قدرنا في «الأحداث المغربية» أن ينصفنا التاريخ باستمرار. لم ننسق في 2011 وراء مشاعر جماهير «الربيع العربي» وطرحنا علامات استفهام حول الذي يجري ومن يمسك بخيوطه، وحتى حين قيل لنا إن المخابرات الأمريكية فوجئت بانفجار الأحداث في تونس وبعدها مصر، كنا نقول تلك فرية كبرى. وحين قدمت لنا وقائع سياسية في بلدنا على أنها نكوص وعودة إلى الوراء، قلنا إن رؤية الواقع تحتاج لنظارات جيدة وليس لعواطف جياشة. كانت الجماهير وقودا في حروب حسابات ليست حساباتها، ومفعولا بها في لعبة هي أكبر من أن تسمح لها بأن تكون فاعلا فيها، قلنا إن «الربيع العربي» نسخة منقحة من «الفوضى الخلاقة» التي سبق ونظرت لها سوزان رايس في عهد جورج بوش الابن، وقلنا أيضا إن ما يقدم لنا على أنه ثورة شعبية تم طبخها في مراكز ومختبرات أمريكية ولحسابات أمريكية أوروبية. لم نفعل شيئا سوى أن تقاسمنا نفس الشكوك التي ساورت الجميع، ومنهم نبيل فهمي، سفير مصر السابق في الولاياتالمتحدةالأمريكية، الذي بدا مندهشا وهو يتساءل قائلا: «منذ 38 عاما لم يدخل أي وزير خارجية مصري منفردا إلى البيت الأبيض لمقابلة رئيس أمريكي، وكان آخر من فعل ذلك هو الوزير اسماعيل فهمي في زمن السادات»، مضيفا: «كنا نحاول أن نرتب زيارات لوزراء خارجية مصريين على التوالي لمقابلة الرؤساء الأمريكيين لكننا لم نتمكن من ذلك». وينقل الدكتوران إياد العبد الله وحمود حمود في مؤلفهما «أمريكا والإخوان: الحج إلى واشنطن» أن كلام نبيل فهمي جاء «في مقابلة مع المذيعة المصرية لميس الحديدي، التي واكبت اندهاشه، وهما يتساءلان، عن سر استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما للقيادي الإخواني البارز مساعد الرئيس للشؤون الخارجية عصام الحداد في البيت الأبيض، في شهر أكتوبر من 2012 واستقر رأي المتحاورين على القول إن زيارة كهذه إنما هي حدث لافت، له بالتأكيد دلالات معينة». ونقرأ في رسائل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، التي رفع عنها البيت الأبيض السرية هذه الأيام، أن هيلاري قامت بزيارة قناة الجزيرة في الدوحة في ماي 2010، واجتمعت مع مدير الشبكة وضاح خنفر. وفي لقاء آخر في نفس الشهر اجتمعت هيلاري مع أعضاء مجلس إدارة القناة وجرت مناقشة زيارة وفد من القناة إلى واشنطن من نفس العام، كما التقت برئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم آل ثاني. وأظهرت رسالة أخرى مطالبة هيلاري لقطر بتمويل ما يسمى بثورات الربيع العربي عبر صندوق مخصص لمؤسسة كلينتون. تؤكد هذه المعلومات ما ورد في مؤلف «أمريكا والإخوان» من أنه، وقبل لقاء باراك أوباما بالقيادي الإخواني عصام الحداد في خرق واضح للبروتوكول المتبع في استقبال وزراء الخارجية، «قام وفد إخواني بزيارة إلى كل مفاصل القوة والسيطرة في الولاياتالمتحدة، البيت الأبيض، الخارجية الأمريكية، الكونغرس، وزارة الدفاع، مقر المخابرات المركزية، بعض الصحف الأمريكية الذائعة الصيت (واشنطن بوست، نيويورك تايمز، هيرالد تريبون)، بعض المراكز البحثية المتخصصة مثل فريدوم هاوس، وكارنيجي. ذهبوا إلى كل هذه الأماكن وكانوا مرحبا بهم، وكانت رسالتهم واحدة