فتنة أخرى بدأت ملامحها تظهر على الأفق الجزائري وتطل من الحدود الليبية. حالة حرب كلامية انتشرت في الأوساط الإعلامية والسياسية الجزائرية تستهدف شعب ليبيا أو جزءا منه على الأقل بسبب ما يجري من أحداث في ذلك البلد. لا يكاد الجزائريون يستفيقون من حالة حتى يجدوا أنفسهم في مواجهة حالة أخرى، وكأنه كتب على هذا الشعب أن يعيش في حالة دائمة من الاستنفار والعداوة الدائمة مع الخارج، لعل أشدها وأطولها عمرا هي تلك الحاصلة مع المغاربة، فقد بدأت مشكلة حدودية ثم تطورت وصار محركها قضية البوليساريو والصحراء الغربية. وقد صار النظام الجزائري محترفا في إخراج هذا البعبع كلما أحس بوجود خطر داخلي يهدد حياته، خاصة أنه وجد استجابة وتعاونا معقولا من طرف أعوانه الإعلاميين والسياسيين. لعل الشباب الجزائري لا يذكر خلفيات ولا حقيقة الخلاف الوهمي بين بلاده وجيرانه على الجهة الغربية لكنه عايش بالتأكيد مختلف مراحل خلق وتطور ملف العدو الخارجي الجديد بمناسبة مباراة التأهل إلى كأس العالم بين الجزائر والمغرب وحرب داحس والغبراء التي تلتها، تلك الحرب التي أضافت عمرا جديدا للنظامين في البلدين الشقيقين عندما انشغل الشعبان الجزائري والمصري في حرب مخزية ومؤسفة لا أحد يجهل الجهات الحقيقية التي كانت تنفخ في كيرها. ورغم أن الجزائريين اهتزوا وطربوا لما شاهدوا قبل أسابيع شريط فيديو لشبان مصريين تجمعوا أمام مقر السفارة الجزائري في القاهرة يهتفون ويعتذرون للجزائريين عن كل ما حصل بمناسبة مبارتي القاهرة وأم درمان إلا أن الرسميين الجزائريين لا يزالون يرفضون أن تنتهي الحكاية بهذه السهولة والمحبة. فقد سئل وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي قبل أيام في حوار مع صحيفة الشروق المحلية عن هذه الأزمة بين الجزائر ومصر فجاء رده كالآتي (على المستوى الرسمي طويت الأزمة، لكن على المستوى الجماهيري ربما ما زالت بعض الحساسيات)، وكان الأجدر به أن يقول إنه لم تكن هناك أزمة أصلا على المستوى الرسمي لأن كل ما كان الرسميون هنا وهناك يفعلونه إنما كان لتأجيج الفرقة في الأوساط الشعبية وما نريده الآن هو أن تستمر هذه الحساسيات. وعندما حلت بشائر الثورات الشعبية العربية وكان الخطر يحوم حول حمى النظام الجزائري الذي رأى أن انتشار هذه العادة السيئة قد تحرقه ولا بد من وقف الزحف بأي ثمن، نزلت عليه الفتنة القائمة في ليبيا هدية من السماء. لا جدال في أن هم النظام الجزائري الأول والأخير هو أن لا يسقط نظام القذافي وأن لا تنتصر الانتفاضة الشعبية هناك لأن ذلك لو حصل سيكون معناه أن أجل حكام الجزائر سيدنو أكثر. لم أكن أتصور يوما أن جزءا من الشعب الجزائري مهما كان قليلا سيقف جاهرا بدعمه وتأييده لحاكم ليبيا الذي عاث في أرضه وشعبه فسادا وإذلالا، موقف مؤسف ومحزن حقا نجح النظام الجزائري في تكريسه. أي تفسير نقبله من شعب عرف معنى الظلم والهوان على مدى عقود وعقود أن يعلن دون استحياء أو خجل أنه يقف مع القذافي الذي فعل ويفعل في شعبه ما فعل فرعون في قومه أو أكثر، يُقتّل أبناءهم ويستحيي نساءهم؟ المبرر كان جاهزا طبعا، فالقذافي يتعرض لعدوان غربي حاقد بدعم من جماعة بنغازي كما صاروا يسمون رسميا في الجزائر. فلتحل اللعنة إذن على هذه الجماعة التي استقدمت المعتدي الأجنبي إلى أرض عربية. هكذا بقدرة ساحر تغيرت المعادلة من شعب انتفض سلميا وخرج يطالب بحقه في العيش الكريم أمام طاغية حبس أنفاسه ووأد طموحاته لأزيد من أربعين سنة إلى مجموعة مغامرين فتحوا بلادهم للتدخل الأجنبي. هل تريدون من الليبيين أن يبقوا مكتوفي الأيدي ويستسلموا للسفاح وابنه اللذين توعداهم بحرق الأرض من تحت أقدامهم، لا لشيء إلا لأنهم خرجوا إلى الشارع في انتفاضة سلمية؟ القذافي وزبانيته كانوا ينكرون منذ البداية أن تكون ليبيا تشهد أية مظاهرات أو احتجاجات، هكذا كانت تردد جماعة طرابلس منذ الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية قبل أن يتحول الكلام إلى وجود جماعة تابعة لتنظيم القاعدة اتخذت من أرض ليبيا موطنا جديدا. وما دمنا بصدد الحديث عن التدخل الأجنبي والاستعانة بالخارج ضد فريق في الداخل، ألا ترون أن القذافي وكل الأنظمة العربية الفاسدة قد سبقت إلى الاستعانة بالأجانب لمحاربة شعوبها؟ ماذا تسمون اتفاقيات التعاون الأمنية بين هذه الأنظمة والقوى الغربية وتنظيماتها الإقليمية العسكرية؟ أي وصف تطلقونه على تنقل الخبراء العسكريين الأجانب إلى البلاد العربية وكذا تنقل العسكريين العرب إلى الغرب لتلقي التدريبات العسكرية الحديثة؟ في أي خانة تصنفون المليارات التي يصرفها الحكام العرب في الغرب للحصول على الأسلحة والعتاد والتكنولوجيا العسكرية والاستخباراتية المتطورة؟ هل لوضعها في خزائن المتاحف أم لاستعمالها في الحرب الموعودة ضد العدو الصهيوني الأزلي أم لتطبيق كل ذلك ضد هذه الشعوب العربية المغلوبة على أمرها؟ هل الخبراء الذين يحيطون الآن بالقذافي ينصحونه ويضعون له الخطط العسكرية لتدمير بلده وشعبه أجانب أم ملائكة نزلوا من السماء؟ النظام الجزائري يرفض أي تدخل في الشأن الليبي الداخلي، أي أنه يعتبر ما يجري هناك شأنا داخليا وعلى الرأي العام العربي والعالمي أن يقف متفرجا إلى أن يباد كل الشعب الليبي أو جله ويستمر من بقي خانعا ذليلا كما كانوا كالنعاج بل أكثر، وعندها سنقول إن الشعب الليبي قد حسم خلافه ونحن مع الشرعية الشعبية. هذا ما قاله وزير الخارجية الجزائري في نفس الحوار الصحافي عندما شدد على أن (حل الأزمة في ليبيا يجب أن يكون بعيدا عن النوايا والزوايا الضيقة، التي سمحت إلى يومنا هذا للمجلس الانتقالي الليبي أن يلوث الأمور نوعا ما حتى يلوث الحقيقة)، لم أفهم تماما كلام الوزير وما يعنيه بالنوايا والزوايا الضيقة، لكني أعتقد أنه يقصد أن حسم الصراع في ليبيا يجب أن نتركه للقذافي وشعبه دون تدخل من أحد. ثم يضيف قائلا إن (رحيل القائد القذافي لا يجب أن يكون شرطا مسبقا، ولكن كاحتمال من بين الاحتمالات الأخرى إذا أراد الليبيون ذلك)، من تقصد بالليبيين يا معالي الوزير؟ هل هم أولئك المخنوقة أنفاسهم تحت قبضة القذافي الطاغية أم أولئك الذين انتفضوا وهم الآن يذوقون الويلات ويدفنون ذويهم بالآلاف؟ ثم كيف لنا أن نعرف ماذا يريد الليبيون الآن، هل عبر اجتماعات اللجان الشعبية مثلا أم من خلال انتخابات أو استفتاء لا يعترف بها الكتاب الأخضر؟ الشعب الليبي يباد في صمت وجيرانه يصرخون ضد أي تدخل إنساني لحمايتهم بل يقفون ضد ذلك بحزم ووقاحة. لو جاء ذلك من نظام آخر غير النظام الجزائري لما استغربنا، لكن أن تصدر هذه المواقف من نظام أقام الدنيا وأقعدها لسنوات طويلة ولا يزال وهو ينتقد العالم الذي تركه وحيدا يحارب التطرف والإرهاب فهذا ما يدعو للاستهجان. الليبيون الآن يعيشون وضعا مشابها لما كانت تعيشه جزائر التسعينات، حرب أهلية وإبادة جماعية، وهذا كاف للنظام الجزائري أن يثبت حسن نواياه ويتدخل لوضع حد لذلك ونصرة المظلوم. لو كنا مسلمين حقا لما تركنا الغرب يتدخل لنصرة إخوان لنا ويحشر أنفه في صراع نحن أولى بالتدخل لحله، وقد بين لنا الله في سورة الحجرات الطريقة الأمثل لذلك (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين). من هي الطائفة الباغية، هل هم جماعة بنغازي الذين خرجوا يطلبون حقهم في العيش الحر الكريم أم جماعة طرابلس التي تبيد الأهالي وكأنها تتعامل مع الشياطين؟ وإن لم تصدقوا فاسألوا موسى كوسا المارق من دائرة القذافي عن السبب الذي جعله يقرر التنصل من ولي نعمته، فقد حكى لي بعض العارفين أنه لم يتردد في الهرب إلا عندما سمع القذافي يأمر زبانيته بالتعامل بكل وحشية مع المنتفضين ضده من أبناء شعب ليبيا، قال لهم اقتلوا رجالهم بلا شفقة ولا رحمة وعيثوا فسادا في نسائهم، وقد حرص على أن يوفر لجنده ما يكفي من الأدوات الضرورية لتنفيذ هذه الجرائم، الإبادة والاغتصاب. القذافي كان في البداية يغازل الغرب وينتظر منهم أن ينصروه على قومه بالقول إن جماعة القاعدة غزوا ليبيا وسيحولون المنطقة إلى بؤرة توتر إقليمية أخرى على أبواب أوروبا، لكن لما لم يصدق أحد كذبته ورأى الحلف الأطلسي يزحف نحوه صاح أن استفيقوا أيها المسلمون وتعالوا لنصرة ليبيا المستهدفة من القوى الصليبية. هكذا هم الحكام الطغاة لا تهمهم إلا عروشهم وجيوبهم، يتحالفون مع الشيطان لمحاربة الإسلام حتى إذا انقلبت عليهم الحيلة تحولوا إلى زهاد عباد يستصرخون المسلمين لنصرتهم من الصليبيين الحاقدين. سيقول بعض الجزائريين أن مشكلتنا مع جماعة بنغازي هي في اتهامهم للجزائر بدعم القذافي بالمرتزقة، وقد سألت عددا من الليبيين العارفين عن سبب عزوفهم عن تقديم الأدلة على هذه الاتهامات فكان ردهم أن كل شيء موثق لديهم وأن الذي يمنعهم من عرض الأدلة الحسية هي التزامهم باتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحروب. الجماعة لم يتهموا الشعب الجزائري بل نظامه، وحتى إن رأى البعض في ذلك تطاولا وكلاما ينقض الوضوء فإن ذلك ليس مبررا لأن نبقى صامتين أو نقف إلى صف الظالم السفاح، علينا أن نجهر بكلمة الحق ضد الظالم ونعبر للمظلوم عن تضامننا معه وننتظر انتهاء الحرب لنحاسبه على اتهاماته، إن كان صادقا أم مفتريا.