بينما ينفتح سفر التكوين على مظاهر الخليقة من أرض وسماء و شجر وماء، وما إلى ذلك، يبدأ تنزل القرآن بإقرأ، وبالتعليم بالقلم، وما يسطرون، وعندما يستمر "الكتاب المقدس" في تعداد أنواع الكائنات من وحوش و طيور، وأسماك وبهائم، يغوص القرآن في النفس البشرية التي تطغى كلما امتلكت القوة، وارتفعت فوق القانون، وعلت على المحاسبة والمساءلة. لقد سمى القرآن المرحلة السابقة للإسلام بالجاهلية، ولم يشفع لهم شعر عذب، ولا أدب فذ، في أن يصفهم بوصف الجهل، لأن ذلك الانتاج الأدبي كان خاليا من كل فكر عميق، أو إبداع خلاق، ولم يكن إلا كلاما منمقا عن الصحارى وكائناتها، وعن مدح فلان وهجاء علان؛ لقد كان جل حديثهم عن عالمي الأشياء والأشخاص، ولم يستطيعوا أبدا اقتحام أبواب عالم الأفكار الموصدة. وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارًا، بل ينصب أصنامًا، وهذا هو شأن الجاهلية، فلم يكن من باب الصدفة المحضة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة، ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أيضا. حتى فكرة الإله لم يستطيعوا استيعابها، إلا بعد أن جسدوها في أشكال أصنام، يرونها ويلمسونها بأيديهم؛ فبنو إسرائيل مع موسى رغم ما رأوا من المعجزات الباهرات، ورغم أنهم أبصروا غرق فرعون أمام أعينهم، وتمكنهم هم من النجاة، لكنهم لما وجدوا قوما يعكفون على أصنام لهم، قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!! إنها لعنة الجهل، التي تصنع الأصنام، وتخلق الآلهة، إنها الرغبة في حياة الذلة والمهانة، والتلذذ بذلك، هذه النفسية من المستحيل أن تغير وقعا، أو أن تصلح فسادا، ولذلك كان الحكم الإلهي على بني إسرائيل أن يعيشوا في التيه، أربعين سنة، لينشأ بعد ذلك جيل جديد، بعيدا عن المجتمع الفرعوني صانع الأصنام. ولهذا كانت رسالة الاسلام مزلزلة لنظام الجبت والطاغوت، فكانت الدعوة إلى "إقرأ"، وكان الأمر "لاتطعه"؛ إنها الوصفة الشافية من الجهل ومن الاستبداد؛ الجهل يعالج بالقراءة، والتعلم بالقلم، والاستبداد يعالج بالعصيان المدني، والتمرد السلمي. ويندهش المرء حينما يجد القرآن يعاتب الرسول، ويخاطبه بأسلوب فيه الكثير من الصراحة الجارحة أحيانا، لكن الحقيقة المرة خير من الوهم المريح كما يقال، فقد يتوهم الحاكم مصلحة في أمرا ما، لكن الحقيقة تكون بخلاف ذلك، ولهذا كانت الشورى فريضة مؤكدة، لا ينبغي التخلي عنها مهما كانت الظروف. ولعل السر في ما حدث ويحدث في عالمنا العربي، أن شبابا تعلم مناهج دراسية بطريقة جديدة، فتحت أعينهم على حقائق كان آباؤهم يمرون عليها صما وعميا وبكما، و تربوا في فضاءات اتسمت بالانفتاح والحرية، بعيدا عن الرقابة الصارمة للأنظمة، المصدر الوحيد للمعلومة، فكونوا شخصيات مستقلة، ونفسيات سليمة. ونحن اليوم عندما نرى تساقط أوراق الخريف الواحدة تلو الأخرى، ونرى بالمقابل الأرض قد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن كل زوج كريم، لا يسعنا إلا أن نردد مع البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالامس نوما يفتقها برد الندى فكأنه يبث حديثا كان قبل مكتما فمن شجر رد الربيع لباسه عليه كما نشرت وشيا منمنما أحل فأبدى للعيون بشاشة وكان قذى للعين إذ كان محرما ورق نسيم الريح حتى حسبته يجيء بأنفاس الأحبة نعما