لم يكن يدر بخلد الشيخ ابن تيمية أن يتحول إلى المرجع الأول الذي ينهل منه المتطرفون والجهاديون، متخذين من فتاواه المتشددة دليلهم وخارطة طريقهم وبرنامجهم العملي لتكفير الآخرين والحكم على المجتمع بالجاهلية وتبرير القتل الهمجي لعموم الناس. بل لم يجر في خيال السلفيين المتنورين من أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد بن العربي العلوي وأبي شعيب الدكالي وسواهم أن إحياءهم لبعض من تراث «شيخ الإسلام» للتخلص من الاستعمار الغربي ومن مظاهر وثقافة الشعوذة المنتشرة بقوة في منهم قد يؤول في النهاية إلى أحزمة ناسفة وسيارات مفخخة وقنابل بشرية. كيف تحول ابن تيمية إلى المرجع الأول للمتطرفين والجهاديين؟ وماذا يعني اليوم الاستشهاد به في الخطاب السياسي؟ إن الإجابة عن السؤال الأول لا يمكن أن يتم إلا من خلال فكر ابن تيمية نفسه؟ أما الجواب عن السؤال الثاني فيمكن تلمسه في كيفية استغلال كل فاعل سياسي ممن ينتمون اليوم إلى الإسلام السياسي لتراث هذا العالم الإسلامي، الذي كان نتاج عصره. * فكر متشدد في زمن الفتن وانهيار الكيان الإسلامي حين توقف المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، في كتابه التأسيسي والمرجعي «نقد العقل العربي»، عند الشيخ ابن تيمية، الذي يصفه أتباعه من السلفيين ب«شيخ الإسلام»، أنصف فكر الرجل وهو يموضعه في إطاره التاريخي، ويبيّن، بشكل موضوعي، كيف لعبت الظروف السياسية والاجتماعية، التي أحاطت به، في نزوعه نحو التشدد في أحكامه وفتاواه، وفي عدم تسامحه مع الآخر، وجنوحه عن مبدأ الاختلاف كما تبلور ببغداد، مدينة السلام، في عصرها الذهبي، وببلاد الأندلس. كان تقي الدين بن تيمية المزداد في 661 ه، بمدينة حران ببلاد ما بين النهرين (جنوب شرق تركيا الآن)، مطوقا بتداعيات سقوط الخلافة على يد المغول، الذين دفعت همجيتهم أسرته إلى هجرة مسقط رأسه نحو دمشق وهو دون السابعة من عمره. كانت «دار الإسلام» تعيش على هزات التفتت والتشرذم بعد انهيار مركز الحكم بالعاصمة العباسية، والضربات القاصمة تتلاحق على الكيان الإسلامي المترنح، من الشرق عبر المغول، ومن الغرب عن طريق الحملات الصليبية. المناخ القاتم، الذي شبّ فيه ابن تيمية في دمشق بعدما آلت إلى مماليك مصر، كان له أثرٌ نافذ على سيكولوجيته ومزاجه وتوجهه المذهبي. وقد كرس نشوؤه في بيئة تأخذ بالمذهب الحنبلي، المعروف بأنه أكثر المذاهب تشددا، راديكاليته في النظر إلى كل قضايا عصره. كان ابن تيمية مسكونا بهاجس الإصلاح الجذري لأعطاب التاريخ، التي ألحقتها حوادث الزمان القاسية وصروفُه الجسام بالكيان الإسلامي وجعلته لقمة سائغة في أفواه همج المغول ومتعصبي المسيحية. كان الرجل مدفوعا بحس قومي وديني عميق، يروم رد الاعتبار إلى هذا الإسلام الكبير والكوني، الذي حكم العالم لخمسة قرون قبل أن تدور عليه الدوائر. وكان يرى أن داء العطب كامن في ترك سنة السلف الصالح والحياد عن صراط الإسلام الأول، الذي أرسى أسسه الرسول الكريم. وللعودة إلى هذا الإسلام البادي في تصوره أنه صاف من الشوائب وإحيائه من جديد كان عليه أن يقفز على كل مراحل التاريخ، التي تمخضت عنها الحضارة العربية الإسلامية، ونشأت في أكنافها مختلف العلوم والفنون والآداب. كان الشيخ ابن تيمية، الذي أبان عن نبوغ في الحفظ والاستيعاب منذ صباه، وألمّ بعلوم عصره وتعمق فيها وأتقن ثلاث لغات إلى جانب لغة الضاد، يعرف عدوه الخارجي جيدا، ومدى ما يشكله من مخاطر على رقعة الإسلام وهو يناوشها في عمق المستقر، إلا أنه سرعان ما بدا له أن ثمة أعداء داخليين هم أخطر على الإسلام، كما تمثل له. ولم يكن هؤلاء إلا الفلاسفة والمناطقة والمتكلمة والمتصوفة