كعادتها عبر بيانات تنديديّة، ومدرّسو المؤسسة نظّموا وقفات احتجاجيّة استنكارا لما ألمّ بزميلهم، وتحرّكت الهواتف المحمولة تضامنا مع مدرّس أفنى عمره في حمل شعلة تنير دروب مجتمعه، وشفقة على متعلّم ما زال في بداية حياته لكنّه تحوّل فجأة ل"مجرم" لا تحسب عواقبه، ليعود من جديد ملفّ العنف المدرسي ومكانة المدرّس داخل منظومة تربويّة ما إن تودّع مخطّطا "إصلاحيّا" حتّى تبدأ آخر. فمن الذي أوقع إذن بين طرفين كان يفترض منهما كلّ التناسق والانسجام، حتّى خصّ لهما الموروث الثّقافي والفكري حيّزا هامّا في "أدب العالم والمتعلّم"؟ على المستوى الرسمي: تنصبّ غالبية الخطابات على تصوير المدرس عدوّا ل"الإصلاح" ورمزا لمختلف الموبقات حتّى كاد يقال إنه جزء لا يتجزأ من "التماسيح" و"العفاريت" التي شكا منها رئيس الحكومة في تجربته الحالية، وصاحب مهنة عادية يجب أن يخضع لقواعد صارمة في الحضور والغياب، ويصير رقم هاتفي في متناول الجميع بمن فيهم الدّهماء والرّعاع لتتبع سكنات وحركات المدرّسين، كأنّ أعين السّلطة التي لا تنام قد تترك ثغرة ينفذ منها شعاع الخفاء، وكافّة الإجراءات الإداريّة التي صنّفته كأضعف حلقة تنزل القرارات على أمّ رأسه، ويجب عليه التّقيّد بها حرفيّا. بهذا نجد أنّ أوّل من يجرؤ على احتقار المدرّس مسؤولونا، عبر مذكّرات تفوح منها رائحة المكننة كأنّه في معمل لا مدرسة، وأخرى تُصفّده في مواجهة الإدارة ومحيطه الذي لا يرحم، وأخرى تعيقه من استزادة معارفه وممارسة حقّه المشروع في التّعلّم، وأخرى تجبره على المسير إلى قسمه وحيدا كجنديّ يقصد الهيجا بغير سلاح، دون ضمانات حقيقيّة لحمايته من التّهجّمات والاعتداءات التي لا تراعي حرمة حياته وشرفه. أمّا الوضعية الاقتصادية، فيكفينا ما جادت به قريحة مركز التعليم العالي التّابع لجامعة شيكاغو حيث المغرب في المرتبة ما قبل الأخيرة بأجور المدرّسين من بين 13 دولة "عربية". وعلى المستوى الإعلامي: يقدّم المدرّس للعامّة على أنّه صاحب سجلّ حافل بالرّذائل التي تسجّل في ثنايا مجتمع منهك، من اغتصاب واعتداءات وضرب وجرح وتهاون وتكاسل..، ويقدّم للمشاهد في صورة رديئة تطبّعت معها الأذهان، وتلقّفتها عقول المتعلّمين قبل أوليائهم وآبائهم. وهذا إلى حدّ ما مفهوم، لانّ المدرّس ببساطة يشكّل خطرا كبيرا على المخطّطات الرديئة التي تقودها قنوات إعلاميّة تمتصّ جيوب ضعاف الخلق مصّا، وتحاول إزاحة كلّ شائبة تقف في طريقها. وعلى المستوى الشّعبي: وقعت تحوّلات مجتمعية كبرى عصفت بمؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة التّقليديّة وحصرت أدوارها في خنادق ضيّقة، وجعلتها ترزح تحت وطأة العولمة، وبوّأت التّلفاز ووسائل الإعلام الحديثة مكانة عظيمة في نفوس أسر نوويّة، تتلقّف ما تجود به عليهم صباح مساء، فيسيرون في اتّجاه ما تخطّط له، حيث الآباء لا يملكون من أمر أبنائهم إلاّ توفير الهواتف "الذّكيّة" ومستلزماتها، ودفع فواتير الماء والكهرباء والاتّصالات... هي جميعها أمور سحبت الدّور الشّريف من مؤسسات التّنشئة وفي مقدّمتها المدرسة والأسرة، وحوّلت المدرّس إلى جسد أنهكته الضّربات، وحالت بينه وبين ممارسة دوره الفعّال الذي فطن له شوقي يوما حين أنشد: قف للمعلّم وفّه التّبجيلا...كاد المعلّم أن يكون رسولا وحيثما لم تستحضر الوزارة الوصيّة على قطاع التّربية والتّكوين البعد الاعتباري للمدرّس في رؤيتها الاستراتيجيّة (2030)، ووضعيّة متعلّم القرن الواحد والعشرين، وتعاملت مع الأمر بحزم، فإنّ المخطّطات الإصلاحية ستبقى حبيسة الرّفوف المكيّفة، بعيدة كلّ البعد عن هموم الواقع المعيش.. وهكذا فإن حادثة مؤسسة "المستقبل"، جاءت لتؤشّر على استمراريّة أحداث مأساوية تنبئ بأزمة قيمية تكتسح منظومتنا التّربوية، وتجعل المدرّس في فوهة مدفع ثقيل، وتصنع من المتعلّم قنبلة موقوتة يستمدّ قوّته من قنوات تلفزيونيّة تقدّم دروسا في صناعة الإجرام، ومؤسّسات تنشئة مكبّلة بقيود قانونية ووهمية.