رحل فجر أمس الثلاثاء الصحافي الكبير والأديب المميز عبد الجبار السحيمي عن عمر يناهز 74 سنة بعد معاناة طويلة ومكابدة صامتة مع المرض. الراحل كان واحدا من رواد الصحافة المكتوبة بالمغرب، أعطاها كل حياته وأرسى قواعدها المهنية والأخلاقية ورعى أجيالها بسخاء ونكران للذات فريد من نوعه. كان زاهدا في المناصب حكيما في أشد لحظات الوطن حلكة ومتعاليا على كل الحروب الإيديولوجية الصغيرة، وخلّف سيرة عطرة بما هو إنساني موسومة بصورة “المغربي القح” تاركا لتاريخ الصحافة المغربية أيقونة ونموذجا للاحتذاء وللخزانة المغربية عناوين ممهورة بحبر الروح مثل “بخط اليد” و”الممكن من المستحيل” و”سيدة المرايا”... رحم الله سي عبد الجبار. حزين وفاجع هذا الثلاثاء المُظلّلُ بغيوم كئيبة وسماء أسيانة لا تعرف زرقة الابتسام. حزين وفاجع في تقويم الصحافة المغربية إذ يرحل عنها أحدُ فرسانها الأجلاء وبُنَاة صرحها الكرماء وحُفّاظ ماء وجهها في زمن الالتباس الكبير : عبد الجبار السحيمي. يرحل هكذا في صمت كان الوجهَ الآخرَ من شخصيته. دون جلبة أو ضوضاء. في صمت يشبه الاعتذار بحياء. يشبه الانسحاب خلسة، بشرف العظماء من مشهد صار اليوم رهن الفوضى والارتجال وأسْرَ غموض يغلف كل شيء في هذا الفضاء. يترجّل صاحبُ الريشة البديعة التي خط بها، بخط اليد والروح، بدمها الشخصي الذي لا ينفر لغير الحق والحقيقة، أجملَ المقالات وأشدَّ القصص افتنانا وفتونا وأرقَّ الشذرات الشاردات وأرقاها عن الحياة المتفلتة مثل “ضوء هارب”. يترجل من على صهوةِ مهنةِ متاعب عرف بحنكة الأديب ودُربة الصحافي وشهامة الفارس كيف يسوسها ويُسلس لها القياد لتكون في خدمة الناس وعامة المجتمع، ضابطا إيقاعها على وتر الإنسان حتى لا تنزاح عن سكة الأخلاق وتؤول إلى ما آلت إليه على أيدي عدد ممن يملأون اليوم المشهد الحزين بالغثاء. في صمت ووحدة عانى وطأة المرض دون أن يجعل نأمة تَشَكّي تفلت من الجسد الموجوع. قاوم الألم ببسالة وتحد موثرا ألا يزعج الآخرين بمحنته. موثرا الظل كعادته. ثمة في العزلة المحروسة بنشيد الجرح ورفيف الظلال البعيدة حيث كان الرجل يصارع سطوة الداء بكبرياء ويستلهم الجَلَدَ من حكمة الإقامة في “مقام الصبر”. كان يصون الأيقونة من أي خدش. لكنه لم يرحل دون أن يترك ما يدل عليه.. ويالعمق أثره. بصمت ونكران للذات كان يرفع برج مهنة المتاعب آجرة بعد أخرى. يؤسس لما يبقى، لغة وأخلاقا والتزاما بالحضور في الجبهات الأولى، الأساسية. لا قضية تعلو عما يضيء للمغربي ما يعيش من واقع وما يقاسي أسبابه في معمعانه. عما ينوّر ما يفتح له أفقا. هذا الالتصاق اليومي بهموم الناس كان الجرس الذي ينبه باستمرار إلى السحيمي. كان الدليل إلى ما تخطه اليد نشيدا من القلب يصل. صار الرجل كناية على نصف قرن من الممارسة الصحافية التي لم تكل من حفرها الوئيد فيما يعبر المشهد المغربي. إصاخة للسمع إلى تاريخ مر مترجرجا على حديد ساخن. استعادةٌ لصوت الضمير النقي الذي لم يقايض يوما حبره بشيء. واقتراب من وداعة لا تضع أقفالها على الإنساني فيها عنوانا دائما على عطاء لا يطلب مقابلا. من تحت يديه خرجت أقلام هي الآن ما يلون المشهد الإعلامي بأكثر من حضور. كان معلما ولما يزل. لم يدّعِ يوما لنفسه شرف البزوغ على جيل كامل من الصحافيين. صَمْتٌ هو الوجه الآخر لحكمة تتقرى الزمن. ذاتٌ متطلبة تراجع الخطو وتستشرف ما تحمله الأيام. تحلم دوما بمغرب آخر يأتي. بعد “الانتقال السياسي” امتد خط اليد ممهورا بأسئلته جهة جبهة الأمل. لا يمكن الحديث عن عبد الجبار السحيمي بدون التعريج على الجهة القصية