حل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ضيفاً على السودان، ومعه ستون مُراقباً مُدربين على مُراقبة الانتخابات. وهم ليسوا ضيوفاً لدى الحكومة السودانية، ولكن على حساب مركز كارتر، الذي تأسس منذ حوالي عشرين عاماً، أي بعد أن انتهت ولاية جيمي كارتر كرئيس لبلاده. وتخصّص المركز، وهو مؤسسة أهلية مدنية في مُحاربة الأوبئة والمجاعات ودعم برامج التنمية وحل المُنازعات والصراعات الأهلية والإقليمية. أي أن فلسفة هذا المركز هي أن التنمية هي أحد شروط السلام في أي مجتمع وفي أي إقليم، ومن ثم في العالم قاطبة، أي أن "لا سلام بلا تنمية". وبعد عدة سنوات من دراسات ومُمارسات مركز كارتر، أيقن العاملون فيه، بمن فيهم الرئيس نفسه، أنه لا سلام ولا تنمية بلا "عدالة"، أي مع انتهاء العقد الأول من حياة المركز أصبحت ثلاثية التنمية والعدالة والسلام عقيدة عمل راسخة. ثم مع العقد الثاني بدأ يوقن الرئيس الأمريكي الأسبق والعاملون معه بأن "الديمقراطية" شرط رابع للاستقرار والحكم الصالح. وقد تزامن هذا اليقين مع جدل أكاديمي وإعلامي في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، حول ما إذا كانت "الديمقراطية"، بمعنى مُشاركة الناس في اختيار من يحكمونهم، هي نظام يصلح لكل المجتمعات؟ وتركز جزء من هذا الجدل حول الشعوب ذات الأغلبية المسلمة. وكان بعض من يُشاركون في هذا الجدل أكاديمياً وإعلامياً قد ذهبوا إلى أن هناك شيئا أو أشياء في المعتقدات الدينية للمسلمين تجعلهم غير قابلين، وغير مستعدين، وربما غير مستحقين للديمقراطية كنظام للحكم، ولكن مركز كارتر تعامل مع هذه المسألة أكاديمياً وميدانياً. أي أنه لم يُصر على إجابة مُسبقة، وإنما تطوّع بالنُصح والإرشاد والمُساعدة لمن يُريدون الخيار الديمقراطي. ولأن رُكناً ركيناً من الديمقراطية هو إجراء انتخابات حُرة ونزيهة، فقد تبنى مركز كارتر مُراقبة الانتخابات كأحد أنشطته الرئيسية. وأصبحت الديمقراطية ركنا رابعا وأصيلا في عقيدة ومُمارسات مركز كارتر أي أنه لا سلام بلا تنمية، ولا سلام وتنمية بلا عدالة، ولا تنمية أو سلام أو عدالة بلا ديمقراطية، أي أننا أصبحنا بصدد "رُباعية" للاستقرار والرخاء. والواقع، كما يقول الرئيس كارتر مراراً، هو أن هذه الرباعية هي جوهر كل الأديان. كما أن نفس هذه الرُباعية هي ما ينطوي عليه "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الذي صدر عن الأممالمتحدة في العاشر من ديسمبر عام 1948. ما علاقة هذا كله بانتخابات مصر المحروسة؟ وهل نتحدث هنا عن الانتخابات البرلمانية (الشورى والشعب) لعام 2010؟ أم نتحدث عن الانتخابات الرئاسية لعام 2011؟ لقد أصبح مركز كارتر رفيقاً غير حكومي للأمم المتحدة ولعدد من وكالاتها المُتخصصة، مثل مُفوضية حقوق الإنسان، ومُنظمتي الصحة والأغذية العالمية. بل أصبح في كثير من الأحيان أكثر مصداقية من حكومة بلاده، ومن الأممالمتحدة نفسها، ولم يكن لهذه المصداقية أن تنشأ وتترسخ إلا بفضل الشفافية والنزاهة والإنجاز. ويجمع المُراقبون الآن على أن جيمي كارتر، داعية السلام والديمقراطية والعدالة والتنمية، هو الأكثر تأثيراً من جيمي كارتر كرئيس أمريكي، لأقوى دولة في التاريخ. وكان منحه جائزة نوبل للسلام (2002) مُجرد تصديق على هذا الإنجاز. وبهذا المعنى أيضاً أصبح الرجل، رغم أمريكيته، من أحكم حُكماء العالم مثل نلسون مانديلا والدالاي لاما وديزموند توتو من المُعاصرين، ومثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج والأم تريزا من شبه القديسين الذين عرفهم القرن الماضي. وهذه المصداقية الطاغية هي التي أعطته قوة معنوية هائلة. ومن ذلك أن شهادة مركز كارتر بأمانة ونزاهة أي انتخابات هي شرعيتها أمام الرأي العام في الداخل والخارج. ورغم أن للرئيس جيمي كارتر علاقة تاريخية وطيدة بمصر، منذ اتفاقيتي كامب دافيد ومُعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1977-1980)، خلال عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ورغم أن أهم جزء في المتحف المُلحق بمركز كارتر في مدينة أطلانطا، بولاية جورجيا، هو ذلك الذي يوثّق وقائع تلك السنوات الثلاث، إلا أن المركز لم يتعامل مع نظام الرئيس مُبارك، ولم يدع إلى