في مارس الماضي، كتبنا في هذا العمود بمناسبة حصول ديكابريو على أوسكار أفضل ممثل هذا العام ما يلي: "بعد طول انتظار، كان الجميع يترقب صعود ليوناردو ديكابريو الى مسرح دولبي ليتسلم أوسكاره و هو يتنطط فرحا و طالقا العنان لضحكات هيستيرية، أو مطلقا لصيحات انتصار على "القدر" .. شئ من هذا لم يحصل، صعد ديكابريو.. شكر الأكاديمية، شكر طوم هاردي، شكر أليخاندرو، شكر سكورسيزي، شكر عائلته ثم انتقل للمهم.. كان الحديث لا يدور حول شخصه، ولكن حول الأرض، البيئة، الشركات الملوثة، والدول التي لها مشاريع بيئية حقيقية و تحتاج للدعم، فديكابريو معروف بدعمه للقضايا الإنسانية وقضايا البيئة في العالم، وقد تبرع عام 2010 بنحو مليون دولار أمريكي لجهود إغاثة ضحايا الزلازل، ومنح مليون دولار آخر إلى هيئة حماية الحياة البرية، وقد اشترى في عام 2005 جزيرة في مملكة بليز، حيث يعتزم إقامة منتجع سياحي فيها يعتمد على الطاقة المتجددة، وبلغت قيمة شراء الجزيرة 1،75 مليار دولار، كما أنه حصل عام 2010 على جائزة "دوسامثينغ" لدعمه جهود الإغاثة في هايتي. ظهر ديكابريو على غلاف مجلة تايم ثلاث مرات، في أكتوبر 2001، في ديسمبر 2006، وديسمبر 2008. ليوناردو ديكابريو اذن ليس ممثلا فقط، هو اليوم رمز لقضية قال عنها للحاضرين "اننا مؤتمنون.. و يجب أن نترك هذه الأرض لأبنائنا و أحفادنا على أحسن حال"، هو "اسم".. ففي عام 1999، تقدم محامو ديكابريو بطلب يسمح له بامتلاك حقوق اسمه، باعتباره علامة مسجلة، لكن ليست هذه الرؤية الاستشرافية الاستراتيجية المبكرة فقط هي من صنعت الاسم، بل انها اختيارات فنية و فلسفية مدروسة و مفكر فيها بعناية. عندما سألته الصحافة بعد الحفل، استمر ديكابريو في الحديث عن قضيته لا عن شخصه.. "أنا ممتن لكم.. لكننا لا يجب أن ننسى المهم.. انكار التغيرات المناخية هو انكار للعلم.. و هذا يعني أن من ينكر هذه الأمور هو على الجانب الخطأ من التاريخ..". التاريخ.. هذا ما صنعه ديكابريو ليلة الأحد في جوائز الأوسكار، وما سيستمر في صنعه و كتابته و تمثيله و التأثير فيه.. التاريخ.. هذا ما يصنعه الفن.. و ما يصنعه الفنانون الحقيقيون.. ويا ليت قومي يعلمون..". في مهرجان طورونطو، قدم ديكابرو، وفيا لقضيته، فيلما وثائقيا من انتاجه، بعنوان "قبل الفيضان"، وقال للجمهور بعد العرض الأول للفيلم "نريد عرض هذا الفيلم قبل الانتخابات المقبلة .. لأن الولاياتالمتحدة هي أكبر مساهم في هذه القضية"، ولتوجيه نداء عالي الصوت للناخبين الأمريكيين في وقت مناسب للتأثير على قراراتهم. يسافر الفيلم من طورونطو مدينة الرمال النفطية بكندا إلى جزر صغيرة في المحيط الهادي، ويقوم بإجراء مقابلات مع زعماء عالمين مثل البابا فرنسيس والرئيس الأمريكي باراك أوباما وعلماء في المناخ وأساتذة جامعات، ويناقش موضوعات تتعلق بالمناخ، ويوثق للتأثيرات السلبية لعمليات التصنيع وزيادة الاستهلاك على صحة الكوكب، ويخاطب الفيلم الأقلية الكبيرة من النواب الجمهوريين الذين ينكرون بشكل قاطع الأدلة العلمية الواسعة بأن النشاط البشري هو الذي يسبب الأضرار البيئية، ويذكر اسم المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب والمرشحين السابقين ماركو روبيو وتيد كروز، ويسعى الفيلم إلى تحقيق توازن بين توضيح أن الأرض تواجه خطرا جسيما في الوقت الذي يعطي فيه بارقة أمل للمشاهدين بإمكان تفادي الكارثة. وسيعرض فيلم "قبل الفيضان" في دور السينما في نيويورك ولوس أنجلس في 21 من الشهر القادم، وسيُبث في قناة ناشيونال جيوغرافيك في 30 أكتوبر. قبل هذا الفيلم الوثائقي، كان دي كابريو أحد المنتجين المنفذين للفيلم الوثائقي الذي رُشح للأوسكار في 2014 "فيرونغا" (virunga)، عن الغوريلا المهددة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وقد وفاز "الغولدن بوي" هذا العام بجائزة أوسكار عن دوره كصياد فراء يحارب عناصر الطبيعة في فيلم "العائد"، كما كان أحد المنتجين المنفذين لفيلم وثائقي لشركة نيتفيكس بعنوان "لعبة العاج"، عن التجارة غير القانونية للعاج في افريقيا، و قد عرض هذا الوثائقي لأول مرة أيضا في مهرجان طورونطو. في 2007، "أعار" دي كابريو صوته لوثائقي ايكولوجي بعنوان "La 11eme heure"، وعن أفلام مثل "فيرونغا" يقول، انها تقدم قصصا قوية ونوافذ على التنوع الثقافي و الطبيعي المدهش الذي يمنحه لنا عالمنا، و تحكي عن القوى التي تستمر في التدمير و الناس الذين يقاومون ويحاربون من أجل حماية هذه الأرض. فيلم "قبل الفيضان"، و الترجمة الأكثر قربا من المعنى في تقديري يجب أن تكون "قبل الطوفان"، لأن عنوان الفيلم بالانجليزية (Before the Flood) يحيل على قصة شهيرة في الديانات الابراهيمية، و هي طوفان نوح، هو بمثابة انذار وتنبيه وصرخة و نداء استغاثة. فأثناء التحضير له، كان العنوان الذي اقترحه ليوناردو هو (?Are We Fucked)، عنوان صادم مستفز، يدفعك للتفكير في السؤال الذي نتحاشى جميعا طرحه، وهو: اذا كان كوكبنا في خطر، وبيئتنا الطبيعية التي لن نستطيع العيش خارجها في تدهور مستمر، أفلا يعني هذا أن نوعنا البشري هو الذي يوجد محل تهديد بالفناء في حقيقة الأمر؟..