أثناء تتبعي لبعض الأحداث الاجتماعية التي خلقت "البوز" مؤخرا، أثار انتباهي كمية العنف التي تكتنف و تغشى و تسيطر على كثير من الناس في مجتمعنا، و هي كمية عنف تتصاعد في أمكنة دون أخرى، و في أحياء دون أخرى، و في مدن دون أخرى، أي أن السلوك المدني و الراحة النفسية و استخدام العقل، أمور ليست موزعة بالتساوي في المجتمع المغربي، وهذا ليس شيئا جديدا، لكن تكاثر التعبير عن الاختلال النفسي و العقلي و تضاعف السلوكات الموتورة والتي تقدم على أنها دليل "صحة" دين، في الوقت الذي هي في الأصل "اعتلال" نفوس و "اضطراب" سلوك و "استقالة" عقل، جعلني أتسائل عن السر الحقيقي وراء هذا العنف.. الحقيقة أنني "استمتعت" ببعض التحليلات التي عزت "الظاهرة" الى غياب "روح المواطنة" أو نقص "التربية المدنية" أو ضمور مفهوم "الدولة الحديثة" أو تصاعد "التطرف الديني" أو افراغ "التعليم" و سيادة "الجهل".. الى غير ذلك من هذه المقاربات التي، ولا شك، لها نصيب من الصحة.. لكنني أرى أن الأمر، في العمق، له علاقة أساسا، و بكل بساطة، بقلة الاشباع الجنسي في هذا المجتمع الذي نعيش وسطه، و هو مجتمع يفرض عليه الخطاب الديني، بشكل متزايد، أن يقمع "حاجته" في الجنس، و هي كحاجة الانسان للهواء و الماء و الغذاء، ظنا من أصحابه بأنهم يصنعون بالناس "خيرا".. في دراسة علمية حديثة، أكد علماء يعيشون في دول تحترم حرية البحث العلمي كما تحترم حرية الابداع، أن العلاقات الجنسية تساعد على تخفيف الضغط عن الجسم، (وهو ماكان معروفا منذ زمن معتبر)، و تخفف بشكل كبير من حالات القلق والتوتر (و هي حالات تتصاعد في المجتمع المغربي) وأنه في حال توقف الانسان عن ممارسة الجنس ولو لفترة من الوقت، فذلك يؤثر سلبا عليه، فينتابه شعور بالقلق الدائم (حالة كثير من مواطنينا)، لا سيما وأن العلاقة الجنسية المنتظمة، تريح الأعصاب وتخلّص من التوتّر، حيث يفرز الدماغ الأندورفين والأوكسيتوسي خلال العلاقة الجنسية الحميمة، ما يدفع إلى الارتخاء.. هذا ما يقوله العلم، لكن المشكلة أن الخطاب الديني الطاغي يتصور شيئا آخر، الخطاب الديني الذي "ينصح" ب"تصريف" الغريزة في "الحلال"، مازال يتصور بكل سذاجة الكون، أن المجتمع المغربي في القرن الواحد و العشرين، وفي عز العولمة و التأثر بالصور و أنماط العيش الأوروبية و الأمريكية، و في قمة التدفق المعلوماتي عن طريق الفضائيات و صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنيت، هو نفسه مجتمع الجزيرة العربية حيث الخيام و القبيلة و الخيل و الناقة و الجمل و السيف.. هناك مشكل يعاني منه مكون لا بأس به من هذا الشعب، ملخصه أن الخطاب الديني ينصحه صادقا، و لكن أيضا عاجزا، بأن يصبر على طاقته الجنسية الجبارة، في الوقت الذي أصبح فيه كل ما يحيط به في الداخل و الخارج، محليا و دوليا، يعتبر أن تصريف هذه الطاقة الجنسية اذا لم يتم في "وقته"، سيجعل هذا المكون من المجتمع اما عنيفا أو منحرفا أكثر فأكثر.. ذلك أن عدم تصريف الطاقة الجنسية في وقتها، و استمرار هذا الحرمان لسنوات بل لعقود وربما طيلة الحياة، يجعل الناس في حالة غضب دائم، و في حالة توتر أبدي، و في حالة عنف ينفجر في كل لحظة و حين، حتى لو حاول اخفاء "نفسه" بغطاء ديني ينزع للخلاص.. السينما المغربية يمكن أن تعالج هذه الحالات من هذا المنظور النفسي و الجنسي و بكثير من العمق، عوض السطحية و الرداءة التي تريد أن تقنع المغاربة بأنها هي "القيمة الفضلى" مادامت لا تتطرق للجنس في الأفلام، فيصبح مجرد غياب القبل و الأحضان في فيلم ما، علامة على "جودته"، مهما كان رديئا و مفككا و هشا في بناءه الدرامي.. لكن السينما المغربية لكي تتطرق لهذه المواضيع بمختلف المقاربات الجريئة، و جب عليها أن تتجنب ما حصل للسينما المصرية طيلة الثلاثين سنة الماضية على الأقل، من استحواذ الفكر المتزمت و المتخلف على