قبل أيام قليلة خرج تقرير الميداوي إلى العموم، وهو التقرير الذي أماط اللثام عن أحد أشكال التبذير المنظم والعلني لثروات وأموال دافعي ضرائب هذا الوطن. بداية لابد أن نسجل أن مجرد خروج هذا التقرير إلى العلن وعدم اقتصاره على الديوان الملكي يعد خطوة إيجابية، لكنها قد تفقد إيجابيتها هذه إذا لم تتلوها خطوات أخرى، بل وقد تصبح نقطة أخرى تحسب على مغرب محمد السادس. قبل أن نتحدث عن الخطوات اللازمة بعد صدور التقرير، لابد لنا أن نذكر أن ما نشهده اليوم –من نهب وسرقة للمال العام- هو إحدى نتائج سياسة الراحل الحسن الثاني، عندما قام بتحويل المغرب إلى إقطاعيات –صغيرة وكبيرة- قرسطوية، يسرح فيها المنعم عليهم، ويمدون أيديهم ليغرفوا من الصناديق السوداء والبيضاء دون حسيب أو رقيب، حتى قادوا المغرب إلى السكتة القلبية. سكتة ساهم فيها «اللاعقاب» الذي كرسه المخزن في تعامله مع كل ناهبي المال العام، حيث كان العقاب وسيلة «لتأديب» من لا يقبلون بقواعد اللعب، أو لخلق طبقة «نهبوية جديدة» تعوض القديمة بقواعد لعب تفرضها المتغيرات الدولية والوطنية. لقد ساهمت هذه السياسة في خلق طبقة متملقة، تدين بالانتماء للمصلحة الشخصية، وتغيب عن قاموسها كل معاني الوطن والانتماء، ذلك أن الوطن الوحيد لهم هو الأبناك التي يضعون فيها الأموال التي نهبوها من قوت فقراء أجمل بلد في العالم، والانتماء هو انتماء لمن يوفر لهم الحماية، ويتستر على جرائمهم العلنية. ولم ينتبه النظام السياسي آنذاك إلى أن هذه الطبقة هي أخطر عليه من كل معارضيه –على اختلاف مشاربهم- لأنها تهدد كل التوازنات الاقتصادية الهشة التي قام عليها النظام آنذاك، ولأنها لا تحمل أي ولاء حقيقي للعرش أو للوطن. ولعل هذا ما أدركه جلالة الملك محمد السادس حيث مافتئ يؤكد من خلال خطبه –تصريحا أو تلميحا- عزمه على محاربة مظاهر الفساد التي أطلقت أياديها العنكبوتية في كل أجهزة الدولة، ولا يمكن هنا أن ننسى الزوابع التي أثارتها تقارير بعض اللجان البرلمانية، حول بعض الصناديق السوداء. واليوم نصل إلى تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ولا أحد ينكر أن المغرب يمر بظرفية حساسة على جميع الأصعدة والمستويات، وأنه الآن في عنق زجاجة خروجه منها قد يقوده إما إلى بداية انتقال ديمقراطي حقيقي، يضمن حدا أدنى من الكرامة لمواطنيه، وإما إلى ما لا تحمد عقباه من انفلاتات قد تجرف الأخضر واليابس. على النظام السياسي أن يضع في اعتباره أنه لا يوجد أي نص أو كتاب –مهما كانت قدراته المقدسة أو السحرية- يستطيع أن يدفع الإنسان إلى التضحية بحياته،مهما كانت المغريات الأخروية. لكن الإحساس بفقدان الكرامة، وبأن الإنسان يحيا في وطن ليس له، كفيل بأن يجعل من الموت والحياة سيان، وأن يحول المواطنين إلى قنابل موقوتة تنفجر في أي وقت وأي مكان، لتهدد كل التوازنات السوسيواقتصادية و الأمنية للدولة. من هنا إذا يصبح تحريك المسطرة القضائية ومتابعة ملفات الفساد التي كشف عنها تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات، أمرا ضروريا لإقامة نوع من التوازن النفسي لدى مواطن بدأ يفقد ارتباطه بكل قيم هذا الوطن، وأصبح اليأس يغزو كل مواطن الحلم داخله بوطن الكرامة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه المحاكمات تصبح ضرورية على اعتبار أن أغلب الذين ورد ذكرهم في تقرير الميداوي، تم تعيينهم بناء على ثقة ملكية، وما دام أن قضاءنا حريص على تتبع كل من تسول له نفسه الإساءة إلى الثقة الملكية، فمن باب أولى أن يتابع هؤلاء الذين خانوا ثقته. على القضاء –الذي لايتورع أن يشهر سلاح المس بالملك في وجه رجال الصحافة، وأن يفرض غرامات تكاد تفلس مؤسسات بأكملها- اليوم من منطلق الدفاع عن الملك أن يتابع هؤلاء المفسدين، كما يجب عليه أن يتابع سلطة الاقتراح التي لا تتوانى أن تقترح هذه الأسماء على جلالة الملك، لتضعه في مثل هذا الموقف، عندما يجد أن رجال ثقته يفقرون أبناء شعبه، الذي يطلق هو المبادرة تلو المبادرة لإنقاذهم من الفقر والهشاشة. إنهم بهذا يقفون في وجه المشروع الملكي، فكيف يصمت القضاء على هذا الأمر، إلا إذا كان متواطئا –ولو بالصمت على الأقل- في هذه الجريمة. إن تقرير الميداوي قد يكون فرصة حقيقية لتقريب المسافة بين الدولة والمواطنين، بعدما بعد البون بينهم، وفقد المواطن ثقته في دولة تجيد تضييع الفرص التاريخية, وأخيرا لا ننسى أن نقول لكل المفسدين والمرتشين وسارقي المال العام ألا ينسوا -وهم يمارسون جرائمهم- المثل الفرنسي القائل «من يأكل الفقير يختنق بعظامه». وقد أكلتم فقراء هذا الوطن، فاحذروا يوما تختنقون فيه.