والشيعة وأهل الرأي. فقد غلب النقل على الشيخ وأوقف كل همه على تكريس حرفية النص، الذي هيأ له التربة الخصبة أبو حامد الغزالي، الذي لم يسلم هو الآخر من نقده اللاذع. لقد انقلب منهج الشيخ ابن تيمية المتشدد إلى ضد ما رمى إليه. إذ أن الحس القومي والديني، الذي حفزه على شحذ الهمم والدفع بما رآه دخيلا على الإسلام، لم يحل دون أن يصبح صاحبه مثير فتن، من حيث لا يقصد، ومفرق صفوف وهو يطعن في أقل المذاهب والفرق والأشخاص اختلافا معه. وكان بديهيا أن يتلقف "الذخيرة"، التي خلفها من الفتاوى التكفيرية متطرفو العصر الحديث ليحولها إلى قنابل موقوتة وأحكام بالموت في حق كل من يخالفهم الرأي والمسلك. وكان في طليعة هؤلاء محمد بن عبد الوهاب، الذي أنشأ أكثر المذاهب تشددا في تاريخ الإسلام، وهاهي الفرق والجماعات المتناسلة من جبته تتوالد اليوم مثل القنابل الانشطارية الفتاكة، وتتبارى فيما بينها على أيها تقترف أفظع الجرائم وأكثرها إساءة إلى دين جاء رحمة للعالمين. * الفلسفة طريق الشيطان والإلحاد لم ينل من الفلسفة في الإسلام مثل أبي حامد الغزالي بعدما تعاطاها لوقت طويل. كان مروره من أزمة روحية وعقلية حادة «توازنت عنده فيها الأدلة» قد عصف به في غياهب التصوف، ودفعه إلى رفض الفسلفة معتبرا إياها علما غير نافع. وقد صور أزمته في كتابه «المنقذ من الضلال» خير تصوير، كما جسد موقفه العدائي من الفلسفة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة»، الذي بالرغم من الرد عليه بشكل مفحم من طرف ابن رشد في «تهافت التهافت»، إلا أن تأثيره كان قد فعل فعله. لقد ظل الفكر الفلسفي يبحث عن شرعيته منذ بدايته على يد الكندي، ورسالته الشهيرة، التي حاول أن يجذر فيها الفلسفة في صميم بيئة دينية قائمة على المطلقات والغيبيات، منافحا عن فكرة أن قصد التفلسف هو التثبت من الحق وتوكيده بالبرهان الدامغ، وملحا ألا تعارض بين الشريعة والحكمة. وإذا كان ابن رشد هو من قام بالفصل بين مسلكي كل طرف، حيث للشريعة كيانُها المستقل، والأمر ذاته ينسحب على الحكمة، فيما مبتغاهما ومرامهما واحد هو الحق، فإن الفقهاء، أصحاب السلطة مذاك الزمان إلى يوم الناس هذا، ظلوا على موقف الغزالي، بل أنزلوه أرض الواقع واضطهدوا به أهل الفكر وأصحاب البرهان وذوي الرأي. في ظل هذه البيئة الحاضنة كان طبيعيا أن يمثّل ابن تيمية الحد الأقصى من رفض الفلسفة وتكفير الفلاسفة، خصوصا من خاضوا في الإلهيات باستعمال المنطق من أمثال الفارابي وابن سينا وسواهم. هؤلاء، بدوا في نظر الشيخ السلفي ضالين مضلين أصحاب طرق فاسدة لا تفضي إلا إلى المس بالذات الإلهية وإخراجها من حوزة التقديس والتنزيه. ولم يسلم من «آلته التكفيرية» النشطة حتى الفخر الرازي، بالرغم من أنه كان أشعريا حتى النخاع، وذلك بسبب خوضه في الفلك والتنجيم وقضايا السحر. لقد عد ابن تيمية الفلسفة من أساسها «طريق الشيطان» لأن منبعها اليوناني هو أصل الكفر الصراح، ولكونها تقوم على العقل، الذي يعتبره قاصرا مهما بلغ من الاجتهاد، قياسا بخبر السماء اليقين، الذي أتى به الرسل والأنبياء. وعمد الشيخ تقي الدين إلى نسف جهود الفلاسفة ممن سعوا للجمع والتوليف بين الحكمة والشريعة، واصفا عملهم هذا بمحاولة للجمع بين الفكر والإيمان، وبين الوثنية والتوحيد، وذلك «حينما حاول ابن سينا وأمثاله أن يجمعوا بين النبوات والفلسفة فلبسوا ودلسوا« في نظره. * تصوف غير أهل الحديث سبيل الضلالة والابتداع كان طبيعيا أن يحمل ابن تيمية بشدة على التصوف بشقيه، الطرقي الشعبي والعالم الموقوف على خاصة الخاصة، فقد رأى في الأول خنوعا ودروشة ونأيا عن شحذ الهمم لمواجهة التتار والصليبيين، ناهيك عما يشيعه من