حين وجدت نفسي وجها لوجه أمام ديوان " قرابين " لمحمد بودويك ، الشاعر الذي يتكلم قليلا، و يكتب كذلك. انتبهت إلى أن عشر قصائد، هي حصيلة إبداع الشاعر الأمي، والناقد المتمكن ، من 1996 إلى حدود 2004م . فذهب خيالي قسرا إلى أفواه لا تكف عن الكلام ، وأقلام تكتب كثيرا ، ولا تبدع شيئا. تكتب القصائد ، كما تقلي القرويات الإسفنج الشتوي. لا يمر يوم وليلة ، إلا وقصيدة أو أكثر ، منشورة لهم فوق كل الروابي الشعرية ، وفي كل النوادي والمواقع. حينها فقط ، عرفت لماذا تخلص ماركيز من مكتبته ، وتفرغ " لسيرفانتيس " والويسكي. أما الشاعر محمد بودويك ، ترمومتر القصيدة الحديثة في المغرب ، فيكتفي بكتابة عشر قصائد في ثمان سنوات. هو وحده ، من يضعك أمام جبروت النص وغموضه ، أو حتى كبرياءه. يتضمن ديوان ( قرابين) عشر قصائد ، هي على التوالي : 1- قرابين 2- سيجت الخرافة...والجلاد 3- صرنا دما فردا 4- دماء أعمق من الظلال 5- إلى التوابيت المائية 6- وما تلك بيمينك...؟ 7- ثلج المرارات 8- طائر الألمنيوم 9- الغجريات 10- قمر أبريل في القصيدة الأولى (قرابين) ، التي عنون بها الديوان ، حاول بودويك أن يتقمص لغة القصاصين ، لكن لغته الأميرية ، فضحته بكل جرأة الشعر و ببراءة القصيدة ، أن الذي بين أيديكم ديوانا ، فلا تستأنسوا لغير الشعر، وتقول لنا بلغة عربية فصيحة ، تعالوا لتشهدوا هذا المسالم بطبعه ، كيف يصبح جريئا و قاسيا في البوح بالحقائق ، مهما كانت مرارتها مؤذية للأذن ، فاضحا بلغة القطران ، سماسرة وأميين وجهلة ، وجدناهم في غفلة منا ، يتحكمون في رقابنا وينهبون خيراتنا : (فاحت جيوبهم بالقطران وماء الموتى ، المتبقي في المواعين بعد الغسل...أقصد جيوب أنوفهم المحمرة كإست قرود البابوان)- ص: (8). لينتقل بنا بعدها ، و بلغة الفضح والتهكم دائما من مصاصي الدماء ، إلى لغة الترف الشاعري والكلام الأميري. ومن جرح لآخر ، يقدم قربانا لجنود (السلام )، شهيدة من طينة أخرى هذه المرة ، مناضلة فلسطينية (ذات العشر سنوات) من أجل سلام بريء ، لا دخل فيه للسياسة. سلام يفهمه الضعفاء ، ويتجاهله المعتدي كما دائما. هي لحظة عابرة مرت على الشاشة ، لكن عين الشاعر لا تنام ، اقتنصتها كاميرا قصيدته ، فكانت رائعته الثانية ( سيجت الخرافة...والجلاد). وأنا أمر عبر مساحات الألم في هذه القصيدة ، حرت بأي نجماتها أهتدي ؟. كل القصيدة استشهاد وشهادة ، على أن بوديوك ليس ناقدا متمكنا فحسب ، بل وأيضا شاعرا متمرسا ، يحمر قلمه غضبا ، فيكتب شعرا جهنميا كالجمر الحارق ، يصعب أن تقرأه وأنت مرتاحا . يجبرك أن تحرك حواسك دفعة واحدة ، وتنتبه للآخر. هل هو إعجاب شخصي بشاعرية الرجل؟. ربما ، لكن أترك للقارئ أن يجرب مع قصيدة يقول فيها : بعت زهراتك لتملأ الحاويات بنزينا زائدا وكلاما بعتهم عشراتك فسيجت الخرافة والجلاد... وهذي البلاد ندواة كل يوم...وميلاد... ص:(17) وبلغة أكثر حرقة ، وتصوير شاعري أكثر دقة وتعبيرا ، وأكثر استهزاء ممن يتسلون بمتابعة الأخبار ، دون أن يتأثروا للمشهد يقول: قومي... رشينا بالنجوم أو سمينا بالقار...إنا جرب والعبي الحجلة جاء دورك ما جداء دورنا نحن؟ ص: (22) هكذا تجلد الشهيدة (ذات العشر) جلادها ، وهي في قبرها ، وتطيح بخرافة عششت في جمجمة أكثر من زعيم و حكيم ، وتسيجها بأسلاك شائكة ، لتبقيها حبيسة حقيقة لا ينازعها فيها أحد. فلسطين أرض الرسالات والأنبياء ، عربية تتكلم الفصحى ، ولن تنساها أبدا. في هذه القصيدة أيضا ، يعرف القارئ كيف يحيى الموت في الكائن رغم موته ، وكيف تعلو درجة الصمت في وجه الكآبة ، لتتحطم على أبواب القصيدة. تعانق جميل بين الدال والمدلول. يستمر الغياب الحاضر في الديوان مع نص: " صرنا دما فردا". لتكون قصيدته هذه المرة ، وعلى غير العادة ، مهداة ل( راشيل كوري) ، شهيدة أخرى ، لكنها أمريكية الجنسية هذه المرة ، أبت إلا أن تصد البلدوزر بصدرها العاري ونهديها البضين ، لتحول دونه وكوخا فلسطينيا ، فداسها جندي (السلام) من أجل (السلام) . ها هم أولاء يدكون عظامي أمامي فتخضر غزة المزة في ثقوب المزمار وتسيل كماء الرمان على زمني آه...يا وطني دعني أجمع ما تناثر من دمي البحر في فمي. ص: (31) هذا هو محمد بودويك في شعره ، وهاذي عينه (القزحية) ترى ما لا يراه العوام من الناس ، يتركك لوحدك أحيانا أمام البياض ، أو يلعب على علامات الترقيم (نقط - علامات الاستفهام - علامات التعجب ). ليخلق الإدهاش والإبهار، ويضعك أمام الغموض وكبرياء اللغة والقصيدة. لغته كما هنا حلاوة وطلاوة ، رغم مرارة المعنى. أما في قصيدته : " دماء أعمق من الظلال". فيتساءل بحكمة الفيلسوف : ............. آه فتح الباب منذ دهر ولم أتوقف عن الطرق. ص: (37) هو إصرار المحترق بأكثر من نار ، نار الشعر ونار الهزيمة ، هو إصرار الشاعر على طرق كل الأبواب. لعل الإلحاح على عدم التوقف عن الطرق ، فيه أكثر من دلالة ، قد يطول بنا التأويل والبحث عن سبب هذا الإلحاح أمام أبواب مفتوحة ولا أحد في الاستقبال ، هو غياب من نوع آخر ، هو غياب غير مبرر ، لكنه جارح ومؤلم ، هو الفراغ بكل تجلياته. أما في قصيدة : " وما تلك بيمينك " فيعلن صراحة عن هويته ، ويشهر راياته ، وفصيلة دمه. - دمي رايتي......... رايتي عادتي -....... - لي زمني....رايتي محجتي .ص (47) ويستمر في تقديم ( قرابين)ه ، لتكون هذه المرة من نصيب البحر. فتخرج التوابيت بلا كفن ، بعد أن عفها البحر، هذا الذي يأكل لحمنا ودمنا ، شبابنا ومستقبلنا كل يوم . مأساة لم يستطع الشاعر أن يتعامل معها بأكثر من حسه الإنساني . لم يتخذ قرارا سياسيا ، لكنه انزوى لألمه وأخذ قلما ، ليصيح بأعلى صوته ، كفى. تاركا لمن يهمه الأمر ، تدخين غليونه في السماء السابعة . ليس البحر رحم كنغر ليت البحر ينخس أرداف الصور ليس نشيدا معبأ في الحناجر الجائعة بينما السمان يغوصون في غليون السماء السابعة.... ص: (46) قصيدة ( ثلج المرارات) ، مهداة إلى أمه ، في طلب يثير كثيرا من الفضول : ( أيها القبر، لتبق موصدا لئلا أخجل) ص: (49). وممن ؟. تلك حكاية تستحق أكثر من وقفة ، وطرح أكثر من سؤال ، بحكم أننا هنا لا نعرف سر الشاعر، فقط نقف معه حيارى أمام دهشة السؤال. كثيرون يخجلون من دمع أمهاتهم ، وآخرون من رؤية أشباههم في المنام أو المرايا ، أما بودويك ، فيربك القارئ من كل هذا التوجس والخجل؟. هل تكون لغة الشاعر حافظة لأسراره ، كما هنا ؟. ويستمر في معانقة الألم والأمل ، فيما تبقى من قصائد الديوان ، بالتلميح والتلويح والإشارة حينا ، أو بالصريح الواضح المر أحيانا أخرى. شباب يفر من واقعه لمعانقة الموج أو الموت، ينتحرون فرادى وجماعات كالحيتان في ظاهرة غريبة ، يقابله عطش المتضاربين والمرتشين لملء جيوبهم. فضح لإجماع دولي فاسد ، واغتصاب جماعي لما تبقى من حس إنساني : لن أغلق الأبواب بيتنا عورة ودربنا مملح كقديد منشور على سطح الجامع الأثري. ص(64). وعلى إيقاع تساؤلي ، يختتم بوديويك ديوانه الصغير حجما ، الكبير عمقا ومعنى وثراء لغويا ، بقصيدة : (قمر أبريل) حيث جاء فيها : لماذا ينكسر غصن الصنوبرة في الأرجوحة ولماذا يبللني كل حين ماء الندامة ؟ لست أدري لست أدري ص: (72) لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ، هو لماذا قمر أبريل بالذات ، وليس قمر شهر آخر ؟ هل لأن أبريل هنا له علاقة ما بأكذوبته الشهيرة ؟. فيصبح بالتالي ، قمرا كاذبا لا نور فيه ولا أمل ؟. هل سيكون قمرا (غيوانيا) يطلع في النهار ليخدع الناس فقط ، ويوهمهم بضوء في عز الظلمة ؟ هي أسئلة نطرحها ، ونتساءل مع الشاعر ، لكن لا يسعنا إلا أن نردد معه نفس الجواب ( لا أدري) لنبقى في الأخير حيارى عاجزين أما (صدق أبريل) أحيانا وكذبهم. الديوان تنوع في الصور الشعرية الجميلة ، وغنى شعري ناضج ، عبر قصائده العشر. ابتدأها الشاعر متنكرا في زي قاص ، ثم فيلسوف ، قبل أن يعلن جهارا أن الشعر بداية الطريق ، وآخر المسعى. كما أن الكتل الشعرية المشتعلة في مجمل النصوص ، برموزها الغامضة والواضحة ، تعبر إلى حد كبير عن الماكينة الإبداعية الهائلة التي يمتلكها الشاعر محمد بودويك. وكذا عن إصراره على عدم مهادنة الصمت ، والصراخ في وجه الطغيان والظلم ، بلغة موغلة في سلخ الذات أحيانا. لكن مع ذلك ، يمكننا أن نتساءل : لمن يكتب هذا المتواضع في إنسانيته ، الكبير في شعره؟. هل هو فئوي إلى هذا الحد ؟. هل يقصد فئات بعينها ، ممسكا بقلمه ومتأبطا قصيدته في نسختها الأولى ؟. لماذا كل هذا القاموس المثقل بمفردات تزن أطنانا من الغموض والإبهام ؟.هل لا بد للشاعر أن يكون غامضا ليكون كبيرا؟. أسئلة وغيرها تراودك وأنت على تخوم أولى قصائد محمد بودويك. ومع ذلك تتساءل أكثر : كيف يمر إلى شرايينك الشعرية دون حواجز؟. هل هو جمر المعاني الجريحة ولهيب المعنى ؟ أم برودة الشعر تتسلل خلسة إلى الأوعية الشعرية لتريحها من وطأة القصيدة ؟. الديوان في مجمله إعادة لمجد القصيدة ونبش في الذاكرة الإنسانية الموجعة ، التي غالبا ما يتحاشاها الكثيرون من الشعراء. محمد بودويك شكل لعقود مسيرة شعرية موفقة ، بصبر وثبات وقليل من الكبرياء وكثير من الاشتغال الشعري ، دون المساس بجمالية القصيدة معنى ومبنى. يكفي الشاعر السبعيني الرائع ، أن يكرس واقعا شعريا مغربيا جميلا ، بعيدا عن التمظهرات الثقافية المغشوشة. تجربته في ( قرابين) تجاوزت ما هو ذاتي إلى ما هو إنساني - كوني ، وتخطت المألوف في الشعر ، لتحجز لنفسها مكانة في ديوان العرب عموما والشعر المغربي بشكل خاص. بقى أن نشير إلى أن ديوان (قرابين) من منشورات اتحاد كتاب المغرب ، بدعم من المكتب الإعلامي الكويتي بالرباط. أما لوحة الغلاف فهي ل(هاري فان غيستل).