أجريت قبل حوالي عشر سنوات استفتاء في برنامجي. يسأل الاستفتاء الأخوة المشاهدين والمشاهدات:” هل ستدافع عن وطنك فيما لو تعرض لتدخل خارجي بحجة التخلص من نظام الحكم الظالم في بلدك؟” وقد كانت النتيجة متوقعة، خاصة في ظل أجواء التحضير الغربي لغزو العراق وقتها. أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من المصوتين عبروا عن استعدادهم التام لصد التدخل الخارجي والدفاع عن أوطانهم حتى لو كان الهدف المعلن من ورائه تخليص الشعوب من الطواغيت الجاثمين على صدورهم. عندما أقارن تلك الأجواء قبل حوالي عقد من الزمان بالأجواء السائدة الآن في العالم العربي أشعر بقشعريرة رهيبة، لا بل بكثير من الحزن والأسى على هذا التحول الخطير في مواقف الشعوب العربية من التدخل الخارجي. لكن منبع حزني ليس انقلاب الشعوب على مواقفها القديمة بقدر ما هو امتعاض شديد من أولئك الذين دفعوا الشعوب إلى التفكير بالمحظور حتى لو كان تدخلاً عسكرياً في بلدهم. لقد كان السواد الأعظم من الناس في الماضي يعتبرون كل من يحاول الاستعانة بالخارج خائناً وجب رجمه وحتى نفيه خارج الأوطان، إن لم نقل قتله. يا الله كم كانت جرعة الحمية عالية في نفوس الكثير من العرب وقتها!! بدليل تلك المظاهرات الحاشدة التي خرجت في أكثر من بلد عربي ضد التدخل الغربي في العراق. لكن على ما يبدو أن طواغيتنا الساقطين والمتساقطين أبوا إلا أن يجعلوا الشعوب تكفر بوطنيتها وحتى بأوطانها، وتمد يدها حتى للشياطين كي تساعدها في التخلص من رجس جلاديها وفاشيتهم وهمجيتهم غير المسبوقة. لنقارن الجو السائد الآن بالجو الذي ساد قبل حوالي عقد من الزمن فسنرى أن الكثير من الشعوب بات يتوسل للخارج أن يتدخل كي يحميه، وينقذه من براثن الطغاة وجيوشهم وبلطجيتهم وقتلتهم المأجورين وأجهزة قمعهم الرهيبة. لقد عرفت الكثير من الدعاة والنشطاء السياسيين والإعلاميين الذين كانوا يعتبرون مجرد التفكير بالاستعانة بالأجنبي خطيئة لا تغتفر، إلا أنهم اليوم يتصدرون الصفوف المطالبة بتدخل دولي أو على الأقل حماية دولية لهذه الانتفاضة العربية أو تلك. لا بل بتنا نشاهد مظاهرات عربية حاشدة ليس ضد التدخل الأجنبي، بل للمطالبة به. وكم شاهدنا لافتات مكتوبة بالخط العريض يحملها المتظاهرون وهي تندد بالمجتمع الدولي لأنه يتخاذل في نصرتهم سياسياً وحتى عسكرياً. في الماضي القريب كانت كل اللافتات العربية المرفوعة تندد بالتدخل الدولي، وتحذر من مغبته وتبعاته. أما الآن، فهي تندد بكل من لا يتدخل، وبكل من يحذر من التدخل. وقد لاحظنا أن بعض الثورات العربية خصصت أياماً كاملة من مظاهراتها للدعوة للتدخل، أو لصب جم غضبها على الذين يتكاسلون في التدخل. هل شاهدتم مظاهرة عربية واحدة تندد بتدخل الناتو في ليبيا؟ لا. لم تعد المطالبة بالمساعدات العسكرية الخارجية، حتى بثمن، رجساً من عمل الشيطان فاجتنبوه، بل غدت مشروعة، لا بل مطلوبة تماماً، إن لم نقل فرض عين. قليلة جداً هي الأصوات التي تحذر، أو تسخر من المطالبين بالتدخل. وقليلة أيضاً هي وسائل الإعلام التي تستنكر الاستنجاد بالأجنبي للمساعدة في إزاحة هذا الطاغية أو ذاك. لقد غدت رغبات التائقين للتدخل عنواناً عريضاً على صفحات الجرائد العربية والمواقع الإلكترونية. والويل كل الويل لمن يبدي رأياً معارضاً للتدخل، فهو ملعون مطعون وخائن إلى يوم الدين. باختصار، لقد أصبح الوطني ذاك الذي يطالب، ويبارك الاستعانة بالأجنبي، والخائن هو الذي يعارض الاستعانة. آه كم شعرت بالصدمة عندما سمعت أناساً كانوا وطنيين إلى وقت قريب وهم يقولون:” الآن باستطاعتنا أن نتفهم دعوة أحمد الجلبي للأمريكيين كي يضربوا النظام الحاكم في العراق، ونعذره. والآن نستطيع أن نتفهم كنعان مكية وهو يقول: إن وقع أصوات الغارات الأمريكية على جيش صدام كانت أجمل من أنغام بيتهوفن على أذني”. كم تفاجأت عندما سمعت شاباً عربياً على إحدى الفضائيات وهو يتوعد جيش بلاده بطائرات أوباما “العظيمة” على حد وصفه! وضع رهيب للغاية فعلاً ومثير للبحث والدراسة والتمحيص. من الذي دفع الشعوب إلى التفكير بالاستنجاد حتى بالشياطين؟ لقد سمعت أناساً كثيرين، بمن فيهم كتاب وإعلاميون ونشطاء، يقولون إن الفرق قد زال في نظر ملايين العرب بين الطواغيت المحليين الجاثمين على صدور الشعوب تحت شعارات وطنجية واهية وأولئك الذين كنا نحاربهم إلى وقت قريب كأعداء ومحتلين وغزاة. لا بل إن أحدهم قالها بوضوح: “لم يعد هناك فرق بين الغازي الأمريكي والعدو الصهيوني من جهة والأعداء المحليين الممثلين بالطغاة العرب من جهة أخرى. لقد أثبتت الثورات العربية الأخيرة للكثير من الشعوب أن الغزاة والأعداء أرحم بهم بكثير ممن أسماه الشاعر اليمني الكبير البردوني يوماً “بالمستعمر الوطني”. وقد قالها أحد كبار الشيوخ قبل فترة:” لقد كان المستعمر الفرنسي أكثر رحمة بنا من طواغيتنا الآن، فعلى الأقل عندما كنا نحارب الفرنسيين، ونهرب إلى المساجد للاحتماء داخلها، كان الجنود الفرنسيون يحترمون قدسية المساجد والجوامع، وبالتالي يمتنعون عن دخولها أو قتلنا داخلها وتدنيسها. أما الآن فقد أصبح الهجوم على المساجد وتدميرها أسهل من شرب الماء بالنسبة للطواغيت العرب وعصاباتهم المجرمة”. ويصيح كاتب ليبي: ماذا كان سيفعل القذافي بمدينة بنغازي التي انفصلت عن نظامه لو لم يتدخل الخارج. ربما كانت الآن في غياهب اللاوجود. كيف تلوم الذين يطالبون بالتدخل الأجنبي في هذه الحالة، يتساءل ناشط سياسي عربي؟ ما الذي أجبرك على المر غير الأمر منه، يضيف آخر؟ يا الله لماذا أوصلوا شعوبنا إلى هذا الوضع؟ أليس حرياً بالأنظمة التي تعتبر المطالبين بتدخل خارجي خونة وعملاء بألا تلوم إلا نفسها أولاً ؟ أليس الطواغيت السفلة هم المسؤولون عن دفع الشعوب حتى إلى أحضان الشياطين؟ لم أكن أتصور يوماً أن الإنسان العربي سيبدأ بالنظر إلى أعدائه التقليدين كالصهاينة والأمريكيين نظرة طبيعية مقبولة. لقد لاحظت في الآونة الأخيرة أن كثيرين لم يعودوا يهتمون بالصراع مع الأعداء أبداً بعد أن أصبح جل اهتمامهم منصباً على مقارعة العدو الداخلي الذي قتلت جيوشه من الشعوب أكثر مما قتلت من الأعداء بعشرات المرات، مما جعل العدو الخارجي، رغم فظاعاته التاريخية، يبدو أكثر رحمة وإنسانية وقبولاً. حسبي الله ونعم الوكيل !