يبدو أن تبعيتنا للغرب لن تنقضي و يبدو أن بيننا الكثيرين ممن ينافقوننا و يناقضون أنفسهم، حتى أنهم يلعنون الاستعمار الغربي و مخلفاته و تراهم في نفس الوقت ينهمون بعض فكره راغبين إسقاطه في بيئة قد لا تليق به و ربما بعيدة أشذ البعد عنه. من بين هذا الاستنباط، نجد عندنا الفكر الحداثي ينادي بإيديولوجية العلمانية و هي في مختصر مفيد : فصل السلطة عن المعتقد مما يعطي للأفراد المساحة الكافية لممارسة عقائدهم الدينية. فلنعد قليلا للزمن الماضي و نسترجع ظروف ظهور الفكر العلماني في أوروبا. في القرون الوسطى، و صلت الكنيسة إلى أقصى ظلمها، حيث هيمنت على جميع القطاعات و لم تكن لتسمح لأحد بالخروج عن مذهبها المسيحي الكاثوليكي، إذ استغلت الدين أبشع استغلال و نفذت باسمه مجازر في حق كل من خرج عن طواعيتها. كانت محاكم التفتيش التي ظهرت في فرنسا سنة 1233م، تقوم بحملات اعتقالات لكل شخص أو جماعة خرجت عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، كانت ترميهم بتهمة الهرطقة التي تقود مباشرة إلى المشنقة أو الحرق حيا، و كانت الذريعة في الأساس هي الاستيلاء على ممتلكاتهم، و أيضا الخوف من تلاشي دور الكنيسة أمام تيارات علمية و فكرية بدأت بالظهور آنذاك، هذه المحاكم التي ستستمر حتى قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م. نفس الأجواء ظهرت في إسبانيا سنة 1478م بزعامة الملك "فرناندو" و الملكة "إيزابيلا"، حيث استهدفت محاكم التفتيش اليهود و المسلمين على الخصوص، و مازال التاريخ شاهدا على المحارق الجماعية لكل من ألصقت به تهمة الهرطقة، و قد استمر نفوذ هذه المحاكم في شبه الجزيرة الأيبيرية حتى سنة 1820م، بالرغم من أن نابليون كان قد دخل "مدريد" و أصدر قانونا بإلغائها سنة 1808م. كخلفية لهذه الظروف التي سادها اقتصاد إقطاعي تحركه الكنيسة لمصلحتها على حساب استغلال الشعب و استعباده؛ ظهر الفكر العلماني كفلسفة تحررية من هيمنة هذه الأخيرة على الحياة العامة بكل أقطارها. كان هذا في عصر التنوير حيث ساد الشعب و حيث صارت العقيدة أو اللاعقيدة حرية شخصية للأفراد وجب احترامها. اليوم و نحن في القرن الواحد و العشرين، نجد أوروبا العلمانية بدأت تتناقض و مبدأها الذي دُفعت من أجله أرواح آلاف من البشر، قتلوا إما شنقا أو محروقين و هم أحياء، يلاحظ أن هناك ربما حنين إلى محاكم التفتيش. القارة العجوز أصبحت تظهر قلقها إزاء تنامي نسبة المسلمين عندها، خصوصا مع فشلها في إدماجهم ثقافيا و مع قلة المواليد في صفوف المسيحيين. قلق أوروبا هو دليل على أن علمانيتها و ليبراليتها شعاران رنانان تصدرهما للشعوب المتخلفة حيث لم تسطع ترسيخهما بين شعوبها، و حيث باتت تتنكر لهما، إذ بتخوفها ذاك و بالإجراءات التي بدأت تتخذها ضد المسلمين من حيث التضييق عليهم، فهي تلغي كل تعدد ثقافي و اختلاف ديني و تدعو للعقيدة الواحدة، بل أنها أصبحت تدور في كنف لا ديني و تريد توجيه مُسلميها نحوه. هذا يبرز لنا أن أوروبا لم تهجر الدين كلية، فإذا استحضرنا فقط "الفاتكان"، سنخلص