تمر اليونان هذه الأيام من ظروف دقيقة يمكن وصفها بالمصيرية بفعل الأزمة الإقتصادية التي تمر منها اليونان و المفاوضات العسيرة التي تجريها حكومة ألكسيس سيبراس Aléxis Tsípras ذات الخلفية الإيديولوجية اليسارية مع الإتحاد الأوربي حول المستحقات اليونانية من الديون و التي تصل إلى المليار و نصف المليار يورور لفائدة دائنيها من الأوربيين وسبل إنقاذ الوضع الاقتصادي، وأمام عجز اليونان عن سداد تلك الديون ورفض الخضوع لسلسلة الضغوطات التي تمارس عليها و الرامية إلى إقرار سلسلة إصلاحات تستهدف إجمالا تبني إجراءات تقشفية وتوسيع مجالها و إقرار إصلاحات هيكلية وضريبية تتسم في عمومها بالصعوبة لما لها من أثر على المعيش اليومي للمواطن اليوناني . الأمر الملفت للنظر هو صمود الحكومة اليونانية أمام هذه الموجة العاتية و أمام مطالب عمالقة الإتحاد الأوربي ورفضها للإذعان وتنفيذ حزمة الإصلاحات المثيرة للجدل على الرغم من صعوبة الموقف وحساسية الوضع الاقتصادي وضيق هامش المناورة و اضطرارها إلى تجميد العمل البنكي و حصر السحوبات البنكية من الصرافات الآلية في 60 أورو يوميا، حيث قامت بالرجوع إلى الشعب والإعلان عن تنظيم استفتاء حول خطة الإنقاذ الأوربية و الذي سيتم تنظيمه الأحد المقبل و الذي دعت إليه حكومة سيريزا بعد وصول المفاوضات إلى الطريق المسدود و عدم قدرتها على التنكر لمبادئها و لبرنامجها الانتخابي الذي قطعته على نفسها و الذي على أساسه تم انتخابها بل و دعت صراحة الشعب اليوناني إلى التصويت ب "لا" في الاستفتاء. لعل الحكومة اليونانية تدرك جيدا أنه على الرغم من صمودها في وجه الضغوطات الأوربية و عدم رغبتها في تقديم تنازلات في المفاوضات المتعثرة، فإن الشركاء الأوروبيين لن يقوموا بأي إجراءات عقابية ضدهم أكثر مما هم فيه، وكل ما يمكن أن يترتب عن ذلك هو ربح الوقت و تمديد أمد المفاوضات و التي يرجى من خلالها الحصول على أفضل ما يمكن من عروض،ذلك لأن جزء مهم من اليونانيين ما انفكوا يعبرون عن رفضهم لمبدأ العملة النقدية الموحدة والتي كان لها تأثير كبير على قدرتهم الشرائية.وهو الموقف ذاته الذي تبته بريطانيا غير ما مرة حينما رفضت الانضمام إلى العملة الموحدة بل و ذهبت أبعد من ذلك حينما أعلن حزب المحافظين عن اعتزامه تنظيم استفتاء شعبي حول بقاء بريطانيا ضمن الإتحاد الأوربي سنة 2017. من الواضح أن الأزمة اليونانية تخفي وراءها الكثير من التناقضات و الاختلافات في الرآى ووجهات النظر بين مختلف أعضاءها حتى لو لم تكن بادية للجميع، وهذه بالتأكيد هي ضريبة التوسع الكبير في المجال الجغرافي وضم الإتحاد لدول طالما اعتمدت النموذج الاقتصادي الاشتراكي لا سيما المحسوبة منها على المعسكر الشرقي سابقا و التي وجدت صعوبة في الاندماج و الالتزام بالمعايير الأوربية الغربية الصارمة و مجاراتها في ذلك وحجم التباين الكبير في اقتصادياتها وأنماط عيش شعوبها ويمكن أن نضرب مثلا بالاقتصاد البرتغالي و الإسباني وبعض دول شرق أوربا كبولونيا وبلغاريا، وهي دول مهددة بأن تحدو حدو اليونان في وقت لاحق. ألمانيا ومن خلفها فرنسا و الذين يمكن اعتبارهما عرابي الإتحاد الأوربي وضامني استمراريته، تجدا نفسيهما أمام وضع صعب و المتمثل أساسا في العمل على منع خروج اليونان من منطقة اليورو والحفاظ على عضويتها بأي ثمن حتى لو طال أمد المفاوضات وذلك نظرا لمزيتها التارخية و لميزتها وأهميتها الإستراتيجية كواجهة جنوبية- متوسطية للإتحاد الأوربي ، ذلك لأن حدثا كهذا ستكون له بالتأكيد عواقب على البناء الأوربي برمته ،بل ويمكن أن يؤدي إلى زعزعة الثقة به و بآياته وجدوى الالتحاق ببنائه و القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها لمنخرطيه خصوصا من يمكن وصفهم بالحلقة الأضعف من بين أعضاءه، و مبادئه التي من المفروض أن تقوم على التضامن بين مختلف أعضاءه وليس على مبدأ الابتزاز و الضغوطات، الشيء الذي ينذر في نظر العديد من المتتبعين ببداية انفراط عقده وتفككه على المدى المتوسط و البعيد و هو نقاش بدأ يخرج إلى العلن عبر الكثير من الأروقة الإعلامية الأوربية، و هو أمر مطلوب كثيرا من طرف الجانب الروسي الذي يرى في الإتحاد الأوربي خصما عنيدا له خصوصا بعد فرضه لسلسلة العقوبات على الاقتصاد الروسي و الذي كبده خسائر فادحة ونظرا لانخراط دوله في حلف الناتو الذي التهم العديد من دول الإتحاد السوفياتي سابقا ودوره في الأزمة الأوكرانية، وربما حتى من الولاياتالمتحدة التي ترى فيه منافسا قويا لاقتصادها، لكنها مهتمة كثيرا ببقاء أعضاءه ضمن الناتو كحلف عسكري بالطبع تضطلع فيه بدور الريادة. الدروس التي يمكن استخلاصها من الأزمة اليونانية وطريقة تدبيرها من طرف حكومة تسيبراس هو كيفية صمودها وثباتها في وجه الضغوطات التي تواجهها على الرغم من المأزق الذي تمر منه البلاد و احتكامها للشعب الذل تستمد منه قوتها و تناغمها مع مبادئها حتى لو أدى الأمر إلى التصويت ب "لا" ضد خطة الإنقاذ المعروضة أو إجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة جديدة، وهي دروس يمكن للعديد من الدول و الشركاء أن يستفيدوا منها في مفاوضاتهم مع الشريك الأوربي خصوصا في الواجهة الجنوبية للمتوسطي و في ملفات عديدة كالهجرة و الصيد البحري و غيرها.