تخريف وشعوذة تكاد تداني الوثنية، ورأى في الثاني مروقا عن صحيح الدين وتحريفا لجوهر الإسلام كما أرسته السنة وكرسته الجماعة. فرق الشيخ ابن تيمية بين المتقدمين من المتصوفة ومتأخريهم. وإذا كان قد أقر الأوائل مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الدارني والكرخي والجنيد والتستري، الذين نعتهم ب"متصوفة أهل الحديث" وقدر فيهم حصر التصوف في خصيصتي الزهد والتعبد، فإنه هاجم الآخرين وحمل عليهم بشدة معتبرا إياهم من أهل الزيغ والبدع. وقد بنى ابن تيمية موقفه من هؤلاء بسبب ما سماه تلبيسهم التصوف الإسلامي السني بالفلسفة والمنطق. وأدرج في زمرتهم أبي حامد الغزالي، الذي رأى أنه داخَلَ التصوف بعلم الكلام وخلطه به، كما عد الحلاج والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وابن سبعين والسهروردي وابن الفارض وسواهم أهل مروق وزندقة وإلحاد ولم يتردد في تكفيرهم وإخراجهم من دائرة الإسلام. لقد عمل ابن تيمية على محاربة الفكر التأويلي للتصوف العالِم في اجتراحه لقراءة مغايرة للنص القرآني بدت له ولأهل السنة والفقهاء مروقا عن الدين وتحريفا لمعانيه وتجوُّزا لمقاصده، لذلك اعتبر هذا الصنف من التصوف أخطر من كل ما عداه، لا يضارعه في المس بثوابت الإسلام كما يتمثلها إلا الفلسفة اليونانية ونسختها الإسلامية. ومما جعل ابن تيمية يطعن في المتصوفة المتأخرين، عدا النظام الرمزي، الذي أخضعوا إليه النصوص والتأويل الباطني، الذي حاولوا من خلاله إعطاءها دلالات أخرى مختلفة، إسقاط كثيرين منهم للواجبات الدينية، مما يسميه المتصوفة أنفسهم الرسوم، ساخرين من "دوغمائية" الفقهاء في تعاطيهم مع الإسلام وأحكامه. بل ثمة منهم من "استحل المحرمات" مثل التلمساني، الذي تم تكفيره على هذا الأساس. ولم يكتف ابن تيمية بمهاجمة المتصوفة والجهاد فيهم باللسان من خلال تكفير معظهم، بل عمل على تبيان ما رأى فيه بدعا تجلت في الأفكار والأبعاد الإشارية والرمزية، التي اتكأوا عليها في تآويلهم ونفيه لمبدأ الوساطة بين الخالق والمخلوق، الذي أخذ به بعضهم وكذا الأرقام التي توسلوا بها في رؤاهم ومنحوها أبعادا تفسيرية جديدة على المناخ الثقافي السائد. وقد وسم كل هذا بأنه "كفر وضلال مبين لا برهان له به". * الشيعة أهل الضلال المبين يبدو هذا هو الحكم الإجمالي، الذي قضى به الشيخ ابن تيمية بحق الشيعة، وهو موقف يلتقي عنده كل أهل السنة انطلاقا من الاختلاف التاريخي الجذري القائم بين الفرقتين الكبريين. والحال أن الإمام تقي الدين لم يعمل على جمع الشيعة في سلة واحدة والحكم عليهم بالكفر، وإنما ميز بين فرقهم ورؤوسهم، واعتبر أن "دخول الكافر في الإسلام على مذهب الرافضة خير له من بقائه على كفره". ويؤاخذ ابن تيمية عليهم مؤازرتهم للأعداء على المسلمين، ويستند في ذلك على تعاون فعلي وقع بين فرق شيعية والتتار، وهو أمر لا يغفره ولا يتسامح فيه من شب وعيه على هذه التراجيديا أو المحنة الكبرى، التي حلت بدار الإسلام، وعانى منها وأسرته وبني جلدته. لقد حمل الشيخ ابن تيمية أكثر ما حمل على فرقة الإسماعيلية، التي أقرت العصمة في ذرية إمامها محمد بن إسماعيل بن جعفر، ونعتهم بالمنافقين والملاحدة. وعد في المقابل الإثناعشرية والزيدية رغم ما يعمهون فيه من ضلال أفضل من الإسماعيلية بكثير، وقد اعتمد في الإجمال على ما دعاه ب"قاعدة التكفير على العموم". لم يوقر ابن تيمية أي فرقة أو نحلة أو توجه يخالف توجهه والمذهب الذي عليه كان. تشهد عليه كتبه الكثار، التي جعل منها رسائل يحاجج فيها الآخرين ويطعن في آرائهم ويسفه اجتهاداتهم في حرب تأويلية كان ديدنها فيها الاتكاء على فهم حرفي للنص القرآني وسنة النبي الكريم.