مُراقبة أي انتخابات في عهده. لذلك يمكن التشكيك في شرعية نتائج معظم هذه الانتخابات، إن لم يكن فيها جميعاً ربما باستثناء أول استفتاء في أواخر عام 1981، عقب اغتيال الرئيس السادات. إن مركز كارتر ليس هو الجهة العالمية غير الحكومية الوحيدة التي تراقب الانتخابات، وتصدر بشأنها التقارير المُحايدة. فهناك، كما سبق أن ذكرنا، هيئة سويدية هي IDEA، وأخرى بريطانية هي مؤسسة وستمنستر (Westminster Foundation)، وثالثة كندية هي مؤسسة القانون والديمقراطية (Law and Democracy)، وأكثر من مؤسسة في الولاياتالمتحدة مثل بيت الحرية (Freedom House)، والوقفية الأهلية للديمقراطية (National Endowment for Democracy). ولم يسمح نظام الرئيس مُبارك لأي منها بمُراقبة الانتخابات في مصر على امتداد التسع وعشرين سنة الماضية، ولذلك ظلّت شرعية نظامه مجروحة أو مطعوناً فيها. وكان نظام الرئيس مُبارك، ولا يزال، يختبئ وراء ستار السيادة الوطنية، وكان ولا يزال إعلامه الحكومي يعتبر الدعوة إلى الرقابة الدولية تدخلاً في شؤون مصر وهي كلمات باطلة يُريد بها إثبات حق، فكل ما بُني على باطل فهو باطل أيضاً. والقول المصري المأثور بالعامية: "أن من برأسه بطحة (أي جرح)، فإنه لا يكف عن تحسسها". فإعلام النظام لا يكف عن التسبيح باسم "السيادة"... "السيادة"... "السيادة"، وخاصة في لحظات التفريط فيها لحساب أطراف خارجية أخرى لأغراض في نفسه أو في نفس أحد من أسباطه أو أصدقاء أبنائه. ونظن أن ذلك أصبح مكشوفاً لغالبية المصريين والعرب وخاصة منذ التواطؤ الفاضح أثناء حرب غزة (2008/2009) ضد الفلسطينيين، وحائط القسوة والمهانة الفولاذي لإحكام الحصار على أبناء غزة لحساب إسرائيل. وقد سمعت مصريين يتندرون على إفراط النظام وأبواقه في استخدام مقولة "السيادة" لتبرير القسوة على "الأقربين"، وخدمة أو تملّق "الأبعدين"، بشخصية "القوّاد" في أحد الأفلام المصرية، الذي لم يكن يتوقف عن ترديد عبارة أنه لا يوجد ما هو "أحلى من الشرف"! (أحسن من الشرف، مفيش)! إن رؤية الرئيس كارتر، وقد قارب التسعين من عُمره، وهو يهبط من سلّم الطائرة بصعوبة في مطار الخرطوم (9/2/2010) على رأس فريق مركزه من المُراقبين للانتخابات السودانية المُقبلة، هو دليل على شيئين: *أولهما أهمية هذه الانتخابات، حيث ستقرر نتائجها مُستقبل السودان، كما عرفناه منذ استقلاله (1955)، أي بحدوده من حلفا قرب الحدود المصرية شمالاً، إلى شواطئ بُحيرة فيكتوريا جنوباً. فهناك احتمال كبير أن يختار الجنوبيون السودانيون الانفصال، والاستقلال عن الشمال، حيث لم ينعموا خلال قرن إلا بعشر سنوات من السلام، وعانوا من ويلات قتال أهلي لأكثر من نصف قرن. ولخطورة هذه الانتخابات، وافقت كل الأطراف السودانية، جنوبية وشمالية، على دعوة المُراقبين الدوليين، وعلى رأسهم مركز كارتر ليكونوا شهوداً على هذا الحدث الجسيم، الذي لا يُريد أي طرف بمُفرده أن يتحمل نتائجه أمام التاريخ. ونعتقد نحن أن مصر مُقبلة على انتخابات لا تقل نتائجها حسما عن الانتخابات السودانية، فمصر ستشهد في غضون السنوات القليلة المُقبلة "عهد ما بعد مُبارك". ورغم دعواتنا للرجل بدوام الصحة وطول البقاء، إلا أن "استمرار الحال من المُحال"، وستقرر الانتخابات النيابية والرئاسية القادمة طبيعة وشكل النظام السياسي المصري لبقية القرن الحادي والعشرين. ولأن مصر هي أهم بُلدان الشرق الأوسط والوطن العربي وإفريقيا ودار الإسلام، فإن نتائج تلك الانتخابات ستكون ذات تأثير ملموس ومحسوس على هذه العوالم جميعاً. ولا بد أن تكون تنافسية، نزيهة وشفافة، لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين يديها، ولا يُشكك في شرعيتها أحد. وإحدى ضمانات ذلك هو حملة المليون مٌراقب داخلياً، ودعوة مركز كارتر للرقابة والشهادة دولياً. لقد حدثني الرئيس كارتر في أكثر من مُناسبة عن أن أمنيته قبل نهاية عُمره أن يشهد مولد ديمقراطية حقيقية في مصر، بعد أن أسهم في تحقيق السلام بينها وبين أعدى أعدائها. أي أن الرجل يُريد استكمال "الرُباعية الذهبية" سلام، ديمقراطية، عدالة، تنمية التي أصبحت عقيدة راسخة لديه ولدى مركزه. فلندعوه، شعبياً، إلى مُراقبة انتخاباتنا، حتى لو تلكأ أو تردد أو رفض أو كره آل مبارك.