عندما يجيب وزير للعدل يمثل سلطة القضاء وهيبته صحافيا سأل سعادته هل سيبقى في منصبه الوزاري بعد انتخابه أمينا عاما لحزبه أم سيتنحى كما وعد بذلك بعبارة «ونتا شغلك»، ثم يجيب مراسلا لقناة أجنبية حول سؤال يتعلق بالخلافات الموجودة بين قياديي الحزب ب«اجمع الوقفة وخرج عليا»، نفهم بشكل أوضح كيف وصل قضاؤنا إلى هذا المنحدر الذي يوجد فيه اليوم. فإذا كان وزير العدل يجيب الصحافيين بهذه الطريقة المهينة فعلينا أن ننتظر من بعض قضاته الأسوأ. ولو أن وزيرا للعدل في فرنسا أو إسبانيا التي يحلو لبعضهم عندنا عقد المقارنات معهم، أجاب بهذه الطريقة لثارت عاصفة إعلامية هوجاء في وجهه، ولاضطر إلى تقديم اعتذاره للصحافة. لماذا توتر الراضي عندما سأله الصحافي هل سيطلب الإعفاء من منصب وزير العدل كما وعد بذلك هو نفسه. ولماذا نهر صحافيا آخر عندما سأله عن الخلافات بين قياديي الحزب، والتي لا ينفيها هؤلاء القياديون أنفسهم. ببساطة لأن وزير العدل يعتبر نفسه فوق المساءلة، ويرى أنه غير ملزم بإخبار الرأي العام عبر الصحافة بقراره التخلي عن حقيبة العدل أو التمسك بها. وهي الحقيبة الوزارية التي تدفع الدولة راتبها من جيوب دافعي الضرائب. إن ما تفوه به وزير العدل في حق الزميلين خلال مؤتمره الحزبي يعكس الصورة الحقيقية للعلاقة المتشجنة بين السلطة الثالثة التي يمثلها القضاء والسلطة الرابعة التي تمثلها الصحافة. والتي كانت قضية إعدام «المساء» النقطة التي أفاضت كأسها الطافحة بالمرارات والنكسات. وإذا كان ممثل سلطة العدل في المملكة يستخف بأسئلة الصحافيين ويطردهم بسببها من مجلسه الموقر، فإن ممثل الملك في خنيفرة أمر باعتقال ابن شقيقة رقية أبو عالي، التي كشفت عورة بعض القضاة الفاسدين، بتهمة التقاط صور لسعادة العامل بهاتفه أثناء الاحتفال بذكرى المسيرة الخضراء. ولا بد أن شريط «الملاسة» الذي التقطه أحد الهواة في «تارغيست» والذي دام ربع ساعة من التناوب على «التملاس» لتخليد حفل تدشين تافه، قد فعل فعله في الولاة والعمال. فأصبحوا يخافون من كاميرات الهواتف النقالة التي تترصدهم وهم يحتفلون بالأعياد الوطنية ويمارسون رياضة التدشين التي أصبحت الرياضة الوطنية الأولى للمسؤولين الكسالى في هذه البلاد. وأنا أتساءل عن نوع التهمة التي سيوجهها وكيل الملك لابن شقيق رقية، هل هي تهمة تصوير العامل بدون رخصة من المركز السينمائي المغربي، أم تهمة استغلال صورة سعادة العامل بدون وجود عقد معه. مع مثل هذه الأخبار نرى بوضوح أن المغرب بمجرد ما يقوم بخطوة إلى الأمام حتى يرجع ثلاث خطوات إلى الخلف. لقد أصبحنا غير قادرين حتى على طرح سؤال على وزير دون أن نكون مهددين بالطرد من أمام حضرته، وأصبحنا ممنوعين من التقاط صورة بالهاتف لمسؤول يجلس في منصة منصوبة في الشارع. وغدا قد يمنعوننا حتى من استعمال هواتفنا إذا ما كان أحد القواد (جمع قائد) مارا من الشارع