بعض مستويات القراءة في افتتاحية العدد الأخير من مجلة دفاتر سينمائية (يناير 2014) يدرج الناقد السينمائي الفرنسي، ومدير تحرير مجلة غودارد وتروفو، ستيفان ديلورم الإستفهام التالي: "ما هو الانجاز الفيلمي الكبير؟" ويجيب: "ليس بالضرورة هذه الرائعة السينمائية؛ ولا يشترط أن يكون أحسن فيلم مقارنة مع أعمال سينمائية أخرى". لا يسعفني وأنا أتأمل في هذا الإستفهام البليغ أن لا أستحضر فيلم "وجدة" للسعودية هيفاء المنصور. ستيفان ديلورم، الذي كتب عن فيلم مقتل بن لادن ولم يكتب ولو سطرا عن أول فيلم سعودي مطول، وضع المعادلة المناسبة لتقييمه بعيدا عن اعتبارات البداية و انعدام التراكم في التجربة الفيلمية، أو غياب البينة التحتية للسينما في بلد عربي يضرب به المثل في انتهاك حقوق الإنسان. فكل هذا الحشو الذي يجهز رؤية الفيلم ويؤثت لمشاهدته بفكر ونظرة "غطس" مسبقة ، سرعان ما يتهافت بمجرد الإحساس بهذا التماهي الصادق الذي يخلقه أداء طفلة تؤدي دورا من الصعب عزل الشخصية فيه من الشخص. أو في لمسات كاميرا تمسح مواضيعها من بعيد كأنطونيوني ومن قريب كأوزو. "وجدة" إنجاز فيلمي كبير بمقاييس الناقد الفرنسي الذي ربما لم ينتبه له. كبير كذلك لأنه ببساطة من هذه النوعية من السينما التي يحسب المشاهد أنه تركها وهو في حالة المفاجأة ليكتشف أنها تمكث فيه في حالة السؤال. مفاجأة التجربة وسؤال النقد هو موضوع هذه المقالة. في فيلم "وجدة" لقي فيلم "وجدة" للمخرجة السعودية هيفاء المنصور اهتماما في القاعات الغربية قلما حظي به فيلم عربي من قبله. أسباب هذا الاهتمام هو هذا الفضول المعرفي الذي يتجاذب أطرافه جنس المخرجة من جهة، وجنسيتها من جهة ثانية، ونتيجة التداخل الجدلي بينهما، والذي ضرورة ينم عن رؤيتها وطريقة عملها في الإبداعي السينمائي، داخل بيئة تحتجب عن الصورة كما تحجب المرأة عن الظهور. "وجدة" هو هذا الفيلم العتبة الذي اقتحمت به السينما أفاق واقع ضربت عليه القوانين حمائية أمام الكاميرا الخيالية والتسجيلية. عبر هذا الفيلم المطول يمكن أن نقول بأن المخيال السينمائي تسرب فعليا إلى مجتمع تميزت ثقافته بهذه العلاقة الفصامية مع الصورة. مجتمع يستهلك بنهم سينمات تعرض صورة الآخر، في الوقت الذي تغيب فيه صورته الذاتية عن السينما. مجتمع له إمكانيات تساهم في إنتاج صورة الآخر، ويحكّم معيارية أخرى مخالفة تماما حالة إنتاج الصورة عن ذاته. هذه الحالة الفصامية تجاه الصورة نجدها تتجلى كذلك على مستوى حضور السعودي في صورة الآخر، وبالأخص هذا الآخر الذي يملك سلطة تصوير غيره بالمعنى الحرفي، بتمكله أدوات النقل والعرض؛ والمعنى المجازي في تحكمه في طريقة تشكيل صيغة في إدراك هذا الغير وفهمه. تخترق صورة الآخر السعودي كفعل وحالة عرض يحضر فيها هذا الأخير كنمط ويغيب فيها كفرد، داخل مجتمع له همومه وطموحاته، وطريقته الخاصة في التعامل مع معطيات وضعه ووضعيته. صورة الآخر تختزله في تنميطات هذا الإنسان الحديث النعمة، المستهلك والسطحي في تفكيره من جهة، وهذا المتعصب الرجعي والمكبوت شبقيا من جهة أخرى. أما المرأة السعودية، المؤشر الأول في لائحة هذه التنميطات، فلا ظهور لها في الصورة المؤسسة من الآخر، اللهم في كناية الثوب الذي يحنطها ويعلن موتها الرمزي في وضعية فرد ثانوي في ذيل المجتمع، مسلوب هذه الإرادة المركزة والمختزلة في رغبة مراهقة في سياقة السيارة. من هذا المنطلق الإشكالي المرتبط بالأيقنولوجيا العامة، يحظى فيلم "وجدة"، بمكانة متميزة في السينما الجهوية والعالمية. فهو من منظار هذا البعد التسجيلي