يقول الفيلسوف محمد إقبال في شعره الفلسفي المعبر عن الصنم (مناة): تلون في كل حال مناة .. شاب بنو الدهر وهي فتاة!! أي أنها تتلون في كل عصر بما يناسبه وتحافظ على شبابها ونضارتها دوما، فهي مرض إنساني مستفحل يتطلب الكشفُ عنه والتملصُ من قبضته جهدا ووعيا متميزا. والصورة الفاقعة الواضحة هي في تقديم القرابين البشرية لاسترضاء الطبيعة وإطفاء غضبها، أو استدرار رحمتها، أو مناشدتها الجود بالخير والماء، أو التوسل إليها أن تعود إلى سيرتها الأولى، من قمر خسف، أو شمس كسفت، أو ريح ولت، أو مطر انقطع. كان القربان يحل الإشكالية العقلية عند الإنسان، الذي يعجز عن فهم الوجود وسننه للتعامل معه. وكل ذلك يتم تدشينه بواسطة المفسرين الكهنة، فعقلية القربان البشري كما نرى أسطورية خرافية، والقربان يضحى عند مذبح الصنم، وهناك علاقة بين الصنم والقربان، وجاء الإسلام فألغى الاثنين: ألغى الصنم، ومعه القربان المرتبط به، وربط الإنسان بمصدر الوجود، الله رب العالمين، فاطر السماوات والأرض، فالق الحب والنوى فأنى تؤفكون؟ الكاهن يفسر، والصنم يحمل الرمز، والقربان آلية استرضاء القوى الكبيرة، ولكن عبر التاريخ لا يبقى الكاهن بنفس الثوب، ولا يبقى الصنم من تمر أو حجر، وتبقى التضحية بالإنسان لأصنام لا نهاية لها من الأشكال. وعملية التوحيد التي أطلق الأنبياء صيحتها عبر التاريخ في المجتمعات هي إلغاء وظيفة الكاهن، وتكسير الأصنام، وما يقف خلفها من مزايا ومصالح وشريحة مستفيدة بضربة واحدة، وإيقاف عملية التضحية بالإنسان، وإطلاق القوى التوحيدية التحررية في الإنسان والمجتمع. لذلك لم تكن مهمة الأنبياء مريحة بشكل من الأشكال، فلم تكن مهمة عقلية باردة، ولا نشاطا أكاديميا، بل كانت همّ رسالة، ومعاناة قلب مفاهيم جيل بكامله، والاشتباك في الصراع مع طبقات شرسة مسلحة بالجبروت والطغيان والوسائل والمال والنفوذ والثروة وكل إشكاليات الإكراه والقوة في المجتمع. وفي رأسها الثنائي: الجبت والطاغوت. الجبت الذي يغتال العقل بالوهم، والطاغوت الذي يصادر الحرية بالقوة. إن الصنم القديم أصبح ساذجا بسيطا، ولكن هتلر، مثلا، بنفخ روح القومية والتعصب الوطني، قام بلعبة خطيرة في تركيبة (الصنم الكاهن)، فلم يعد الصنم من حجر أو تمر أو خشب، بل تحول إلى كائن ذي حجم خرافي، على صورة هلامية فراغية غير مرئية، طوّق الناس جميعا بظل مرعب. ففكرة الصنم القديمة تم تجاوزها، وبدل التركيز على كائن من حجر، تم إسقاط الفكرة التي تكمن خلف الصنمية وتنطوي على معنى جديد مثير يستحوذ على المشاعر ويشكل بؤرة جاذبية، فتحول الصنم الحجري إلى صنم غير ذي حجر، لكنه أقسى وأعظم من الحجر بما لا يقارن، يقدسه الناس آناء الليل وأطراف النهار بنفس حماس الصنم القديم وأشد حبا. وأصبحت بذلك التضحية بالقرابين البشرية شيئا لا يكاد يصدق، فمات الناس من أجله بالملايين، وجرت الدماء كالأنهار على مذبح صنم جديد كبير بغير حدود! وفي أحد المسالخ البشرية في الحرب العراقية الإيرانية، تم تقديم خمسة وستين ألف قربان بشري في معركة كربلاء خمسة. ويبقى السؤال الملح: كيف يتحول البشر من كائنات ذات إرادة مستقلة إلى كائنات فقدت ميزة التميز الإنساني، فعبدت الصنم ؟ الإعلان الإبراهيمي عندما يتحول الإنسان إلى آلة، لا يبقى فرق بين الإنسان والشيء والآلة. ولكن لماذا؟ إنها الإرادة! فعندما يُستخدم الإنسان ويسخر كالآلة، فيتحول إلى عصا أو بوق أو بندقية، ويستجيب للأوامر، فإنه يتخلى عن إنسانيته ويتحول إلى آلة! العصا إذا ضربنا بها ليست عندها القدرة أو الإرادة لأنْ ترفض التنفيذ أو تعصي الأوامر، ليس أمامها إلا أن تنزل بالضرب! والبندقية تقذف باللهب كما تضغط الإصبع على الزناد، والبوق يردد الصوت تماما كما حشي وحقن تماما وبالحرف الواحد، مرددا إياه بشكل أبله. ولكن الإنسان عندما يمتلك الإرادة فيقرر ماذا يفعل تجاه ما يُؤمر به، يتحول إلى الشريحة الإنسانية أو ما سماه القرآن عبودية الله، فينفذ أو يتوقف، بل ويعترض فيقاوم، وهو ما حررته الآية القرآنية (كلا لا تطعه)، وبنيت الشهادة على جزأين: يقوم الأول على إنكار كل ألوهية (لا إله) لتقرر لاحقا ألوهية واحدة في السماوات والأرض (إلا الله). فهي تبدأ كما نرى بالتمرد والرفض، قبل الإعلان والإقرار، أو لنقل هي شقان: رفض وإقرار. وهذه هي ميزة الإرادة الإنسانية: التحرك في الاتجاهين. من هذا الشرح، نعلم عمق الحرية التي كان بلال يتمتع بها وهو العبد في العرف الاجتماعي آنذاك. عندما يتم إحياء الذكرى الإبراهيمية السنوية، في التقدم بالقربان الحيواني، يقترن في نفس الوقت بالتوقف عن التضحية بالإنسان لأي صنم، على أي مذبح، تحت أي شعار أو دعوى أو مبرر، فالإنسان أغلى شيء في الوجود وأثمن ما يمتلكه المجتمع. ولكن عملية اكتشاف الكاهن والعثور على الصنم تبقى عملية صعبة للغاية، وهي مهمة المثقف، لتحرير العقل من كل صنم والتملص من قبضة أي كاهن، والاستسلام لله رب العالمين، بحيث نحول المجتمع الإسلامي في النهاية إلى مكان يهرع إليه البشر من كل بقعة في الأرض، كون المجتمع الإسلامي المكان الوحيد المسموح فيه بممارسة كل الأفكار والتقاء كل الثقافات، فهو حوض اجتماعي تعددي من طراز فريد، مسموح فيه لكل الأفكار والثقافات بالتعايش والتعبير، فالإسلام لا خوف عليه، لأنه دين إنساني عالمي مفتوح، وليس دينا عنصريا قوميا مغلقا. وحتى تتبلور هذه الفكرة نحتاج إلى عمل فكري مكثف، فنحن أسرى مفاهيم اجتماعية تاريخية، لا إفراز ثقافة متفوقة، تراكمت عليها طبقات فكرية آركيولوجية عبر القرون، وما ينتظر الجنس البشري شيء هائل، وأقول لقرائي كل عام وأنتم بخير ... الحج ودرس اللاعنف يودع المسلمون عيد الأضحى وينصرف البشر المجتمعون في هذه التظاهرة السنوية إلى أقطارهم، مشحونين بمزيج من مشاعر الشحن الروحي والتعبئة السلامية والتدريب على محاربة الشر. كانت التضحية بالحيوان ترميزا إلى إحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي قبل أربعة آلاف سنة عن التوقف عن تقديم القرابين البشرية وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف. لذا كان الحج، في ترميزه المكثف، تدريبا سنويا لشحن الإنسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فتحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البيولوجيا فلا ينتف الشعر أو تقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لا تقبل الإلغاء أو التأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم. وعندما دشن إبراهيم، عليه السلام، هذه التجربة وصمدت خلال آلاف السنين كان يريد تعميم هذه التجربة على ظهر الأرض، في كل الأوقات، لتتحول هذه الأرض كلها إلى أرض حرام يحرم فيها