صدر خلال الأسابيع القليلة الماضية من السنة الجارية ( 2015 ) كتاب تجميعي هام، تحت عنوان " نجاة المريني .. الكتابة والحياة "، وذلك في ما مجموعه 262 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والإصدار الجديد يعتبر رسالة امتنان وعرفان وتقدير من نخب المغرب الثقافي والعلمي الراهن تجاه الدكتورة والباحثة نجاة المريني، بالنظر لوضعها الاعتباري الأكاديمي الرفيع الذي صقلته بالكثير من الجهد في العمل ومن الإخلاص في التنقيب ومن الوفاء في تمثل القيم الوطنية الأصيلة المؤطرة لأداء نخب الزمن الثقافي المغربي الراهن. ويمكن القول بأن الكتاب استطاع أن يعيد تعميم تداول نتائج مجمل الإسهامات التي بلورتها الأستاذة المريني في مختلف المواقع الثقافية والعلمية والجمعوية والإعلامية التي مرت منها وتركت بها بصماتها الناصعة. وعلى الرغم من أن العمل قد نحى نحو ترسيخ قيمة الاعتراف لأهل العلم بفضلهم ولأهل السبق بسبقهم، فالمؤكد أن العمل يقدم شهادات وقراءات ووثائق لا يمكن القفز عنها في كل محاولات التوثيق للسيرة الذهنية للأستاذة المريني، بل ولمجمل مظاهر خصوبة عطاء الحقل الثقافي والأكاديمي المتخصص في الدراسات الأدبية المغربية، قديما وحديثا. ولعل حضور أسماء وازنة ثقافيا وعلميا بين دفتي الكتاب من خلال شهادات وقراءات ووثائق متكاملة، خير دليل على ما نقول. تتوزع مضامين الكتاب بين قسمين اثنين، اهتم أولهما بتجميع مواد اللقاء التكريمي الذي نظمته جمعية أبي رقراق للاحتفاء بالأستاذة المريني بتاريخ 11 أبريل 2009 بمسقط رأسها مدينة سلا، وقدم الكتاب في ثانيهما شهادات لكتاب ومبدعين تعذر عليهم الحضور في الحفل التكريمي المذكور، وأصروا على بعث مداخلاتهم تقديرا منهم للمكانة العلمية المرموقة للأستاذة المريني. لقد نحت المساهمات نحو إبراز عناصر توهج السيرة العلمية الرفيعة للدكتورة نجاة المريني في مختلف المجالات المعرفية التي اهتمت بها. ولعل هذا ما عكسته – بدقة – الكلمة التركيبية التي ساهم بها الشاعر علي الصقلي في تقديم الكتاب، عندما قال : " أعتقد جازما أنه لا يوجد بين من تعج بهم الساحة الثقافية والأدبية بهذه البلاد، من لا تستبد باهتمامه السيدة الباحثة الأديبة نجاة المريني، لا كأديبة مبدعة، مشهود لها بإنتاج أدبي متنوع وغزير، ولا كباحثة في مختلف شؤون الفكر والثقافة ماضيا وحاضرا، ولكن كمؤلفة، وأكاد أقول كمتخصصة، في الأدب المغربي، قديمه وحديثه، شعره ونثره، بمختلف ألوانه وأغراضه، كرست حياتها للبحث في أغواره، والاستمتاع والإمتاع بوروده وأزهاره، معرفة أحسن ما يكون التعريف برجاله، وحتى بعض من ساء حظهم فغمروا، وكان يطويهم الزمن طي النسيان … " ( ص. 9 ). وقد حرص الشاعر علي الصقلي على توجيه تحية خاصة للأستاذة المريني من خلال قصيدته التي نظمها خصيصا لحفل التكريم، تحت عنوان "نجاة المريني عاشقة اليراع"، حيث يقول في مطلعها : " قل لمن تعشق اليراع : أريني رمز عشق تقل : نجاة المريني ". وفي شهادة المجاهد المرحوم أبو بكر القادري، نقرأ : " نجاة المريني في الواقع مثقفة متطلعة، وأقول إنها بالنسبة للنساء رائدة، رائدة لأنها لم تشارك في المجال الثقافي في ناحية واحدة، ولكن لأن لها مشاركات في التدريس، لها مشاركات في الكتابة، لها مشاركات في المحاضرات والندوات، لها مشاركات في المجال الثقافي سواء داخل المغرب أوخارج المغرب … " ( ص. 26 ). ويقول الأستاذ عبد الحميد عقار في شهادته : " الأستاذة نجاة المريني متفتحة، أخلصت لتخصصها العلمي، إخلاص الصوفي العاشق للحق وللحقيقة يدركهما