إلى بيته. في فرنسا لا يكتفي بعض المواطنين باستقبال رئيس الدولة بالأسئلة، والتي يكون مجبرا على التوقف للإجابة عنها باحترام، وإنما هناك من يستقبله بالشتائم. وقبل أشهر استقبل أحدهم نيكولا ساركوزي بلافتة كبيرة مكتوب عليها تلك العبارة التي تلفظ بها رئيس الدولة في حق أحد المواطنين الذي رفض مصافحته أمام الملأ، والتي تقول «أغرب عن وجهي أيها الحقير الأبله». فقرأ ساركوزي التحية وقرر أن يرد بأحسن منها، ولجأ إلى القضاء وسجل دعوى ضد المواطن يتهمه فيها بالإخلال بالاحترام الواجب لرئيس الدولة. تداولت المحكمة في الشكاية وأفرجت قبل يومين عن حكمها الذي يجب على نواب وكلاء الملك الأربعة التي حكمت لهم المحكمة بستمائة مليون نظير مقال لم يذكر اسم أي واحد منهم، أن يتأملوه جيدا. لقد حكمت محكمة «لافال» الخميس الماضي ضد المواطن الذي استقبل رئيس الدولة ب«أغرب عن وجهي أيها الحقير الأبله» بغرامة قدرها ثلاثون أورو، وهي بالعملة المغربية، غير الصعبة طبعا، تعني «سبعلاف ريال». ونحن نطلب من كل فقهاء القانون أن يشرحوا لنا هذه المفارقة العجيبة التي تعوض بموجبها العدالة الفرنسية كرامة رئيس الدولة الفرنسي بسبعلاف ريال، بينما تعوض العدالة المغربية كرامة أربعة قضاة بستمائة مليون. فنحن في المغرب ليس لدينا مستوى الدخل الذي لدى الفرنسيين، وليس لدينا نفس الحد الأدنى من الأجور الذي لديهم، ومع ذلك تتفوق عدالتنا على العدالة الفرنسية في حجم الغرامات الصادرة في حق الصحف والصحافيين. وإذا كان القضاء الفرنسي ينطق أحكامه لتحقيق العدالة، فإن قضاءنا المغربي ينطق أحكامه، خصوصا ضد الصحافيين، لخنقهم للحد مما يعتبره «ضسارة» في حقه وفي حق كل من يسيرون الشأن العام. ومن مفارقات هذا البلد أن كل ما كنا نقوله ونكتبه ونندد به، واعتبرته بعض الجهات حين كتابته مجرد تقليل للحياء على مؤسسات الدولة والحكومة، صدر اليوم في تقرير من حوالي 786 صفحة عن المجلس الأعلى للحسابات. فهاهم قضاة المجلس الأعلى يفضحون في تقريرهم السنوي الضخم العديد من الخروقات والمخالفات في صرف المال العام وتبديده في وزارة الطاقة وصندوق الإيداع والتدبير ومركز الاستشفاء الجامعي ابن رشد والمركز السينمائي المغربي والجماعات المحلية بالدارالبيضاءوفاس ومراكش. عندما كتبت قبل سنة حول طريقة تدبير، حتى لا نقول تبذير المركز السينمائي المغربي لأموال دافعي الضرائب على بعض المخرجين السينمائيين وبعض المهرجانات التي لا تستحق الدعم، اجتمع منتجو الأفلام في غرفتهم المظلمة ودبجوا بيانا ناريا ضدي يتهمونني فيه بالفاشية. فهل سيكون بمقدور هؤلاء الباسلين (البسالة في اللغة تعني الشجاعة) أن «يحنشو» نفس البيان ضد قضاة المجلس الأعلى للحسابات الذين وضعوا أصابعهم على اختلالات مالية كبيرة في مالية المركز، والذي سنقتصر اليوم على الحديث حوله تاركين العودة للآخرين مستقبلا. فقد اكتشف قضاة المجلس