طبيعتها كما عرفت بها الى حدود الثمانينات من القرن الماضي.. كانت هناك في المغرب رغبة في جر المخرجين و الجمهور لتبني المقاربة السخيفة لما سمي أولا في مصر دون غيرها ب"السينما النظيفة"، و هو مصطلح و مفهوم غير موجود في أكاديميات و أدبيات السينما العالمية تاريخيا، هذه المحاولة لم تنتبه الى أن وصول مصر الى هذا الحضيض الفكري الذي جعلها "تنجب" من يخترع هذه الفرية، لم يكن بفعل صدفة، أو جراء "ترف" فكري بعد "تخمة" الخمسينات و الستينات و السبعينات، لا.. الردة الفكرية بدأت عندما نجح تحالف التيارين الاخواني و الوهابي، كل من جهته في استبدال طبيعة الشعب المصري و تغيير وجهته من الريادة الفكرية و الفنية الى مستنقع التزمت و الرجعية و التطرف.. في نهاية الثمانينيات و بداية التسعينات، و بعد أن سقط المجتمع المصري بين مخالب التفقير و التجهيل من جهة و بين القصف الايديولوجي الاخواني و الوهابي من جهة أخرى، و نظرا لرسوخ الصناعة السينمائية، استبدل التيار الديني استراتيجيته من احراق دور العرض و محلات الكاسيت فيديو، الى محاولة تخريب السينما كابداع من الداخل، فوجد تخريجة "السينما النظيفة"، و هي سينما قبيحة فنيا، أي سينما خواء و ضعف فكري، لكنها كانت تلبي مطالب قطاع واسع من الرأي العام المصري الذي تم غسل دماغه على مدى عقود.. المجتمع المصري لم يكن عنيفا، و الى حدود الستينات، كان يرى القبل و الأحضان و الرقص في أفلامه دون أن تثير فيه ردة فعل البدوي المكبوت، لكن هذا المجتمع تغيرت أجياله فأصبح يرفض القبل في الأفلام، ثم يبحث عنها في "اليوتوب"، هذا الكبت المتزايد الذي ساهم فيه التيار الديني و انعكاسه السينمائي التافه، أنتج مجتمعا عنيفا جدا، و للمفارقة، فالمجتمع الذي ينتفض بسبب قبلة على الشاشة الكبيرة، هو نفس المجتمع الذي يتحرش بجميع نسائه في الشارع، محجباته و منقباته، مسلماته و مسيحياته.. المجتمع المصري في الأربعينات و الخمسينات و الستينات و السبعينات، كانت المرأة فيه موقرة حتى و لو لبست تنورة قصيرة في الشاشة كما في الشارع، لكنه عندما وصلته لوثة التدين الكاذب أصبح لا يوقر أنثى في الشارع، لبست أو لم تلبس، و الفضل للسينما "النظيفة".. هذه السينما "النظيفة" كانت في الواقع تعتمد على أفلام الكوميديا المليئة ب"الايفيهات" الجنسية المتوارية، أو على أفلام "الأكشن" حيث البطل الذكر في الواجهة، مع "تمثيل" للجنس اللطيف في مساحات ضيقة للغاية، ولما لا مشهد لعملية اغتصاب تكون فيها البطلة "مفعول بها غصبا"، تعويضا لمشهد الحضن و القبلة التي تظهر فيه البطلة "فاعلة و صاحبة قرار".. سينما "الأكشن" المصرية في الحقيقة، و دون أن تدري و ترغب، صورت "البلطجة و الدم"، و أرخت لتنام العنف و الكبت في المجتمع المصري، نتيجة التدين الذي فرض "السينما النظيفة"، للمفارقة الرهيبة و غير اللطيفة.. الواقع أن هذا التدين في مصر، عوض أن يصنع مواطنا سويا، "فرخ" كتلة بشر عنيفة و موتورة و مكبوته، و ما نشاهده في المجتمع المغربي من تنامي نفس هذا الصنف من التدين الذي يرعى الكبت عند المواطن ويراكم لديه فوبيا الجنس و فوبيا المرأة و فوبيا الجسد، و يحولها الى هذا الكم المرعب من العنف في الشارع، يعني أننا في طريقنا "السريع" و غير الآمن نحو النموذج المجتمعي المصري السئ، و الذي يؤلم كل من يعشق أرض الكنانة و شعبها.. يجب أن نتجنب هذا المصير المظلم، بمقاومة هذه "المدرسة" في التدين التي تنتج لنا الكبت و العنف، و أن نمنعها من "التسرب" أكثر الى بلادنا، تماما مثل مقاومتنا لتلك السينما "النظيفة" الفاشلة و البليدة و الفارغة، و التي لن تنتج لنا الا مواطنا يرتعد كلما شاهد خصرا، و يستشيط غضبا كلما شاهد قواما ممشوقا، و ينفجر فينا في الختام، كلما أراد لقاء الحور العين هناك، بعد أن نعيش معه "فيلم رعب" حقيقي.. ليس فيه أي "نظافة" على الاطلاق..