الأنتروبولوجي، المقترن بالسينما الجادة والجيدة، أي من داخل هذا التقليد السينمائي الذي رسخه جون روش، وروسيليني وكريس ماركر، فيلم سينمائي يقوض هياكل هذه التنميطات مقترحا صورة الواقع ومعتمدا إجراء الواقعية. نصية "وجدة" تلعب على حبل المتعة السينمائية والدرس المعرفي حين تفكك الخطاب السلطوي الذي تفرز عنه البنى النفسية والإجتماعية والسياسية التي ترسم ملامح الأطراف اللاعبة داخل هذا الواقع. وفي نفس الوقت، تسلط الضوء، تقريرا ومجازا، على هذه الجيوب الخفية في فضاء هذا الواقع التي تحتجب عبر صور الأبراج الزجاجية والطرق السيّارة. أي نظرة لفيلم "وجدة" تغفل هذا البعد تعتبر قاصرة يحيطها الغبش في نظرنا. "وجدة" قصة فيلمية بامتياز، مبنية على سيناريو أدبي وتقني متوازن في عناصره الوسائطية من صورة وصوت. هيكل هذه القصة السردي واضح الملامح في بنى الفاعلين داخله، شخصياته تتقاسم الأدوار داخل خصوصيتها المسرحية والسينمائية: منها من هو فاعل محرك رئيسي لأطراف القصة، كما البطلة وجدة؛ منها الفاعل الثانوي إما المؤيد كالأم، أوالمعارض كمديرة المدرسة. من هذه الشخصيات من ينتمي للنسق الأيديولوجي لعوالم المؤلفة فيظهر إما كفوتوغرافيا تابثة تحيل على منظومة فكرية تدخل رمزيا في معادلة توصل الذات للموضوع، كعم صديق وجدة الطفل عبدالله، أو حاضرة على مستوى الفكرة وغائبة على مستوى الصورة والصوت كشخصية الجدة بكل التمثلات التي تحوي داخل بنية اجتياف القهر الذكوري في المجتمع العشائري البطريقي. يعرض "وجدة" قصة فتاة ترغب في اقتناء دراجة هوائية. بهذه الحبكة السينمائية التي تجمع "Machuca" ب "ET" نغوص في تفاصيل صراع فتاة سعودية مع واقع تكبلها نظمه وأعرافه من كل ناحية، سبيلها في التخلص من ربقته هو امتلاك دراجة تخترق من خلالها فضاء الحرية، الذي هو فضاء ذكوري بامتياز. من خلال هذا العرض السينمائي نعبر مع المخرجة إلى هذه الجوانب الإنسانية المغيبة إعلاميا في طرح القضية الحقوقية الأولى للمرأة السعودية، المرتبطة بحق السياقة، ونعيش تجربة التعسفات اللفظية للسائق المأجور، وضغط زمن الإنتظار لنخلص إلى مشروعية هذه القضية، بعيدا عن جدل الشرع والشرعنة الذي أصبح مجرد ورقة في المساومة السياسية. في نفس الآن يسوق فيلم "وجدة" عبر هذا العرض أليغورية عن النظام العشائري بأسلوبه البطريقي، ودعائمه الدينية والعرفية. تستجلي هيفاء المنصور بدقة ودقائق المخرج المؤلف الآلات والآليات التلقينية المستعملة في تصريف النظام العشائري هذا داخل الذهنية النسوية، حافرة في السلوكات الإجتيافية التي تضمن استمراريته وتطبيعه كبنية فكرية وتفكيرية. "وجدة" هي قصة صراع حول الحق في مكان هُندست أطرافه على مقاسات ذكورية. تصريف هذه القصة من منظار طفولي يؤطر حدود وأبعاد هذا الصراع في واقعية وبرغماتية المشاركة، وهو ما تمرره هيفاء المنصور عبر سينما تقدمية تقنع أكثر مما تواجه. رغبة ' وجدة ' في اقتناء الدراجة هي بدأ ومبدأ رغبة في تحقيق وجودها في العالم الخارجي واقتسامه مع صديقها عبدالله. فيلم "وجدة" هو التدقيق في تفاصيل هذا الفضاء البيني باصطلاح هيبيرماس الذي لن يكتمل إلا بشرط المشاركة والحضور المشترك. تستند هيفاء المنصور على مرجعية سينمائية تخدم معالجتها في الرؤية والإجراء، كما مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية والتيارات السينمائية التي لحقتها في نفس الإتجاه، كالموجة البريطانية الجديدة، وتنويعاتها الأسلوبية المستحدثة مع نماذج أوروبية كالبلجيكيين الأخوين جون بيير و ليك دردين، والإنجليزية