الأعلى للحسابات أن الدعم الذي قدمه المركز للمخرجين غير عقلاني ولا يخضع لمقاييس واضحة. كما أن المركز لا يهتم بمطالبة المخرجين المستفيدين من الدعم بتقديم الوثائق التي تثبت طريقة صرفهم للمبالغ المالية التي يحصلون عليها، ولا يتوفر حتى على لائحة مضبوطة لكل الأفلام التي منحها أموال دافعي الضرائب. وعندما كنا ننتقد طريقة تنظيم بعض المهرجانات السينمائية التي ينظمها المركز هاجمنا البعض واتهمونا بالظلامية ومحاربة الفن السابع، وها نحن اليوم نقرأ في تقرير قضاة المجلس أن طريقة تنظيم المهرجانات تشوبها علامات الاستفهام، خصوصا غياب ملفات تضم المعطيات التقنية والمالية حول كل مهرجان. كما سجل قضاة المجلس تجاوز المصاريف المسموح بها في بعض فقرات المهرجانات السينمائية. كما أن مصاريف إقامة وتغذية ضيوف المهرجانات لا يوجد ما يدل عليها في الوثائق. والأخطر في كل ما أشار إليه التقرير هو أن الصفقات التي نظمها المركز في عهد الصايل، الذي كان يجب أن يذهب للتقاعد قبل ثلاث سنوات، كلها تمت عن طريق التعيين وليس عن طريق طلبات عروض، مما يقتل المنافسة ويشجع احتكار جهة واحدة للصفقات. ولهذا نفهم لماذا «واظب» مدير المركز على تمكين منشطة واحدة، هي النوالي، منذ 2003 وإلى اليوم من صفقة تنشيط المهرجانات السينمائية التي ينظمها المركز. كما سجل التقرير زيادة ملحوظة في تعويضات المنشطة سنة بعد أخرى. وبالإضافة إلى دعمه غير المنظم للمخرجين السينمائيين، يقدم المركز السينمائي دعما ماليا للجمعيات. وحسب تقرير القضاة فقد صرف الصايل حوالي 9،68 مليون درهم في سنة 2005 وحدها على 14 جمعية لا تربطه بها أية اتفاقية تعاون، في خرق سافر للقانون. وعندما نعرف أن المركز السينمائي يكتري مقرا في الدارالبيضاء بمبلغ 25.000 درهم في الشهر، وصرف عليه الصايل مبالغ طائلة لكي يليق بسعادته، وأن هذا المقر يوجد في ملكية أحد أصدقائه من صانعي السينما بالمغرب، نفهم لماذا ثار هذا «الصانع» عندما كتبت قبل سنة منتقدا هذا الأمر. فهل سيثور مجددا في وجه قضاة المجلس الأعلى للحسابات، أم أنه سيبتلع لسانه ويصمت، لأن الجهة التي تتهم اليوم ليست رشيد نيني وإنما قضاة الميداوي. ولنفترض أننا نحن الصحافيين لسنا سوى مجموعة من «الضاسرين» المسعورين الذين لا يتعبون من الصراخ أمام أبواب المؤسسات العمومية حيث توجد أموال دافعي الضرائب، فماذا سنسمي إذن قضاة المجلس الأعلى للحسابات الذين جمعوا في 786 صفحة الكتاب الأسود لتبذير المال العام في المؤسسات العمومية بالمغرب. طبعا إذا فكرتم في البحث عن اسم فعليكم أن تبحثوا عن اسم آخر غير الإرهابيين، لأن شباط سبق له أن أطلق على قضاة المجلس هذه الصفة عندما أنجزوا تقريرا حول مالية مجلس فاس الذي يتولى مسؤوليته. فيبدو أن كل من يقول الحق في هذه البلاد أصبح إرهابيا يجب إسكاته. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.