منه. الأدب. تحديدا القصة القصيرة. ممكنه من مستحيله لم يكن لحظة تأسيس فقط، بل تجنيس ومنح هوية مغربية لنوع أدبي مزور، متمنع وحرون إلا على من سايسه وتملّك أسراره. صورة لمبدع يطأ المسالك البكر. يفترع مسارب في جهات المجهول. ويُعلّم الآنين كيف يخطون بلا خرائط إن هم أرادوا إبداع ما لا يدخل في جوقة التماثل أو يَتَشَبّه. وكدأبه في مهنة المتاعب كان انحيازه في قصصه إلى البسطاء والمهمشين والمقصيين وناس المدن السفلى. غير أن الهم السياسي والاجتماعي، الفرشة العميقة لنصوصه، لم يشغله عن الاختيار الجمالي. على العكس، تجلِّي موضوعات الهمَّيْن حد الشفافية كان بفعل التشغيل العميق للأدوات الفنية. وكان الأول الذي جرب تقنيات في الحكي مغايرة عما كان سائدا، وخرج بها إلى مدار تداولها العربي. كان عبد الجبار السحيمي من المقلين. لكن الأثر الذي خلفه لا يمحي. أربعة عقود بين “الممكن من المستحيل” و”سيدة المرايا” كانت كافية لتؤشر على صوت له نغمته الخاصة في الحضور. يتوارى في الظل. مسحة تصوف عميقة يشف عنها شخصه. علامات تقشف في الملامح هي من صميم اللغة التي بها يخط سيرة يده. زهد يكاد يومىء إلى تبرم من تحولات أتى بها الزمن في وقت الغفلة. ورجل جاوز الرابعة والسبعين من عمره يرحل اليوم في صمت الحكماء. رحم الله عبد الجبار السحيمي. عاش زاهدا وفيا لمبادئه ولم يحد عن الطريق. عبد العالي دمياني ***************** رجل مواقف بقلم محمد العربي المساري عرف عبد الجبار، بالبراعة في التعبير عن نبضات قلمه، كدت أكتب بنبضات قلبه، وعرف أيضا بمواقفه التي تصدر عن نظرة ثابتة للحياة والناس. وحينما أشير إلى مواقفه أقصد تلك التي يتخذها إزاء الصغير والكبير من الشؤون التي تطرأ في الحياة، وإزاء الصغير والكبير من الناس الذين يلقاهم في حياته اليومية. أكاد أقول إنه دائم اليقظة، وكأنه لا يستريح. ويعرف الأصدقاء الذين احتكوا به، أن مواقفه كانت تعبر عن نظرة ثابتة وعن معايير لا تتغير. يزكي ما قلته كل من عرفه عن قرب. وخاصة حينما أؤكد أنه لا يصدر في آرائه ومواقفه عن نزوة، أو انفعال. وحين أقول إن آراءه ومواقفه ليست خبطات بوهيمية أو طلقات مجذوب. ولهذا حينما يتكلم، كثيرا ما تكون كلماته هي الأخيرة. وهذا ما حدث في المؤتمر الرابع لاتحاد كتاب المغرب الذي عقدناه في مدارس محمد الخامس بالرباط. كان ذلك اللقاء حافلا بمواقف عصيبة. وكان المؤتمر أشد توترا من المؤتمر الثالث الذي وصفته مجلة الاتحاد آفاق، عدد ربيع 1971، بأنه كان قد عرف بدوره مواجهة بين تيار وطني يدعو إلى أن يقوم المثقفون بواجباتهم، وتيار كان يحاول لاهثا ترك الاتحاد في منطقة الظل بدعوى الحياد. وكان مؤتمر مدارس محمد الخامس معبرا عن شدة الاضطراب الذي كان يعتمل في الساحة الثقافية. واتسم بمنعطفات عصيبة، وحفل بمواجهات كانت تدور حول مسألة رئيسية وهي صيانة استقلالية الاتحاد، وضرورة النأي به عن مسلسل التدجين. وقد تبلورت مواقف شديدة الوطأة بمناسبة مناقشة البيان العام، سواء في اللجنة الأولى أو في الجمع العام. وتوترت الأعصاب إلى درجة أن رئيس المؤتمر ، المرحوم الأستاذ المهدي الدليرو، أصابه إرهاق أدى به إلى الانسحاب من منصة الرئاسة، وتولت أعباء مواصلة التسيير الشاعرة الأستاذة مليكة العاصمي، وذلك في جلسة صاخبة ظهر وكأنها لن تنتهي. وأشد المواقف حرجا عرفه المؤتمر حينما تصدى المرحوم الأستاذ عبد القادر الصحراوي، باقتراح لم يلق القبول، بل وتم رفضه بما شبه الإجماع. وكان الاقتراح يرمي إلى أن يرفع المؤتمر برقية ولاء وإخلاص إلى جلالة الملك. و رفض الاقتراح بسبب