أندريا آرنولد. تركيز المخرجة على عالم الطفولة كمجال لا نهائي من الإمكانيات نحو التغيير والتطلع يجعل فيلم "وجدة" يتحاور كذلك مع بعض التجارب من السينما العالمية الثالثة، كتجربة "ماتشوكا" للشيلي أندريس وود، والذي كان بطله طفلا يستعمل دراجته كألية للعبور الطبقي في فضاء سنتياغو أثناء الفترة الإنقلابية. كما تتقاطع تجربة المخرجة من خلال طرحها النسوي التقدمي مع تجارب سينمائية نسوية من محيطها السوسيوثقافي، كتجربة التونسية مفيدة الطلاطلي، من خلال فيلم صمت القصور الذي يلامس هو الآخر الوضع الاستغلالي للمرأة في واقع البايات الطبقي. كما تتقاطع تجربة هيفاء المنصور، من خلال تفكيكها لتبعات الخطاب الأصولي الوهابي، مع تجربة المغربية فريدة بنليازيد في باب السماء مفتوح الذي يقدم عرضا تفكيكيا لخطاب الإسلام الصوفي. كل من التجربتين تقترحان نظرة متمحصة لكيفية تأسيس وتفعيل الخطاب الديني الإسلامي على مستوى العرف والنظام الإجتماعي، ومستويات تسرب هذا الخطاب إلى سيكولوجية الفرد الأنثوي. تمنح رؤية "وجدة" و"باب السما مفتوح"، على ضوء المقارنة، قراءة جدلية لجوانب النظرة والإجراء المتعلقة بالإسلام الصوفي من جهة والإسلام اللاهوتي من جهة أخرى. إحاطة هذه المقارنة بالدرس أكيد ستستجلي خصوصيات في الطرح والمعالجة السينمائية تتميز بها السينما النسوية العربية، وتتخطى نتائجها السينما إلى مباحث معرفية أخرى. يمنح فيلم "وجدة" كذلك مجال مقارنات استنتاجية جدلية مع التجارب النسوية في السينمائية الإيرانية، خصوصا إذا أخذنا بعين الإعتبار التقارب بين المحيطين الثقافيين للمملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية، وسيطرة الخطاب الديني في أجهزة الحكامة والتدبير في كليهما. من مجهر التجربة الإيرانية يبرز فيلم "وجدة" كمعادل انعكاسي في الطرح والرؤية. فهو الآخر يلامس قضايا اجتماعية ناتجة عن تأويل دوغمائي لخطاب الإسلام، وإن تحسب على هيفاء المنصورطريقة معالجة سينماتوغرافية أكثر جرأة ومصداقية في واقعيتها كظهور الشخصيات النسوية بدون حجاب داخل منازلهن ووسط أسرهن. هذه العقبة الميتاسينمائية لم تتجاوزها لحد الآن السينما الإيرانية، والتي أصبح فيها الحجاب مؤشرا فوقيا، يوازي خطاب السينما في خطيته، يحيل على جهاز الرقابة الداخلية والخارجية. تمتلك أبجدية المؤشرات الدلالية في الكتابة السينمائية كملابس الشخصيات في سينما الأقطار الإسلامية أليغورية من نوع خاص. من داخل هذه الخصوصية نقف مع "وجدة" على تنويعة تجريبية جديدة في التعامل مع مؤشر الحجاب، خصوصا إن نظرنا إليها من خلال تجربة السينما الإيرانية، أو من خلال تجربة عربية متميزة أخرى كتجربة اللبنانية ندين لبكي في فيلمها و"هلا وين". داخل هذه الشبكة من العلائق المرجعية يتصادى فيلم وجدة مع العديد من التجارب السينمائية الإقليمية والعالمية في تأسيس خطابه السينماتوغرافي وبناء نصيته وتناصاته الفيلمية. فنجد المخرجة تستند في تصميم فضاء الفيلم الخارجي على مرجعية سينما الواقعية الجديدة الإيطالية، وهو ما يبدو جليا في اختيار اللقطات الوصفية البعيدة والبعيدة جدا، الثابتة منها و البانورامية، والتصوير من زوايا عالية، مع الإحتفاظ بالإنارة الطبيعية ما أمكن. من خلال هذه السينماتوغرافيا يظهر هامش من مدينة الرياض، كحيز تقتسمه الحضارة والطبيعة، لتبدو فيه التجزيئات السكنية وبنياتها التحتية مجال غزو للزوابع الرملية مذكرة بماضي المنطقة الطبيعي، ومسطرة على استمرار هذا الماضي في مظاهر المدنية الحديثة. كما فضاء ما بعد الحربين