أنهى مجلس الوزراء الفرنسي سنة من الجدل والتراشق السياسي بشأن ارتداء النقاب، بالمصادقة أمس، خلال اجتماع مجلس الوزراء، على مشروع قانون يحظره في الأماكن العامة، رغم تحفظات مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية في البلاد. والمشروع الذي سيناقشه البرلمان الفرنسي في يوليوز القادم، وإن كان لا ينص على حظر النقاب في كل الأماكن العامة بشكل صريح، فهو يتضمن ذلك عمليا مثل حظره في حافلات النقل والمترو والقطارات ووسائل النقل العمومي الأخرى، وأيضا أمام بوابات المدارس والمؤسسات التعليمية، فضلا عن منعه في جميع المؤسسات العمومية والخاصة. ويغرم مشروع القانون مرتديته ب150 أورو أو يجبرها على أن تتلقى تكوينا يسمى التكوين على قيم ومبادئ الجمهورية. كما يقضي بالحبس النافذ لمدة سنة وغرامة ب15 ألف أورو لكل شخص يجبر زوجته أو ابنته أو أخته على ارتداء النقاب. وفي سياق متصل، أفادت دراسة أنجزها قسم الأبحاث الاجتماعية، التابع لوزارة الداخلية، بأن معظم النساء اللواتي يتنقبن يقمن بذلك عن طيب خاطر وأن أعمارهن لا تتجاوز في الغالب الثلاثين سنة. ومن بين مرتديات النقاب 26 % من أصول فرنسية اعتنقن الإسلام عن حب واقتناع، والباقي من نشأة عربية أو إسلامية. وتقول الدراسة إن معظم مرتديات البرقع يعشن بالمدن الفرنسية الكبرى والضواحي الباريسية، وأن ندرة ارتدائه (أقل من سيدة من 900 ألف) لا تعطي للظاهرة أية قيمة أو دلالة اجتماعية في التراب الفرنسي، وأن لباسه غالبا ما يكون إما برغبة التميز، أو بدافع استفزاز المجتمع والأسرة كرد على الاحتقان الاجتماعي. وخلص قسم الأبحاث، بعد التحقيقات الواسعة التي أجراها بشأن مخاطر البرقع على علمانية الدولة، إلى أن الظاهرة جد مهمشة ولا تثير حتى الآن أية مخاوف طالما أن النقاب هو اليوم اسم شبه مجهول في النسيج الاجتماعي الفرنسي. ويكمن الهاجس الأساسي بالنسبة إلى الحكومة الفرنسية في كيفية تجسيد القانون على أرض الواقع، حيث ما زال مجلس الدولة يرفض حتى الآن حظر النقاب بشكل كامل في الأماكن العامة، وحيث الباب مفتوح أمام بعض المنقبات لرفع دعاوى ضد القانون إلى المجلس الأوربي لحقوق الإنسان الذي يعتبر النقاش حول هذه المسألة مساسا بالحريات والمعتقدات. وقد يدفع هذا الوضع الرئيس ساركوزي الذي اعتبر أن حكومته تسلك بقرار الحظر "طريقا صارما، لكنه عادل"، إلى اللجوء إلى تنظيم استفتاء شعبي لتجاوز العقبات التي قد تحول دون تطبيقه ميدانيا. ومن المتوقع أن يقدم الحزب الاشتراكي مشروع قانون بديلا يقضي بمنع النقاب فقط في الأماكن الحساسة كالمطارات والإدارات والبنوك. غير أن المنظمات والجمعيات الإسلامية الرافضة لمشروع الحكومة لا تثق على قلتها (ثلاث جمعيات من أصل 35 جمعية لها حضور في المشهد الإسلامي الفرنسي) بوعود المعارضة وعلى رأسها الحزب الاشتراكي، حيث إن الانطباع السائد في الأوساط الفرنسية بمختلف أطيافها هو أنه إلى جانب الفرنسيين الذين يرفضون النقاب بنسبة تفوق 67% في آخر استطلاعات الرأي، فإن جميع الأحزاب تتفق حول منعه وإن كان ذلك بطرق مختلفة.. ففي أول تصريح رسمي لموقف أكبر أحزاب المعارضة، أعلن الناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي أن "الحزب يعارض تماما البرقع الذي هو عبارة عن سجن للنساء والذي لا مكان له في الجمهورية، لكنه يرى أن حظره في جميع الأماكن لن تكون له النتائج المرجوة". وباستثناء بعض الجمعويين والمثقفين المحسوبين على التيارات اليسارية، الذين يعتبرون أن موضوع النقاب جاء ليشغل الناس عن حالات التمييز في سوقي العمل والإسكان، ويرون أن السبيل الملائم من أجل معالجة هذه الظاهرة هو التربية والإقناع والحوار، فإن الرأي الغالب في فرنسا هو أن النقاب لا يتعلق فحسب بإظهار المعتقدات الدينية بما يعارض علمانية الفضاء العمومي للدولة، ولكنه مهدد لكرامة المرأة وحقها في إظهار أنوثتها. وتعتبره كل الشخصيات السياسية النسائية (من دون استثناء) بمثابة "سرطان الإسلام المتشدد"، أو "السم القاتل للحريات" إلى جانب كونه، في رأيهن، مظهرا من مظاهر "استعباد المرأة" في بلد لا يمكن أن يقبل على ترابه بنساء "أسيرات يعشن خلف القضبان". وفي الجانب الإسلامي، انتقد دليل بوبكر، إمام مسجد باريس الكبير، ارتداء البرقع بقوله "إن الإسلام في فرنسا يجب أن يكون منفتحا ومتحررا يسمح للناس أن يتعايشوا بجوار بعضهم البعض". واعتبر أن مشروع القانون منسجم مع العلمانية المطبقة بفرنسا. ودليل بوبكر، الرئيس السابق لمجلس الديانة الإسلامية بفرنسا، هو الشخصية الإسلامية الوحيدة حتى الآن التي باركت جهرا قانون منع انتشار البرقع، وأكدت أن استخدامه في فرنسا مرتبط ب"التحول نحو التشدد" بين بعض المسلمين. أما منظمة "ائتلاف محاربة الإسلامفوبيا"، فقد اعتبرت في بيان لها أن إثارة قانون حظر البرقع أو النقاب "إجراء خطير يجب الوقوف في وجهه بشدة، لأنه لا يعادي المسلمين فحسب، بل يشكل خرقا لمبدأ علمانية الدولة وحياديتها أمام المعتقدات والحريات العامة والخاصة"، مشيرة في نفس السياق إلى أن الهدف من وراء هذه "الضجة المفتعلة هو التضييق على المرأة المسلمة ومنعها من أن تمارس معتقداتها الدينية بشكل طبيعي". من جهته، صرح أنوار كبيبش، رئيس تجمع مسلمي فرنسا والكاتب العام للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، ل"أخبار اليوم" بأن قضية البرقع الذي يقتصر لباسه على فئة جد قليلة من النساء المسلمات "قضية مفتعلة"، ودعا إلى "عدم مجاراة البعض في الرغبة في إثارتها، لأن مشاكل مسلمي فرنسا هي أهم وأعمق من ذلك بكثير". وقال محمد الموساوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (الممثل الرسمي لمسلمي فرنسا)، في تصريح مماثل: "نحن لن ننخرط في هذه الدعوات التي يراد منها الإشارة بالإصبع إلى الظواهر الشاذة لمسلمي فرنسا من أجل تحويلنا عن مشاكلنا الحقيقة". وحذر من مجاراة البعض في الرغبة بإثارتها لأن "مشاكلنا كمسلمي فرنسا أهم وأعمق ولن يغطيها النقاب ولا البرقع"، فيما دعا "المنتدى الأوربي للمرأة المسلمة" مسلمي فرنسا إلى "قطع الطريق على الذين يريدون استغلال البرقع والنقاب لتشويه سمعة المسلمات". وقال في بيان له: "طبعا نحن من وجهة النظر الشرعية والقانونية بفرنسا لا نرى داعيا إلى البرقع والنقاب في المجال الفرنسي والأوربي، غير أننا ننظر بعين الريبة إلى مثل هذه اللجنة التي نعتقد أن الغرض من رسالتها هو مزيد من التضييق على المرأة المحجبة العادية".