"فانزلْ معي لِلبحر / تحت المَوج والحِجارَة / لا بد أنَّ شُعلة / تَغوصُ في القرارَة" أحمد المجاطي
قليلا ما أسعفتِ الكلماتُ الشاعرَ أحمد المجاطي. كثيرا ما أقعدَه "نقعُها" عن ممارسة ما نذَرَ له نفسَه مِن "فروسية". ماضي الشاعر "المجيد" ألحَّ عليه كثيرا وأثقلَ كاهلَه. بيد أن زمنه الثقافي "العنيد" لم يكن يقبل من "الفروسية" بغير الغبار. ما كان يتطاير من "نقع" في الفضاء العام، سَدَّ كُلَّ المنافذ على الشاعر. وهنا ستمتدُّ هوة بالغة بين الشاعر وكلماته. بين الشاعر ونموذجه البطولي. بين الشاعر وقلبِه الذي ينوء بأحلام المدينة (القبيلة) الكبيرة. المجاطي في القليل الذي كتبَ، كان أسيرَ صورة نموذجية للفارس، الشاعر، الفحل. صورة لا واعية ربما، لكنها كانت تلوي بعنق عباراته باتجاه الخمَّارة، لِلتنفيس. لِلتخفُّف من وطأة واقع لم يُنتجْ شروط ولادةِ فارسِه. حَلَّ المجاطي في غير زمانه، لذلك لم تنعقِد الأعراس والولائمُ احتفاءً بولادة شاعرٍ، (كان) يَرْغَبُ في استئناف وَعْدِ "الفروسية" القديم. الوعيُ الجَمعيُّ أشقى الشاعرَ بِبُرودته ولامُبالاته وغُباره. مِن هنا، خيبةٌ مُترسِّبة، يتصاعدُ بُخارُها مِن بين ثنايا نصوص الشاعر القليلة، التي أورثَنا إيَّاها كلعنة مُستحَقَّة. كثيرا ما تنوءُ استعاراتُ المجاطي بهواجس الدفن وشواهد القبور. عُدّة الفروسية تُطوَى مع شروطها المَيِّتة. ما كان يُؤمَل مِن شقِّ لِلأفقِ بالصَّهيل وأعراف الخيل، أصبَح شقا لِبطن الثرى لِمُواراة المَيِّت بلا مَجْدٍ. الأرضُ تبلعُ أحيانا فارسَها غير المُتحقِّق بعُدَّتِه، بحَديدِه الصَّدِئ، بيأسِه المُستحكِم الوافِر، وأخرى تعافُه فيبقى "بلا قبر/ ولا قيامة". الموتُ هِبَةٌ لا يَستحقُّها مَن انفصَلَ عن مِثاله. موتٌ مُجرَّدٌ من طقوس التوديع والدفن والهالة والإيداع. مَوتٌ غُفلٌ بلا ذاكرة ولا مَجد ولا عَوْدٍ مُنتَظر. أيُّ هوانٍ اِنحدرَ إليه نموذجُ الشاعر في زمن الغبار؟ أيُّ رائحة تكُونُ لِمَوتٍ عافتهُ الأرضُ وأهملته السماء؟ أي عار يَستحِقُّه الأحفادُ أكثر مِن العجز عن مواراة سَوءَتهم الثرى؟ مرارة هذه الأسئلة، نتجرَّعُ طعْمَها الساري في استعاراتٍ وجودية مُتاخِمة، تحوّلُ نشيدَ الشاعر إلى مرثية غريبة، لأنها مُجرَّدة مِن كلِّ عزاء. ليس لِلشاعِرِ مِن فُسحَةِ الوُجود غير "هنيهةٍ فقيرة". كُلُّ كَرَمِ الحياة يتلاشى، لِأنَ الشاعرَ يَفتقِرُ لِكَرامة الفارس بما هي مَزيَةٌ مَلحِميَّةٌ. الغناءُ ذاتُه يَغُصُّ بصاحبِه، ما دامَ الهواءُ لا يُفسِحُ لِلحياة غيرَ ذلك الحَيّزٍ الضيِّق. ( تنويعٌ آخرَ على ضيق القبر). فيه تتعذَّبُ "أوتارُ" الشاعِر مِن مُكابَدة لَحْنٍ، لا يَبرحُ جُرحَ الحاضِر إلا ل "يُكفِّن صولة الماضي". هنيهةٌ الحياة تستغرقُها مُكابداتٌ لا تنتهي بغير الصمت. من ساحة الغبار إلى قهقهات الخمارة، لا يَرتفع سوى "صهيل ميِّت". إنه شبَحُ فارس يَلُوحُ خيالُه مُتكشِّفا عَن وَهْمِ فروسية سرعان ما يَنقشع. يُولَد هذا الشبح في مَراتع "الدِّنان" على إيقاع "خببٍ كئيبٍ"، لكنه لا يَكادُ يَتحرَّرُ مِن أغشية "الوهم" حتى تهدمُه الكؤوسٌ نفسُها. شبحٌ يولدُ من العطش وبه يموتُ. ومرةً أخرى يعُم الصمتُ، بَعْدَ أن تلاشى الليلُ، ساحِبا وراءَ "سُعلتِه الضريرة" أيَّ أمَلٍ في ولادة روح مَلحمية، تروي "ظمأ الأحقاب". ليسَ الصمتُ انجلاءً للوهم فحسب. ليس فقط مُواراةً لشبح الفارس فيما يتطاير من نقع. وهو أيضا بقدر ما يُجسِّدَ لحظة تلاشٍ لهذا