في فيلموغرافية أنطونيوني وروسيليني يمنح فضاء هامش الرياض الخارجي تعبيرية تشكيلية عن الخلفية العقلية التي تؤطر حركة الشخصيات داخل القصة. عقلية يتعايش فيها الماضي مع الحاضر دون قطيعة. رؤية المخرجة المشبعة بالمدرسة الواقعية تتجلى كذلك في زعزعة هذه الصورة النمطية عن المدن الخليجية، حين تلقي بالمشاهد مباشرة في هامش مدينة الرياض، حيث مظاهر الفقر بادية في مساكن العمالة الأجنبية، وآثار الارتجالية بارزة على مستوى التمدن من خلال أوراش البناء غير المكتملة، والتي تتسم بالعشوائية وعدم التنسيق. يتجاوز هذا الفضاء مهمته كمجال تتحرك داخله البطلة وجدة، ليعبر عن "قطعة من الحياة لا تظهر إلا في السينما "، بتعبير رائد المدرسة الواقعية الجديدة روبيرتو روسيليني. شخصية البطلة وجدة هي الأخرى تتأسس على المرجعية السينمائية المتميزة للأخوين دردين البلجيكيين. نجد في وجدة هذا المعادل الذي تزدوج فيه شخصتي ' سيريل Cyril' من فيلم الطفل ذو الدراجة و' روزيتا Rosetta ' من الفيلم بذات العنوان. شخصية وجدة هي الأخرى تبني ملامحها السيكولوجية من خلال سالب الحرمان الذي يعوضه موجب الفكرة العنادية الثابتة idée fixe. في هذه الخلفية السيكولوجية، تلتقي ' وجدة ' مع ' روزيتا ' كشخصيتين تتحركان بدافع رغبة قوية، تجد تصريفها في سلوك تمردي، رافض لوضع قهري وقصري خارج عن الإرادة. وحدها الفكرة الثابتة في تخطي هذا الوضع تملي اتجاه هذا السلوك في تصرفات لا تخضع لأي معيارية أخلاقية أو قانونية. وشاية روزيتا بصديقها الوحيد لمستخدمه لكي تحصل على عمل، يعادله مجازفة وجدة بضرب تعاليم الأم بعرض الحائط لكي تتمرن على سياقة الدراجة فوق سطح البيت. وضع سيريل هو الآخر أمام الرفض الأبوي الفعلي ينسحب على ' وجدة ' أمام الرفض الأبوي الرمزي. مثل سيريل تلح وجدة على علاقة الإنتماء العشائرية مع والدها. لكن هذا الأخير يرد على هذا الإلحاح بالرفض الرمزي، حين يٌسقط ورقة كتبت عليها إسمها وألصقتها بشجرة العائلة، في إستعارة سينمائية بليغة تجمع بين وضع وجدة "الهش" ووضع الأم التي تحال إلى التقاعد الزوجي في "خريف" عمرها، في سبيل زواج ثاني الغرض منه هو إنجاب ذكر يتعضض به "عود" الأب. طبيعة المضمون الفيلمي في "وجدة" وإملاآت الشروط الإنتاجية، التلفزية بطاقمها وآلياتها التقنية والإخراجية، جعلت من الفيلم هذا الفيديو الواقعي الذي يعتمد كتابة سينمائية كلاسيكية بالمفهوم الذي تتداوله النظرية والنقد. ونعني هذا الأسلوب الذي وُرث عن سينما الأربعينات الأمريكية ولازال لحد ما قيد التطبيق في الإخراج التلفزي. وهو اختيار أسلوبي منسجم مع الطرح العام للفيلم وطريقة معالجته المباشرة لتيماته الرئيسية. تماشيا مع هذا الأسلوب نجد اختيارات هيفاء المنصور محايدة، ومتجانسة، تتميز بالترابط والتوازن على مستوى التوليفات البصرية والصوتية. على مستوى التصاميم، تطغى اللقطات الشاملة وتهيمن اللقطات الكاملة مما يسهل إمكانية التركيزعلى الأمور الرئيسية وتبيان ترابطها مع الأمور الثانوية. صور "وجدة" ممركزة على مواضيعها الرئيسية، متجانسة في الأحجام على مستوى الرؤية eyeline match، وترابطاتها raccords محكومة بمنطق التعاقبية على مستوى الحركة eyeline action. بهذه الطريقة تولي المخرجة الأهمية لما يضمن ويدعم فكرة الخطية والاستمرارية على مستوى العرض، و يسهل التواصل من خلاله على المستوى اللغوي السينماتوغرافي. فيلم "وجدة" فيلم أطروحة بامتياز، ما يجعل المخرجة تراهن وتتوفق في اختيار أسلوبي يمرر الفكرة دون أن يلفت الإنتباه إلى الكتابة