في الوقت الذي تنتهي فيه الامتحانات الإشهادية ؛ وخاصة مهزلة البكالوريا، وتنعم فيه بعض أطر الوزارة بالراحة ويحصل مدراء الأكاديميات والنواب الإقليميون ورؤساء مراكز الامتحانات والملاحظون على تعويضاتهم رغم تفاوتاتها . تبدأ محنة الأساتذة الذين كانوا مكلفين بعقاب الحراسة ؛ محنتهم جراء مواجهة جحافل الغشاشين الذين يكيلون لهم صنوف التهديد والوعيد والسب والتعنيف _ لمن خارت قواه بفعل سنون المنظومة العجاف، أما من أتاه الله بسطة في الجسم فليدافع عما تبقى من كرامة تكالبت عليها سياسات الدولة والمجتمع- أينما يمموا وجوههم ؛ حتى باتوا مهددين في حياتهم وممتلكاتهم ، في غياب أي حماية أو سند لأنهم هم من كان في مواجهة مباشرة مع جيل مفتقد للقيم يتمثلهم أعداء له ؛ جيل لا يجيد سوى ثقافة الاستجداء حينا والعنف بمختلف صنوفه أحيانا كثيرة ؛ جيل لا يعرف للتحصيل والمثابرة سبيلا إلا من رحم ربك؛ جيل صار الغش في تمثله حقا مكتسبا لأنه ترعرع به وشب عليه منذ البداية ، بل يبرر ذلك محيطه الخاص والعام والأنساق الثقافية السائدة حتى صارت الأسرة ، بعدما كانت مؤسسة للإصلاح وغرس القيم النبيلة ، أداة لتخريب المجتمع لما بتنا نشهده ونعيشه من دعم ومساعدة الآباء لأبنائهم في عملية الغش وظهور مكتبات خاصة لتصغير الدروس أمام مرأى السلطات ، وشبكات للتسريب . هكذا تنتقم الوزارة الوصية من أطرها (الأساتذة) عندما تفرض عليهم مراقبة الامتحانات الإشهادية في غياب أي تعويض وأية حماية ؛ مراقبة أشخاص لا يحملون من صفة التلميذ إلا يوتوبيا الاسم في معانيه الماضوية وذاكرته القديمة ، (تلاميذ) لا يجيدون إلا ثقافة العنف التي ينبغي ردعها وقمعها والحد من غلوائها عن طريق عسكرة الامتحانات ، وذلك بتضافر جهود الدولة ممثلة في وزارة التربية الوطنية ووزارة الداخلية وإسناد مهمة الحراسة للجيش أو القوات المساعدة وسن قوانين زجرية تضرب بقبضة من حديد على كل من سولت له نفسه مخالفة القوانين ، مادامت الميوعة قد وصلت لأقصى حدودها وتم فهم الحرية في غير معناها المقصود وانتشار القيم السلبية . كما على الوزارة الوصية على القطاع القطع مع دابر النظرة الكمية التي تتباها سنويا بالإعلان عن النسب المائوية للناجحين وترديد سياسة قولوا العام زين ، وتبني استراتيجية كيفية واضحة المعالم من شأنها أن تعيد لشويهدة البكالوريا قيمتها ولباقي الشواهد الأخرى ؛ وذلك أولا باجتراح قوانين صارمة على المترشحين الأحرار الذين تتزايد أعدادهم سنويا ويحققون نسب نجاح مرتفعة؛ وأغلبهم لم يتجاوز مستوى الثالثة إعدادي وانقطع عن الدراسة لسنوات طويلة لتغريه الميوعة الحالية باجتياز الامتحانات؛ عدته في ذلك وزاده حيل الغش والعنف وتهديد المراقبين الذين لا حول لهم ولا قوة ، مما من شأنه تعميق أزمة تدني المستوى وضرب مبدأ تكافؤ الفرص وتقويض البحث العلمي ومثالية التعليم الجامعي الذي صار أطره متذمرين من مستوى الطلبة الذين قفزوا من الإعدادي إلى العالي مباشرة . فمن هذه القوانين مثلا فتح باب الترشيح فقط لمن استكملوا التعليم الثانوي ولم يوفقوا في الحصول على الشهادة ، علاوة على فرض مبلغ معين على كل مترشح يعوض على الوزارة الاموال الطائلة التي تصرف في فترة الامتحانات.هذا إلى جانب تبني مقاربات واضحة المعالم وبعيدة عن المثالية للحد من تفاقم ظاهرة الغش التي نخرت جسم المنظومة والمجتمع وأوصلته إلى زمن الرداءة الذي نحن فيه ، وإرجاع الهيبة لمؤسسات الدولة العمومية ولأطرها ، ضمانا لترسيخ قيم نبيلة- بعيدا عن الشعارات الحالمة الجوفاء- من شأنها أن تعيد استواء جودي مجتمعنا قبل أن يغوص عميقا في ردهات الرداءة والانحطاط التي عشنا بوادرها في امتحانات هذه السنة وما شهدناه أعظم يضيق المقام عن حصره من مشاهد درامية ومأساوية لأساتذة يبكون داخل قاعات الامتحانات وأساتذة أشرفوا على التقاعد وأفنوا زهرة شبابهم في تكوين الأجيال ليجازوا بالسب والشتم من أشباه التلاميذ ، وآخرين لم يعوداو يقوون على الوقوف والحركة بفعل أمراض خطيرة ومع ذلك تزج بهم وزارتهم في هذا عقاب المراقبة . وفي مقابل هذه الدرامية السوداء ، تغص الامتحانات بمشاهد كوميدية أبطالها مرشحون مدججون بالأسلحة البيضاء يرددون نفس خطاب الاستجداء ، مرشحون يستعرضون عضلاتهم وخواء عقولهم ، مرشحون تحبل جيوبهم وجنباتهم بصنوف الوريقات والتلاخيص والهواتف الذكية ، مرشحون لا يعرفون للقيم والأخلاق سبيلا ؛ إلا استثناءات قليلة لمن يتبنون التحصيل والمثابرة طريقا للنجاح. كل هذه المظاهر والسلوكات قمينة بالإسراع للتدخل العاجل وتبني المقاربة الأمنية قبل أن تنفلت الأمور من زمامها.