أن رفع البرقيات يدخل في طقوس محافل رسمية تابعة للدولة، وهو ما يتنافى مع هوية الاتحاد الذي هو متميز عن باقي التنظيمات والأجهزة التي تحركها وزارة الداخلية من قبيل الغرف المهنية. ودافع الأستاذ الصحراوي عن رأيه باستماتة، أمام جمع عام صاخب وغاضب. وفي غمرة انفعالات قوية، تناول الكلمة الأستاذ عبد الجبار السحيمي، وألقى برصانة كلمة، استمع إليها الجمع العام بانتباه مرهف، قال فيها: إن الاتحاد ليست له عقدة لمخاطبة جلالة الملك، عاهل البلاد وملك الجميع. وقد سبق للاتحاد أن وجه برقية إلى جلالته. والعقدة المريرة في الموضوع هي أن أعضاء الاتحاد لا يقبلون أن يتم الركوب على منظمتهم، ليتسلق أحدهم إلى منصب الوزارة. هذا هو مغزى موقف رفض الاقتراح. واستسلم المؤتمر إلى السكينة بعد أن سرت كلمات عبد الجبار في أذهان الجميع، وخاطبت حس المسؤولية لدى المؤتمرين، بوضع الأمور في نصابها. وعلى الفور قمت بالطواف على الأعضاء الاستقلاليين بادئا بالرئيس علال الفاسي، رحمه الله، طالبا منهم أن يكفوا ، خاصة من يتبع منهم الوظيفة العمومية، عن القيام بأي تدخل علني، بعد أن أوضح عبد الجبار الموقف، ووضع حدودا مضبوطة بين الانفعال المتسرع والمسؤولية المتزنة. وحين تبين أن خطاب عبد الجبار قد اكتسح المؤتمر، وأصبح يمثل اقتناعا عاما في الجمع العام، طرحت رئيسة المؤتمر الأستاذة العاصمي، على المؤتمرين أن يصوتوا على اقتراح البرقية، بعد أن استمع المؤتمرون إلى آراء المؤيدين والمعارضين. وأمرت الرئيسة بتوزيع أوراق التصويت على الحاضرين للبت في تلك النقطة قبل غيرهأ. وهنا انبرى الأستاذ الصحراوي إلى المنصة من جديد ليقول إنه يعارض التصويت بالبطائق، ويطالب بأن يكون التصويت برفع الأيدي. وقال ليدعم دعواه: إن من يرقص لا يخبئ وجهه. نريد أن يكون معروفا من هو مع البرقية ومن هو ضدها. وحينذاك وقع شيء لم يكن في الحسبان. فقد هرول إلى المنصة المرحوم الأستاذ عباس برادة، وقال في الميكروفون: أنا أرقص و لا أخبئ وجهي. أنا ضد البرقية. والواقع أننا لم نكن نستحسن أن يستمر النقاش، باعتبار أن عبد الجبار كان قد قال كل ما كان ينبغي أن يقال. وكان من نتائج تدخل برادة، أننا أدينا ثمنا فادحا حينما تعرض هو إلى الطرد من وظيفته بوزارة الخارجية. واقتضى الأمر تنصيب محام ليدافع عنه أمام مجلس تأديبي. وتولى الدفاع عن الاتحاد النقيب الأستاذ امحمد بوستة. ونجح في إبطال قرار التوقيف. وظلت تلك النتيجة السارة، و قبلها الموقف الذي عبر عنه عبد الجبار، في وقت عصيب من المنعطفات التي اجتزناها، من أشد ذكريات ذلك المؤتمر بروزا، فضلا عما مثله مؤتمر مدارس محمد الخامس في تاريخ اتحاد كتاب المغرب. وقد أتيت هنا على هذه النبذة لكي أذكر بواحد من المواقف التي اتخذها عبد الجبار ونقشت في ذاكرة أعضاء الاتحاد الذين ذكروا له دائما أنه يمثل قمة الشعور بالمسؤولية، وأرقى مواصفات النزاهة. فضلا عما اتسم به ذلك الموقف في حد ذاته من شجاعة فكرية، وحسن التخلص كما يقول البلاغيون. وعرف الأصدقاء أن عبد الجبار حين يبدي استحسانا لشيء أو ميلا لأحد فهو يصنع ذلك بلا تنازل، وحينما يقول رأيا فإنه لا يقايض، بل بصدق وأريحية. ولذلك ولغيره محضه أعضاء الاتحاد ثقتهم. ومرة أحرز عبد الجبار على أعلى الأصوات، إذ فاق الذي بعده بتسعة أصوات، وحين تصور الأعضاء أن ذلك يعني أنه سيتبوأ رئاسة المنظمة، كان هو الذي أعلن في الاجتماع الذي تم فيه توزيع المسؤوليات، إن أعلى الأصوات يجب ألا تعتني المنصب الأول. وأن المنصب الذي سيخدم فيه الاتحاد هو عضو في المكتب التنفيذي. 16 أبريل 2009