في بعدها الشكلي والتشكيلي. رشاقة صورة "وجدة" تبدو كذلك على مستوى الاستعارات الفيلمية التي نسجتها المخرجة في قماشة تربط عوالم الفيلم بعوالم السينما في انعكاسية توقظ المشاهد دون أن تصدمه. نذكر في هذا الصدد لقطة الدراجة العابرة فوق سطح السيارة التي ترمي بالمشاهد في عوالم الطفولة والحلم عبر قرينة سينمائية بامتياز هي ET لستيفن سبيلبيرغ. أو اللقطة التي تهدي فيها الأم الدراجة لوجدة على سطح البيت عبر استعمال الإنارة حيث تلتقي الرمزية النصية للدراجة مع الرمزية الثقافية للسينما كوسيلتين للانعتاق الفعلي من الوضع القهري للمرأة السعودية. بساطة "وجدة" الأسلوبية كما عبر أحد النقاد هي مكمن قوته في التواصل وتمرير رسالته. لكن هذه البساطة في صياغة الرسالة الفيلمية والوضوح في إيصالها ينطويان على تحديات حجمها من حجم صعوبة تشكيل الخطاب المؤثث لها. خطاب فيلم "وجدة" يتوجه لمتلقي محلي قنوات التواصل معه محكومة بالمركزية اللفظية من جهة، وبالتسويغ الديني الشرعي من جهة أخرى. لذلك كان الرهان على كلمة حوارية وسيناريو أدبي كلامي لحد ما حين يوظف مرافعات إقناعية مبنية على التأويل والحجة والشرعنة، وهو ما نلاحظه في المواقف الحوارية كالتي تدور بين مديرة المدرسة والطالبات. كما يشكل هذا الخطاب الخلفية المسوغة في الحوارات المرتبطة بالعرف والتقاليد كالتي تدور بين الأم ووجدة. لا تخفي هيفاء المنصور استراتيجيتها من وراء توظيف الخطاب الديني في فيلمها "وجدة". وهي استراتيجية تنطلق من قناعة أن هذا الخطاب هو الوحيد الذي يحتكر إنتاج وتوليد المعنى على المستوى المحلي، وفقط من خلاله يمكن كذلك تسويغ وتأسيس رؤية جديدة أكثر تحررية وتقدمية فيما يخص قضية الفيلم الحقوقية، وكذلك منح فرصة لإعادة النظر في تقييم الأنماط الإجتماعية الناتجة عن النظم العشائرية. في هذا الصدد، وعلى عكس العديد من الأفلام العربية، أو الأفلام المنتجة في الأقطار الإسلامية، لم يسقط فيلم "وجدة" في مانوية إما أو فيما يتعلق بالخطاب الديني. شخصيات الفيلم الأنثوية تتمتع بقسط وفير من التطلع الحداثي، والذي ليس له من مرادف في السياق إلا التمثل بالنمط الغربي شكلا وطموحا؛ لكنها في نفس الآن تحافظ على جوهرها الثقافي الذي يجد أرضيته في الشريعة الإسلامية. كل الشخصيات الأنثوية في الفيلم تتحرك بما يقتضيه التأويل الديني في اتجاه يضمن نوعا من الحرية وإن كانت مشروطة. في الوقت الذي صورت العديد من الأفلام العربية الدين كحيز للقطبية بين مكرس لهذا الخطاب وضحية له، حافظت هيفاء المنصور للطرح الديني بتموجه السياقي ليتمثل كنسق معرفي وتشريعي مع شخصية المديرة، وكمجال جمالي مع الأم، يتمظهر في الطريقة التي لقنت فيها ' وجدة ' كيف تجود القرآن بوصفة ذاتية هي أقرب للغناء منها لقواعد التجويد الصارمة. مرونة التعامل مع الدين تظهر أيضا في طريقة توظيفه البرغماتي، فبطلة الفيلم ' وجدة ' تدخل مبارة التجويد بغرض ربح القيمة المالية ليتأتى لها تحقيق أمنيتها في اقتناء الدراجة. وعلى نفس خطية التأويل البرغماتي للدين، تحسب لهيفاء المنصور هذه الجرأة في إزاحة الستار عن تداعبات الإنتماء العقائدي في التوظيف المغرض للقضية الفلسطينية، والذي أدمنت عليه الأنظمة العربية لتعتيم وتشتيت الإنتباه عن قضايا ذات أولوية محلية. فقط حين صرحت ' وجدة ' عن نيتها في استعمال قيمة الجائزة المالية لاقتناء درّاجة، تقترح مديرة المدرسة فكرة التبرع بالجائزة ليتامى فلسطين. من خلال فيلم الطرح في المضمون وطريقة المعالجة في الشكل، يمكن أن نستشرف في فيلم "وجدة" بداية