غبت عن قريتي قرابة الست سنوات. وخلال السنتين الماضيتين زرتها مرتين صيفا، لكني أحسست بالغربة، أشياء كثيرة تغيرت في الطقوس الصيفية، وفي العلاقات الإنسانية بين الناس، ومرت أخرى كان الإسلام السياسي هو السبب. فكرت في ألا أعود مرة أخرى، لكني لم أعد صاحب اختيار شخصي، وأظن أننا في الحداثة نعيش ازدواجية تنهكنا في ضبط إيقاعات التعايش بين حديها المتناقضين، وإليكم هذا المثال: فأنا حر في اختياراتي الشخصية كفرد منتم للحداثة كفلسة ونمط عيش، لكني في العلاقة بالبادية، ملزم بالخضوع للقوانين القبلية، حين يموت والدك، تنوب عنه بقوة الأشياء والأعراف والتاريخ، في ضمان استمرارية حضور العائلة وسط القبيلة. ومن سخرية القدر أن الحداثة بعثرت أوراق القبيلة وعاداتها، الطرق صارت معبدة حتى أن مسافة الثلاث ساعات تقصلت إلى ساعة واحدة فقط، وبفعل الطرق الجديدة تقصلت تكاليف السفر، والتنقل إلي المستوصفات في حالة لسعات العقارب أو المستشفيات في حالات الولادة صار أكثر سهولة، حتى تلك الطرق التقليدية في الإضاءة اختفت بعد أن قهرت أعمدة الكهرباء وعورة التضاريس في الأطلس الصغير غير بعيد عن قبائل أيت باعمران. وقريبا ستمتد قنوات المياة كثعبان ضخم يتحدى منعرجات الجبال. وبعد أن كنا معزولين لاتزورنا السيارات إلا في عطل الصيف، ولا نرى رجال الدرك الملكي إلا مرة كل عشر سنوات في حال حدوث سرقة أو جريمة قتل أو ماشابه، صرنا منفتحين على العالم، الطرق المعبدة جلبت إلينا السياح الذين يحبون تسلق الجبال، ونساؤنا لم يعدن يقضين وقتهن في إعداد الخبز، مكالمة عبر الهاتف النقال إلى البائع في السوق ويأتي الخبر ساخنا ومعه الحليب الصناعي الطازج أيضا، ومضى زمن تلك النسوة اللواتي كن يغطين وجوههن حين يصادفن الرجال في الطريق، شابات المدينة لا يجدن حرجا في ارتداء سراويل «الدجينز» والنظارات الشمسية في عطلتهن السنوية. لكن التقدم عندنا والتحديث دائما يسيران بالمقلوب، ما يبدو تحديثا في نمط العيش جلب معه تشددا في طرائق التفكير. وذاك التحول الجذري الذي أحدثته الجمعيات المدنية في البنيات التحتية للقبيلة، سار معه جنبا إلى جنب انقلاب ثقافي جلبه دعاة الإسلام السياسي. وأزعم أني أعرف قبيلتي جيدا، لها تاريخ عريق في السيبة وعمليات القتل والإنتقام والاستعباد والاقتتال. لكن المغرب كله كان كذلك ذات زمن مضى. وكان لها أيضا تاريخ عريق في المقاومة وجيش التحرير، وذلك أيضا تاريخ يتقاسمه المغاربة أجمعين ولا فضل فيه لأمازيغي على عربي إلا ببعض الخونة هنا وهناك. لكن قبيلتي، وكغيرها من قبائل سوس كان يميزها نمط تدينها المغربي السوسي الخاص: نعبد الله ولا نشرك به أحدا، ونؤمن بأن محمدا نبيه ورسوله، ومعاملاتنا تتم وفق المذهب المالكي، وعقيدتنا أشعرية حتى قبل أن تبدأ وزارة الأوقاف والشؤنن الإسلامية في فتوحاتها الدينية الجديدة. لكننا نقدس أيضا «الأولياء الصالحين»، نعتبرهم نوعية خاصة من البشر لديهم بركة ونور رباني وليس قوى خارقة، في تاريخنا أحاطهم الأجداد بعناية خاصة، يتكفلون بإطعامهم وسكنهم وبعطونهم نصيبهم من المحصول الزراعي. أما المتوفون منهم فيبني لهم ضريح يميزهم عن باقي موتى القبيلة. في المقبرة التي يعود تاريخها إلي أزيد من قرنين والممتدة على مساحة شاسعة ويحيط بها سور يذكرني بسور الصين العظيم، يوجد ضريحين لمن تعتبرهم القبيلة وليين صالحين، وفي كل سنة نقيم موسما دينيا، نذبح فيه بقرتين أو ثلاث، ونؤدي الصلاة داخل المقبرة أو الزاوية، خلف أحد الشرفاء الذي ينحدر من سلالة «الأولياء الصالحين». وفي الليل تجتمع القبيلة لترقص أحواش ، وتقيم المأدبات الخاصة، ولا يتوقف الرقص والغناء إلا عند أولى تباشير الصباح.لكن شيئا من ذلك لم يعد له أثر. أصحاب المال الديني السياسي تسربوا إلي القبيلة، منهم من تقاعد وذهب إلي هناك ليملأ أوقات فراغه، ومنهم من وهن جسده فصار يبحث عن الحسنات استعدادا لليوم الآخر، وفيهم أيضا تجار انتخابات ونفوذ. في قبيلة لا يوجد فيها مستوصف ولاسيارة إسعاف، وفيها عشرات الأسر المعوزة، اختاروا أن يصرفوا مبلغ 250 مليون سنتيم لبناء مسجد عصري خارج سور الزاوية، وتكلفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بأن عينت له إماما يجيد اللغة العربية والصلاة عى الطريقة المدينية. لقد رأي الآنبياء الجدد في الزاوية والأضرحة بدعة، تنكروا لكل تاريخهم واعتنقوا إيولوجية الإخوان ومدينية وزارة الأوقاف. لكن جمهور القبيلة أبدى مقاومة شرسة، تمسك بتاريخه وخصوصياته، ورفض هذه الموضة الدينية الواردة عليه. وفي أحيان كثيرة وصل الصراع الذي تبودلت فيه تهم التحريض على الإرهاب إلى مكاتب السلطة المحلية، قبل أن تطوى الملفات بعد أن تبينت السلطة حقيقة التوثر. غير أن الخسارة كانت كبيرة. انقسم الناس بين من يصلي في المسجد وبين من يتمسك بالزاوية، وقامت عداوات بين المعسكرين، لم يعد أهل القبيلة يجتمعون كما في السابق، صارتا منقسمين إلى مجموعات تكن العداء لبعضها البعض، توقفت رقصات أحواش ، وانذترث مأدبات الإحتفال الجماعي، ويمكن أن تلتقي إبن عمك أو واحدا من أفراد الدوار ول ايبادلك التحية والسلام. يا للهول، لقد جعلت الطرق وأعمدة الكهرباء حياة القبيلة أكثر ازدهارا، لكن إسلاميي المدينة جعلوها أكثر بؤسا، ألم أقل لكم إن الإسلام السياسي وباء لايدخل قرية إلا وأفسدها؟!