للجميع وهي أن الإخوان لن يمسوا المصالح الأمريكية بسوء، بل «على العكس نحن منفتحون لتعظيم المصالح المشتركة». ما وقع هو تتويج لسلسلة من المراسلات بين الأمريكيين وتنظيم الإخوان المسلمين منذ سنة 2005 حين كتب خيرت الشاطر، القيادي الكبير في تنظيم الإخوان، مقالا في صحيفة الغارديان البريطانية الرائدة في سياق صعود الإخوان السياسي واكتساحهم البرلمان المصري. في المقال يؤكد الكاتب «بأننا نؤمن بالعملية السياسية والتشارك الديمقراطي في الحكم»، وكما يلاحظ ذلك إياد العبد الله وحمود حمود «لم يكن هذا في الحقيقة مقالا بل كان بمثابة رسالة إلى الغرب». عامان بعد ذلك، وفي غشت 2007 كشفت مجلة فورين بوليسي الأمريكية عن رسالة كانت موجهة بنحو مباشر إلى المرشد العام السابق للإخوان المسلمين في مصر، مهدي عاكف، وقد وقعت الرسالة بقلم مارك لينش، الأستاذ في قسم السياسة الدولية في كلية العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطنالأمريكية والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، وهو من صلات الوصل المهمة بين الإدارة الأمريكية وبين الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وقد تصدرت الصفحة التي خصصت للرسالة بهذه الكلمات: «إن لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية والإخوان المسلمين الكثير من القواسم المشتركة أكثر مما يعتقدون». في هذه القصة تفاصيل كثيرة ومملة، وما تفعله مراسلات هيلاري كلينتون التي تم الكشف عنها هو تأكيد ما سبق وتم استنتاجه، بل ودعمه بالوقائع والتفاصيل والمعلومات الديبلوماسية السرية. وفي خلاصته: كان الإخوان المسلمون سلاحا في يد أمريكا، استعملته لتحقيق بعض أغراضها، وحين انتهت أحرقت هذه الورقة وعاد دونالد ترامب إلى التفكير في إدراج جماعة الإخوان في لائحة المنظمات الإرهابية. ومنذ اللحظة التي نظمت فيها زيارات مماثلة لقادة حزب العدالة والتنمية المغربي إلى واشنطن ومؤسساتها، ثم منح سعد الدين العثماني جائزة المسلم الديمقراطي، كان واضحا أننا في المغرب لابد وأن نبلور عناصر جواب وطني على ما يجري طبخه في كواليس الآخرين خدمة لمصالحهم وليس لأوهام الدمقرطة وعدالة الشعوب. أريد أن أنتهي إلى ما يلي: من يريد قراءة لماذا تأسس حزب الأصالة والمعاصرة لا له ينبغي أن يقرأ القصة من لحظة خروج فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية لدخول المعترك الحزبي بل ومنذ تواريخ أمريكية بدأت في 2004 و2005. ومن يريد قراءة قصة تأسيس مجموعة الثمانية التي قادها البام بعد ذلك عليه قراءتها ليس من لحظة التحضير للانتخابات التشريعية التي كانت مبرمجة في 2012 بل من المواعيد الأولى لتاريخ طويل من تحضيرات الكواليس الدولية، بدا واضحا أن حزب العدالة والتنمية، من حيث يدري أو لا يدري، هو فيه عنصر من بين عناصر أخرى في لعبة جيوستراتيجية دولية كبرى. هكذا تقرأ الأحداث والوقائع السياسية بسياقاتها وخلفياتها، وليس بنوايا إخوانية تريد النصب على الناس بلغة جون جاك روسو ومونتيسكيو. ومن هذه الزواية لم يكن البام وليد خطيئة النشأة، بل كان جوابا وطنيا على خطيئة نشأة سياق دولي مليء بالغدر والتآمر.