بالمجاهدة وبالمعرفة في آن واحد، ذلك هو ديدن الأستاذة نجاة المريني، لذلك أصبحت أعمالها مصدرا لا يمكن الاستغناء عنه في مجالي الدراسات المغربية وتحقيق المخطوطات، ومثالا لافتا للنظر بعيد المدى في الكتابة عن الشخصيات ذات الأثر فيها وفي المجتمع، احتفاء بها وبما تجسده من قيم، ورسما بديعا لمعالمها ولمجالات تميزها، وحفظا لذاكرتها، تنجز ذلك في صبر وتؤدة، وبكفاءة معرفية ومنهجية، ما فتئت تطورها وتغنيها بإدمان القراءة والاطلاع، وبإدمان التواصل مع العلماء والمختصين، وبالانفتاح المنتظم على أصناف المعرفة المجاورة والمكملة لتخصصها … " (ص ص. 42 – 43). أما الأستاذ نجيب العوفي، فقد ساهم بشهادة عميقة اختزلت الكثير من أوجه التميز المعرفي للأستاذة المريني، حيث يقول : " إنها باحثة جامعية قديرة، وأديبة كبيرة، تجمع بين عمق ورصانة البحث الجامعي، وشفافية ونصوع الأدب. وثمة نقيبتان أو خصلتان أساسيتان تتميز بهما نجاة المريني: أولاهما : هذا الاحتفاء الجميل والجليل بالهوية المغربية أو الإنسية المغربية حسب تعبير علال الفاسي، أو النبوغ المغربي حسب تعبير عبد الله كنون. وتآليفها الأدبية برمتها دائرة في هذا الفلك الأصيل، فلك الأدب المغربي، قديمه وحديثه، لا ترضى عنه بديلا. ويدخل في فلك هذا الاهتمام المغربي، هذا الاعتراف الأدبي الجميل بأعلام المغرب، رجالا ونساء، أمواتا وأحياء … في تآليف نجاة إذن، وعلى تنوع حقولها، تسمو وتزكو ثقافة الاعتراف والعرفان، إلى أرقى مستوياتها وذارها … " (ص ص. 12- 13). وفي القسم الثاني من الكتاب، يقول الأستاذ عباس الجراري، منوها بتجربة الأستاذة المريني : " على الرغم من أني لم تتح لي فرصة المشاركة في الحفل الذي أقامته مشكورة جمعية أبي رقراق … تكريما للزميلة الفاضلة الدكتورة نجاة المريني، فإني لم أرد أن تفوتني هذه المناسبة السعيدة دون أن أقول كلمة – ولو قصيرة – في حق المحتفى بها لما هي له أهل وبه جديرة. وإني لأود أن أعرب أن دافعي إلى هذه الكلمة، ما للمكرمة العزيزة في نفسي من مودة وتقدير، وكذا للمكانة الرفيعة التي تحتلها في مختلف السوح التعليمية والعلمية والثقافية والاجتماعية. فهي أستاذة جامعية مبرزة، ومن طراز متميز، مشهود لها بالصدق والإخلاص والتفاني في أداء رسالتها على نحو نادر، سواء في تدريسها أو إشرافها على الرسائل والأطاريح، ومناقشتها ورئاسة لجانها بجدية غالبا ما تثير لها المتاعب. وفي كل مرة كنت أشاركها هذه اللقاءات الجامعية، كنت ألاحظ ذلك، وكان تقديري لها يكبر ويزيد. والدكتورة المريني – إلى جانب عملها في التدريس والتكوين والتأطير –عالمة متمكنة ومحققة مدققة، وأديبة مبدعة وباحثة متمرسة بالبحث ومواظبة عليه برزانة واتزان، في غير كلل ولا ملل، مهما يكلفها ذلك من جهد وصبر وتضحية ومعاناة، وفي غيرة على تراث المغاربة وما أبدعوه في القديم والحديث … "( ص ص. 85 – 86 ). ويقول الأستاذ سعيد يقطين في نفس الإطار : " إن تكريم نجاة المريني يجتمع فيه في آن واحد تكريم المرأة المغربية التي ظلت مقصية مدة طويلة من الزمان، ومن الاعتراف بمكانتها ودورها الحيوي وهي تنخرط بصورة إيجابية في الحياة العامة، كما أنه تكريم للباحثة المغربية التي أعطت الشيء الكثير في مجالات العمل التربوي والبحث العلمي، وساهمت في تكوين الأجيال، ومد الخزانة المغربية والعربية بجليل الأعمال وعميق الأبحاث والدراسات، كما أنه، ثالثا، تكريم للأدب المغربي الذي ظل بدوره يعاني من عدم الاعتراف والإقصاء من لدن المغاربة أنفسهم، والذي تخصصت فيه الدكتورة نجاة