عبور الموجة البريطانية واتجاهاتها الحديثة في السينما الأوروبية أسلوبا وطرحا إلى السينما العربية. شفافية الصورة التي تتميز بها هذه الموجة، شخصياتها المركبة كشخصية ميا في "صهريج السمك" لأندريا آرنولد أو روزيتا في "روزيتا"، ترفع الحجاب عن واقع أوروبا المعولمة التي بدأ ينخرها الفقر الثاليثي. وهو واقع شبيه بواقع السعودية الذي عاينا إحدى تجلياته في "وجدة". كما عبرت الواقعية الجديدة مع يوسف شاهين، ومدرسة سينما الجوع البرازيلية مع المغربي محمد الركاب، تعبر تنويعة الواقعية البريطانية الجديدة للسينما العربية، وبكل استحقاق، مع هيفاء المنصور. في هذا السياق يشكل "وجدة" إضافة مهمة للسينما العربية. كما يبقى إضافة نوعية لأدبيات تشاركه في الرؤية والطرح تنتمي لنفس البيئة كسردية عبدالرحمان منيف، والمقالات الصحفية الثاقبة للكاتبة مضاوي الرشيد. في نقد "وجدة" نصية فيلم "وجدة" مركبة من عناصر متنوعة يتداخل فيها الثقافي بالسينمائي، والسينماتوغرافي بالفيلمي، ما يجعل منه متنا يقترح قراءات عدة. تمتح المقاربة النقدية السيميائية من الفيلم ما يخدم رؤيتها، كما تمتح منه المقاربة السيمانطيقية ما تجد فيه مبررات لموضوعاتها. وكما هو هذا الفيلم نظرة جديدة في تاريخ السينما البصري، يشكل كذلك مناسبة لإعادة النظر في شيء آخر مقترن بتاريخ السينما وهو النقد. خصوصا حين يكون موضوع هذا النقد: الفيلم العربي. في الغالب الأعم، تشكل مقاربة عمل سينمائي عربي في الغرب المجال الأمثل لمعاينة النقد الذي يعتمد المعيارية المزدوجة. ففي الوقت الذي نجد فيه الكتابة النقدية، كانت تعريفية أو تحليلية، تتوجه إلى المخرج الفرنسي ليو كاراكس أو الامريكي توماس أنديرسون تنطلق من خلفية سينمائية، لا نجد في التعامل مع الفيلم العربي، إلا خلفية واحدة وهي المادة الإعلامية بواجهاتها التنميطية وركائزها الجيوسياسية. فيلم "وجدة"، شأنه شأن العديد من الأفلام العربية التي أتيحت لها فرصة الضوء والشاشة في الغرب، كان موضوعا للنقد المغرض، ولمقاربة تعتمد المعيارية المزدوجة. نذكر في هذا الصدد الحوار الذي أجرته مجلة Cineaste الأمريكية مع هيفاء المنصور، وامتد في أربع صفحات تمحور فيها الكلام حول وضع المرأة في المملكة العربية السعودية وتبعات هذا الوضع من مواضيع كحق سياقة الدراجة والاختلاط. في هذا الحوار، الذي يمكن أن ينسحب في طرحه على كتابة مضاوي الرشيد أو أي مثقف تقدمي من المملكة العربية السعودية، اقتصرت الناقدة ماريا غارسيا، على أربعة أسطر لتسأل المخرجة عن الأفلام التي شاهدتها ومدى تأثرها بالسينما الإيرانية وكأنها السينما الوحيدة التي تشكل النموذج أمام هيفاء المنصور. هذه الناقدة التي أبانت عن كفاءة عالية وتمرس بالثقافة السينمائية في حوار أجرته، في العدد اللاحق من نفس المجلة، مع دانتي فيريتي وفرانتشيسكا لوسكيافيو، حول السنماتوغرافيا والصورة الرقمية، تناولت كذلك تجربة "وجدة" في ورقة نقدية لم تتجاوز السطحية السينيفيلية. في هذه المقالة عرّفت الناقدة بالفيلم ومشروعه، وأشارت إلى الكثير من خصوصياته الشكل والمضمون مما سلط الضوء على الكثير من جوانبه الجمالية والتعبيرية لكن دون التمحص والتدقيق في المعلومات. وهو ما أدى إلى نوع من الخلط على مستوى المفاهيم كاعتبار الوهابية نظاما قبليا، أو إحالة الجملة السناريستية، التي تقول إن "صوت المرأة عورة"، على آية قرآنية. خلط من هذا النوع من شأنه الإنزياح بالدلالية الفيلمية إلى اتجاهات استقرائية تنسجم مع الخطاب الإعلامي المعتاد والمستأنس به فيما يخص