سفك الدم وتقديم القرابين البشرية، وتتحول الأشهر كلها إلى أشهر حرم. الحج، إذن، احتشاد تظاهرة (الإنسان) لإيقاف تقديم القرابين البشرية، وتدشين السلام العالمي من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة التي يتم فيها التدريب سنويا على استخدام هذه (الأداة) السلمية لحل المشاكل بين بني البشر. وعندما يرجع (الإنسان) من مركز الشحن والتعبئة الروحية والقيام بتدريب سنوي مكرر للجنس البشري على المحافظة على بقعة في العالم تتمتع بالحرمة المكانية الزمانية، من أجل تعميم ونشر ومد هذه التجربة الناجحة في العالم، يمكن نقل هذا الأسلوب الإنساني ورفع مستوى الخلاف وطريقة حله إلى مستوى إنساني، بتبني الأسلوب السلمي. وقد يتساءل أحدنا ومتى كانت الطريقة السلمية بديلا عن توازن الرعب المتبادل، فدورات النزاع وجولات الحرب في التاريخ، بقيت بعيدة عن الاستفادة من درس الحج، في ممارسة اللاعنف وتدشين السلام. والجواب عن هذا أن هذا الأسلوب الإبراهيمي القديم سيبقى مصدرا للطاقة الروحية، لأنه أداة إنسانية في أسلوب حل المشاكل. ويمكن الاستفادة من هذه (الأداة) في كل حقول الصراع الإنساني، ونتائج مباركة لا تقارن بأسلوب التدمير المتبادل. العنف المتبادل في الصراع الإنساني لا يحل المشاكل بل يزيدها تعقيدا، فهو ينطلق من مغذى من مشاعر الكراهية والحقد والخوف من الآخر، فيولد مثيله، فهذه هي آلية عمل المشاعر، فالحقد يولد الحقد، والكراهية تغذي مثيلها، والدم يفجر الدم، في دائرة صراع تمسك حلقاتها ببعضها البعض، وتغذي أطرافها نفس المشاعر، في ساحة لا تسمح إلا بوجود طرف واحد. وفي صورة وأسلوب المقاومة السلمية أو درس اللاعنف من الحج يفضي إلى التوازن وحل المشاكل، لأنها لا تعتمد آلية الكراهية التي ترتد على نفسها بل الحب والتسامح مع الطرف الآخر، وهي صورة مشاركة، فهي استراتيجية تعتمد ترك الهامش أو الباب مفتوحا في ظهر الآخر، ليس كسر وثني ذراع الآخر بل التقاء الإرادتين في النهاية. ولكن، لماذا تعجز آلة العنف عن حل مشاكل النزاع الإنساني وتنجح آلية اللاعنف بشكل مدهش؟ إن هذا يدفعنا إلى تفهم الآلية السيكولوجية. آلية العنف تعتمد كسر إرادة الخصم، وآلية اللاعنف والمقاومة السلمية تعتمد ليس إلغاء إرادة الآخر، بل اجتماع الإرادتين وتعاونهما. آلية العنف تعتمد مسح الآخر وتهميشه، بل وتحطيمه والسيطرة عليه وإلغاءه الكامل، في وهج مشاعر الغضب والحقد والكراهية والانتقام، في ساحة التدمير والدم والقتل والإيذاء المتبادل والحرب والنار واللهب والدموع وميادين الحروب بما فيها الأهلية، وآلية المقاومة السلمية تحافظ على الآخر وكل ما تريده هو إيقاظ ضميره. وأذن في الناس بالحج يأتوك.. لاحظوا أن كل الآيات القرآنية نادت بحضور ليس المسلمين فقط بل إن المكان هو للناس جميعا، ونحن نحرم الناس من هذا الحضور الكوني المدهش فنقتل هدف الحج مرتين بجعله شبه قومي وطقوسي، فيذهب الناس ويرجعون ليسموا حجاجا ولكن بدون فهم ما معنى الحج؟ كنت في الصفا والمروة أسعى ركضا بين الخطين الأخضرين، فهجم علي أصولي وقال المرأة ممنوع أن تركض؟ لماذا يا عزيزي؟ وأترك الإجابة للقارئ.. تابعت الركض أنا وزوجتي المغربية، وقلت أليس من ركض كانت المرأة هاجر وهي تبحث عن الماء لابنها إسماعيل، فأنا وزوجتي راكضان، أما أنت فاحتفظ بحريمك السلطاني لنفسك؟