لمرجعيته الأساسية و تأثيره الكبير و الحقيقي في صنع القرارات الدولية. تقوَّى السعي وراء أحادية الدين مع إظهار عداء واضح ضد المسلمين، و ما الإعلام و الأحزاب اليمينية المتشددة إلا أحد الأطراف الموجَّهة لتكريس هذا العداء ضد كل ما هو أجنبي. في المغرب، بعض المنادين بالعلمانية يعتبرون أنفسهم متشبعين بقيم الحداثة و التعايش، استوردوا إيديولوجية العلمانية من الغرب كما استوردوا معها نفس التناقض الذي وقعت فيه أوروبا، حيث لم يُخفوا تحاملهم على الدين الإسلامي هنا أيضا، رافضين تواجده بحدة، حتى أنهم يشككون في إسلام الناس و يقولون أنهم مسلمون فقط بالوراثة! بعض من تأثروا بهذا الفكر، لسان حالهم يقول باحترام رسول الإسلام، بينما يذكرون اسمه دون الصلاة و السلام عليه و يسخرون من أحاديثه في غياب تام لمرجعية دينية! مازالوا يؤمنون بأن الدين أفيون الشعوب، فهل هذه علمانية أم إلحاد؟ يطالبون بالتعددية الدينية، بينما كل انتقادهم و رفضهم منصب على الإسلام، هذه إذن لم تعد تعددية و هذا نفس الشَّرَك الذي وقعت فيه أوروبا حين خشيتها من الإقبال المتزايد للناس على هذا الدين، فصارت تبحث عن شتى الوسائل لتقزيمه، إما فوق أرضها، أو مصدرة خططها لبقاع تراها خصبة للانخراط فيها. هذا الموقف العدائي من الإسلام و رسوله، قد تُعزى أسبابه للفكر المشوَّه الذي سوقه عنه العرب من خلال أنظمتهم المستبدة و من خلال مجتمعاتهم المتخلفة، أيضا الصورة المتطرفة التي نشرتها عنه بعض الجماعات المتطرفة و التي كان للإعلام الغربي الدور الرئيسي في تصديرها للعالم، حيث ظهر ما يسمى ب"الإسلام فوبيا"، كذلك ربْط الإسلام بالعروبة، حيث يقال إنه موجه للعرب دون غيرهم خصوصا أن رسوله عربي، مع العلم أنه دين أتى للناس كافة، مع حرية الإيمان به أو تركه. لنتروى لحظة و لنفكر بعمق؛ فالعلمانية فكر قد يخدم فعلا الأديان لو طبق بعقلانية و موضوعية و من دون حمولات سالبة ضد دين بعينه، لكن في أحسن الحالات و مع أكثر الناس إيمانا بهذا المطلب، تجدهم و في لحظة حماسة، ينساقون وراء عواطفهم و يبدؤون في الاستهزاء من الإسلام و من اتباعه .. هذه ليست علمانية بقدر ما هو حقد دفين على هذا الدين، و لينظر كل من يجد نفسه في هذه الخانة، إلى ماهية الأسباب الحقيقية وراء شعوره و رد فعله هذين، و ليحاول أن يحاسب من اتخذ من الإسلام أداة حتى يقدم عنه صورة مغلوطة، لا أن يجعل منه كبش فداء لأخطاء مورست باسمه.
إذا كانت أوروبا نفسها، واضعة الفكر العلماني، قد فشلت في تطبيقه و صارت في اتجاه الإلحاد و باتت مناهضة للإسلام، فهل يستطيع التابعون الجدد في بلدان العالم الثالث، إنجاح الأمر؟ هل يتمكنون من تجاوز الفكر الإقصائي الذي يستهدفون به الإسلام و يعززون بالمقابل، التواجد اليهودي و المسيحي على غرار الغرب؟ هل مجتمعنا مؤهل حاليا لتبني هذا الفكر؟ هل العلمانية هي ما نحتاجه و نحن بعد نتخبط في مشاكل اجتماعية، هوياتية، اقتصادية و سياسية ليس لها أول من آخر؟ أم ربما يريدونها صراعا للأديان حتى تنتعش جهات على حساب الشعب كالعادة؟ .