المضمون السوسيوسياسي للفيلم، كان هذا الإنزياح أم لم يكن داخلا في اعتبار الدلالية العامة للفيلم. فاستعمال كلمة "مدرسة" باللفظ الإنجليزي "madrassa" يمكن أن يذهب بإدراك قارئ المقال النقدي، هذا المشاهد المفترض والمنتظر للفيلم، إلى باكستان والطالبان، وبالتالي فهمه لمؤسسة تعليمية عادية كمركز تأهيل تابع للقاعدة. مقاربة الناقدة المتهافتة تتجلى أخيرا في اختصارها المسافة نحو تراجيدية المادة الدسمة التي يقدمها الفيلم لتختلق دراما حاضرة وجاهزة كانعدام البنية التحتية للسينما في المملكة العربية السعودية. ما أكدته مقالاتها السابقة واللاحقة عن مقال وجدة هو علمها ووعيها التام بتداخل التكنولوجيا المعلوماتية مع الصناعة السينمائية بشكل لم يؤثرعلى جانب الإنتاج فقط، وإنما لحق كذلك الجانب الإستهلاكي للصورة السينمائية. لقد تجاوزت السينما القاعة لتخترق الشاشات البديلة عبر الحاسوب والهاتف النقال. وهو ما يجعل تأسف الناقدة للجمهور السعودي، الذي لن تتاح له فرصة مشاهدة فيلم "وجدة" لانعدام قاعات العرض في المملكة، نوعا من المفارقة الحشوية الغرض منها تضخيم مأساة لم يعد لها من مبرر. نفس السطحية والابتذال نلاحظها كذلك في اللهجة الطفولية التي تناولت بها المجلة الأيقونة الفرنسيةCahiers du Cinema فيلم "وجدة". هذه المجلة، وأقصد دفاتر سينمائية ما بعد التسعينات التي ليست سوى نسخة راقية من مجلة بروميير الدعائية، لم تشد عن قاعدة التنميط حين قدمت مادة حوارية مع المخرجة تدور حول ظروف التمويل والعمل في إنتاج الفيلم، ومقدمة نقدية تنوه بشجاعة المخرجة، وبأسلوبها البسيط في تقديم قصة تمرد وطموح. كل ذلك بلغة تلوك مفردات وصيغ تنتمي لقاموس الحداثة في نسخته الغربية لا ترى في الطفلة "وجدة" إلا تمثيلا نيابيا عن ضمير الغرب الحداثي وهو يتسلل عبر المخرجة إلى المتجمع السعودي المتخلف. إضافة إلى التنميط والإختزال عبر مقال الناقد الفرنسي المقتدر ماتيو ماشغي عن طريقة أخرى في التعامل النقدي مع السينما العربية والتي هي الإنتقائية المغرضة. على المستوى العربي، وعلى عكس المنتظر، تناولت الكتابة العربية فيلم "وجدة" بطرح جدي خال من كل شوائب النظرة الاختزالية للسعودية كنظام ومجتمع. جل القراءات النقدية العربية للفيلم أجمعت بشكل مصادف على أهمية هذه التجربة السينمائية والتي أكيدا بلغت هدفا لم يستطع الإعلام، ولا الأدب أو الفنون الوصول إلى تحقيقه، وهو تقريب المجتمع السعودي من المجتمعات العربية الأخرى. وأظن فوز الفيلم بالجائزة الأولى في مهرجان السينما النسوية في مدينة سلا بالمغرب، مع ردود الفعل الإيجابية بخصوصه، ما يؤكد هذه المسألة بالواضح والمباشر. طبعا لم تنقص الكتابة العربية حول السينما هي الأخرى قراءات اختزالية ومنمطة للفيلم، ومقاربته لا من حيث ما فيه بل من خلال تصور عما يجب أن يكون فيه. على ضوء هذا النوع من القراءة المغرضة، والتي تنصب في نتائج تعامل الكتابة الاستسهالي مع وسيط السينما والانتاج السمعي البصري عامة في البيئة الثقافية العربية، تعرّض فيلم "وجدة" و لايزال لنوع من القراءة الاختزالية التي تعتمد آلية تفكيكية محركاتها لا تنتمي لخطاب السينما في المقاربة أوالنقد أو النظرية. في هذه المقاربات كان "وجدة" الفيلم السعودي الأول، أول فيلم لامرأة سعودية، خطاب نسوي تقدمي وثوري، طرح حقوقي، ولكن أبدا هذا المتن الفيلمي الذي يتمتع بخاصياته الكتابية ومميزاته النصية السينماتوغرافية والتناصية السينمائية. أو هذا العمل السينمائي الذي ينفرد باستقرائية تتظافر في بناء شبكتها