الزاوية البوتشيشية لم تعد طريقة صوفية لأتباع هجروا الدنيا وتفرغوا للآخرة، بل صار بعض شيوخها يتطلعون إلى لعب أدوار سياسية في المغرب وخارجه. ولهذا، فإن الشيخ حمزة فوق رأسه اليوم عمامتان.. واحدة صوفية وأخرى سياسية. ابنه "سيدي منير القادري"، كما يلقبه أتباع والده، قال في استجواب مع هذه الجريدة: "إن التصوف في المغرب في خدمة الدين والوطن والملك". وزاد في تفصيل البرنامج السياسي لزاوية والده: "حب الأوطان من الإيمان، ونحن نغير على وحدتنا الترابية، وكل القضايا الكبرى يجب على الطريقة البوتشيشية أن تكون حاضرة فيها... وطريقتنا تتطلع إلى لعب دور في الدبلوماسية الروحية الموازية للدبلوماسية الرسمية والبرلمانية وغيرها".. كيف ذلك؟ يشرح "سيدي منير": "إذا جاء أناس من مختلف أقاليم الصحراء وارتبطوا بالشيخ وأحبوه وأحبوا هذه الأرض، فلا يمكن، بعد ذلك، أن يثيروا الفتنة ويهددوا الوحدة الترابية". سمي التصوف تصوفا لأن أصحابه يكتفون بلباس الصوف علامة على الزهد في الدنيا والتفرغ للآخرة. والتصوف ظاهرة دينية ونفسية موجودة في الأديان، وهي مرتبطة، عموما، بعوامل سياسية وحضارية ونوازع فردية. نشأ التصوف في الإسلام بعد أحداث الفتنة الكبرى وصراع المسلمين، بعد وفاة النبي (ص)، على السلطة، ودخول أقوام عديدة إلى خيمة الإسلام، حتى صارت خصوصيته مهددة، فلجأ أناس إلى دور العبادة ابتعادا عن الفتنة ورجوعا بالإسلام إلى صفاء منابعه... بعد ذلك، اتسعت تيارات عدة وسط مدرسة التصوف، منها المعتدل ومنها المتطرف.. منها التصوف السني ومنها التصوف الفلسفي... لكن، بالمجمل، التصوف موقف حيادي تجاه الصراع السياسي، واحتجاج صامت على توظيف الدين في حيازة السلطة أو في السعي إلى الحكم... اليوم انتعشت الزوايا الصوفية في المغرب، بعد أن تراجع دور الكثير منها بعد استقلال المغرب، أولا، لأن عددا منها تحالف مع الاستعمار الفرنسي، وكان شيوخ هذه الطرق جنودا في كتيبة الاستعمار، وثانيا لأن الحركة الوطنية، بزعامة علال الفاسي، كانت تضم بين جنباتها فكرا سلفيا مناهضا للبدع والخرافات والتعلق بالأشخاص والأضرحة. جذور هذا الفكر السلفي جاءت من المشرق، ولهذا فإن الزوايا في المغرب تراجع نفوذها. بعد صعود نجم الحركات الإسلامية ذات البعد السياسي، تم اللجوء إلى خدمات الزوايا الصوفية، في محاولة لاسترجاع التوازن المفقود في حقل حساس يعتبر القصر أنه يشكل أساس مشروعيته. المشكل هنا أن الطريقة البوتشيشية، التي ينتمي إلى صفوفها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ترفض الاعتراف بأنها تؤدي أدوارا سياسية، وتصر على أنها زاوية للعبادة والذكر. فإذا كانت الزوايا تخدم مصلحة الدولة اليوم، فمن قال إنها ستظل كذلك غدا؟ هل نحتاج إلى التذكير بأن عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان، الخصم الأول للسلطة، كان أحد أتباع الزاوية البوتشيشية، وأنه كان مريدا في حضرة والد ابن حمزة، ثم انشق عن هذه الزاوية وأسس أخرى بطعم سياسي واضح. ثالثا: السلطة اليوم لا تنتبه إلى الدور الثقافي السلبي جدا الذي تزرعه هذه الزوايا في العقل المغربي، والتي تغيِّب الوعي النقدي وتربط الأشخاص بالفرد، وتسلب الناس حرية الفكر. تكفي إطلالة على كتب "الكرامات" و"الخوارق" و"المعجزات" التي تنسب إلى شيوخ هذه الطرق، والتي تتحدث عن "كلامهم مع الموتى" وعن "مشيهم فوق الماء" وعن انتقالهم إلى مكة في الليل وجلوسهم إلى مائدة الإفطار في المغرب أو تونس أو الجزائر في الصباح... وغيرها من الخوارق التي لا تصلح لغير أفلام الخيال العلمي... هل سندخل إلى عصر التقدم بهذا النوع من الفكر... التصوف خيار فردي ولا يمكن أن يكون أساس سياسات عمومية... الله حي.. الله حي...