المريني، وقدمت فيه إسهامات كثيرة وعميقة تكشف بالملموس عن قيمته وخصوصياته وعطاءاته … "( ص. 89 ). وفي نفس المنحى التفكيكي لرصيد المنجز المعرفي للأستاذة المريني، يقول الأستاذ شعيب حليفي : " وأخيرا يجد ابن حمويه من يتذكره من المغاربة، بالبحث والتنقيب في خزائنه الضائعة وزمام تركته الأدبية، وخصوصا "رحلته المغربية". فقد أقدمت نجاة المريني … على جمع وتقديم وتحقيق رحلة ابن حمويه في كتاب عنونته ب " ما تبقى من رحلة ابن حمويه المسماة الرحلة المغربية لشيخ الشيوخ لأبي محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد ابن حمويه الجويني السرخسي، المتوفى سنة 642 ه / 1245 م " … " ( ص. 179 ). أما الأستاذ أحمد العلوي، فقد ساهم بشهادة بليغة حول المسار العلمي للأستاذة المريني في سياق تجربة جيل الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال، حيث يقول : " ليست نجاة المريني قمة في النساء، بل هي قمة في أهل الأدب والفكر من جيلها، وقمة في الحفاظ على الأصول وفي الالتزام بفرائض الصراع الشريف : أقول الصراع الشريف لأننا رأينا في الأجيال التي تلت جيلنا أصنافا من التقافزوالتقفيز، ومن العراك التمثيلي الذي لا شرف فيه إلا ما ظهر منه ولا شرف في الفوز فيه … " (ص. 115). وعلى منوال هذه الشهادات، انسابت باقي المداخلات، لتعيد بث عناصر الامتنان لاسم نجاة المريني، الباحثة والأكاديمية والمثقفة والإنسانة. ولعل اجتماع كل هذه الأسماء الرائدة في مجال العمل الوطني والأكاديمي المعاصر، إلى جانب أعلام كثر ممن ساهموا في الكتاب والذين لا يسع المجال لاستعرض كل مداخلاتهم، لا يمكن إلا أن يعكس مستوى التقدير الذي تحمله نخب المرحلة الراهنة تجاه عطاء الأستاذة المريني، وتجاه رصيد منجزها الأكاديمي الذي غطى مجالات معرفية متعددة، جمعت بين الدراسات النقدية وعمليات تحقيق المخطوطات الدفينة والنصوص التراثية وتأطير البحث العلمي الجامعي من خلال الإشراف على سلسلة من وحدات التكوين والبحث، والإشراف علىالأطاريح الجامعية داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وبغيرها من الكليات. لقد اتضح من خلال الكتابأننا أمام طاقة هائلة فجرتها الأستاذة المريني داخل الجامعة المغربية وعبر مختلف المجالات الموازية التي انشغلت بها. لقد عاشت الأستاذة المريني حيوات متعددة ومتوازية جعلتها تتحول إلى ذات متفردة / متعددة طبعت اسمها كأحد أعلام الزمن الثقافي والعلمي الوطني الراهن، وخاصة في مجالات الدراسات الأدبية المغربية المعاصرة. ولعل من عناصر القوة في هذا الكتاب التجميعي، تركيزه على الجمع بين الدراسات العلمية التقييمية من جهة أولى، وبين الشهادات القيمة من جهة ثانية، وبين الأبعاد الإنسانية الحميمية في السيرة العلمية للأستاذة المريني ثالثا. وإذا أضفنا إلى ذلك مجمل المواد البيوغرافية الملحقة مثل الصور الفوتوغرافية ومحطات المسار الدراسي والمهني والعلمي والشواهد التعليمية أو التكريمية والتغطيات الصحافية المواكبة لعطاء الأستاذة المريني، أمكن القول إننا أمام عمل غير مسبوق، لا شك وأنه يعد مرجعا لا غنى عنه لكل دارسي إبدالات تاريخ الأدب العربي ببلاد المغرب، قديمه وحديثه. إنه كتاب للاحتفاء بالسيرة العلمية للأستاذة المريني، سيرة البهاء في أجلى تعبيراتها، سيرة العطاء الممتد الذي جعل الأستاذة نجاة المريني تتحول إلى أيقونة البيبليوغرافيات الأدبية المغربية، وإلى إحدى دعائم الجامعة المغربية المعاصرة، وإلى اختزال لمعالم التميز التي حملتها المرأة المغربية خلال زماننا الراهن.