الدلالية عناصر سينمائية وخارج سينمائية. كما المقرابات الغربية للفيلم كانت العديد من المقاربات العربية هي الأخرى تضحي به على حساب سياقه. فجاء الحديث عن"وجدة" مناسبة لاجترار خطابات مبسترة عن حقوق الفرد السعودي وحقوق المرأة بالذات، أو وضعية المرأة في المجتمع العشائري بنظمه المتصلبة وقوانينه الصارمة، أو كلاما مستهلكا عن الطريقة الوهابية في تأويل الخطاب العقائدي الإسلامي. إلا أنه، وفي جانب السياق دائما، تميزت بعض الكتابات، يتصدرها مقال مها بنت سليمان، بالتسطير على جوانب مهمة في المضمون الفيلمي تفرد في طرحها فيلم "وجدة" كتناوله التشريحي لواقع المجتمع السعودي في أسرة البطلة ومن خلال فضاء هامش مدينة الرياض. في نفس الخط التشريحي جاء المقال المتميز الذي كتبه طامي السميري في يومية الرياض. يرى هذا الناقد في فيلم "وجدة" بريق أمل في خلق صناعة الفيلم السعودي الطويل، والذي إلى حد قريب كان فكرة مستحيلة. وهو إذ يعبر عن ذلك فإنه يشاطر المخرجة نفسها رؤية سينمائية تبتعد عن الإرتجالية وقلة الحرفية والتمرس. وإن كان في لغته، أعني في مرجعية قاموسه التعبيري، الذي استخدم فيه أوصاف ك" المتشيطنة" وهو يصف سلوك البطلة، يستند على نفس المنظومة الخطابية المتجذرة في اللغة والتي تكرس النظم الثقافية الذي يحاول طرح الفيلم تقويضها. هذه اللغة التي تستند، بوعي وبدون، على خطاب لاهوتي دوغمائي بقدر ما تساعد في إضاءة الرمزية الوظيفية للبطلة في خطاب التمرد، تًسقط هذه الوظيفية، بطريقة غير مباشرة، في خانة النشاز والمروق حسب المعيارية الأخلاقية الدينية. كما تبقى نظرة هذا الناقد لتعلق المخرجة بالهم النسائي كموطن ضعف في إبداعها السينمائي، قد يحولها إلى ناشطة سينمائية أكثر من كونها مخرجة، معبرا عن قصر نظر لا يأخذ بعين الاعتبار المرجعية السينمائية التي بنت عليها هيفاء المنصور تصورها في الكتابة والإخراج. وأقصد هنا المدرسة الواقعية الأروبية الحديثة التي انطلقت من تجربة السينما البريطانية الجديدة في مطلع أواخر الستينات. ففي اقتراح الناقد إملاء توجه خاص على المخرجة، ينطلق من رؤية وظيفية برغماتية للسينما، لا تراعي حرية هذه الأخيرة كفرد ولا اختياراتها الإبداعية كفنانة. هذا التوجيه ينم عن نفس المنطق الإملائي الذكوري الذي كانت ضحيته الشخصيات الأنثوية في فيلم "وجدة"، والذي كانت فكرة تفكيكه وتقويض طرحه هي المحرك الرئيسي وراء الفيلم في جوهره. مقالة طامي السميري بلغتها السلسة وتسلسلها المنطقي الذي يخدم رؤيته النقدية هي الأخرى، مثل فيلم "وجدة" عتبة جريئة نحو خطاب نقدي سينمائي سعودي جاد في الطرح وحرفي في المعالجة. خطاب لا مناص عنه لمساوقة هذه التجربة الطلائعية التي يشكلها فيلم "وجدة" بالخصوص، وأي تجربة سينمائية عموما، في مجتمع مغلق عن الصورة السينمائية. وكون مقاربة هذا الكاتب، وعلى عكس المقاربات الغربية التي أشرنا إليها أعلاه، تنطلق من نفس الأرضية الإنتاجية للفيلم تجعله أقرب لطرحه بسبب التجربة الواقعية المباشرة والتي تغيب حتما على الخطاب النقدي الغربي. تبقى الإشارة إلى أن العديد من الأقلام التي تحسب على السينما تعاملت مع الفيلم بلغة الصمت. وإن كانت في هذا التعامل لا تختلف عن الأقلام أو الأصوات التي وظفت "وجدة" في ما أسماه المفكر والشاعر المغربي محمد بنيس ب"خطاب التشفي" لتنقص من قيمة بعض السينمات المحلية العربية، وكأن فيلم "وجدة" مستقل بمرجعيته وتربطه علاقة "tabula rasa" مع سينما يوسف شاهين وفريد بوغدير وزياد الديوري وفريدة بنليزيد. عبداللطيف عدنان هيوستن 2014