الشبح في قرارة الكأس (الخمارة)، يكشفُ عمّا ينوء به قلبُ العبارة، إلى حدِّ استحالتها في كثير من الأحيان. مُكابدةُ ولادةٍ مُستحيلةٍ لِلفارس تَنحلُّ في القول مُكابدة مستحيلة لتخلُّق القول الشعريِّ نفسه. وليسَ مَجْداً أن لا يُوَقّع الشاعرُ على غير كتابٍ شعريٍّ واحِد ووحيد. تقتيرُ الكلامٍ ليس اختيارا لمَحلٍّ مُضيءٍ في الهامش وما يَنحازُ له من "إعجاز" شِعريٍّ، بل استسلامٌ لِلَعنة الصمت، بما هو مَنفى اضطراريّ خارجَ بركات الكلام. الفروسية ترتَهِنُ عَميقاً بِكَرم الشِّعر، لكنَّ استحالتَه تزيدُها إمعانا في الاستعصاء. الشعرُ كذلك يُشتَرطُ، في هذه التجربة، بِكَرمِ الفروسية، لكن تعذُّرَها الحديث يُضاعِف من فرص نضوبه قبل أوان تفجُّره المُستحيل. إنها قدرية جدلية تُحوّلُ كلَّ مُحتمَلات الكلام الشِّعري، في ظل هذا اليأس، إلى قبرٍ مفتوح للصمت. لا يَظمأ الشاعرُ فحسب، في تجربة المجاطي، بل تظمأ فوقه السُّحُبُ أيضا، مثلما تظمأ بين يَدَيْهِ الأكوابُ. إنه ظمأ قدَريٌّ، مُركَّبٌ، حُدوديٌّ، يَجعل انتظارَ الِارتواء بلا جدوى. انتظارٌ وُجودي يَتجاوز اللحظة إلى الأحقاب المُتدثٍّرة بإيهابِ المُطلَق. انتظارُ لا تنبثقُ لَوعَتُه مِن ثنايا الحياة فحسب، بل مِن شقوق الموتِ كذلك، بما يعتمل في قرارته السحيقة من أشواق البعث. الانتظارُ، بهذا المعنى، ظمأ شاسعٌ لإرادةِ قوة تخترقُ الزمنَ، مثلما تخترقُ الثرى باتجاهِ بعثِ الحياة. تجديدُ قيم الفروسية المُندثِرة، بقوة الحُلم، التي تجعلُ السيفَ يغيمُ مُكثِّفا الوَعدَ، يبقى مجرَّدَ حُلمٍ لا يقوى على النهوض. إن "النهر" الذي يأمل الشاعر أن "يحمل في غثائه الأشجارَ/ والكتبَ الصفراء/ والموائدَ/ والصمتَ والقصائد/ ودارَ لقمانَ/ وأطلالَها/ والمُدن والأسوار" لا يتكشّفُ في النهاية إلا عن "نهر مُتجمِّد". لا يَحمِلُ الماءُ غيرَ المَوت، لأنَّه ماءٌ غير مَوصول بالصيرورة. هو ماءٌ حَجَرٌ لا يَفي بالوَعْد التموزيِّ الذي اقترنَ به عند شاعر كالسِّياب. لعلَّها تموزية مُفرَغة مِن عُصابها الشِّعري المُحوِّل مادامَ الانتظارُ عتبتُها العليا، التي ليس وراءها غيرُ اللعنة والبرَص. النهرُ متجمّدٌ و"أطلال لقمان" لا تتفجَّرُ حَصَواتُها عنْ سُحُب وأنهار كما تأمُل الذاتُ في لحظة تمرُّدٍ وانتشاء نادرة. الانتظارُ غير المُجدي يجعلُ التموزية تقبع كمحارة مَيِّتة بقلب الماء الشعري الميِّت. هذه ليست فحسب تعويذة تدمغُ نشيدَ الشاعر بمأساة "تشاؤم الإرادة"، بل هي تعويذة نشيد الخراب نفسه بما هو لعنة وقدَر يتجاوز الإراداة كقوة فاعلة في التاريخ والمصير. ومع ذلك، ما من أفعال خارقة تشدُّ الكونَ الشعري إلى زمن السحر والنبوة. زمن "الفروسية" المُحوّلة للمصائر والأقدار، التي تجعل الأفرادَ يندمجون في موكب الرائي النبي الفارس، المُحتضِن لعلامات الزمن الموعود في كلامه وجسده وإيماءاته. نادرا ما يُنبِئُ القول عن فعلٍ خارق. إنباءٌ موصولٌ بحلمِ ولادة "الفارس" التي لا أمل فيها أبدا. لذلك، فالأفعال الإنجازية الأمْريَّة لا تصدُر إلا عن ذاتٍ مشوَّهَة القُدرة. ذات مفصولة عن عبارتها بذات المسافة التي تنفصلُ فيها عن حُلْمِها. الفعلُ مُعلَّق وما من أرض يَستندُ إليها. الأسطورةُ التموزية هنا غير كريمة، لأنها مفصولة عن أثرها التحويلي. و ما مِن أمل في انتشال "الشعلة" من أعماق هذا النهر، لأنه في حقيقته الوجودية هو نهرٌ متجمّدٌ. كيفَ يُمكن الإبحار في قلبِ هذا الماء "تحت الموج والحِجارة"، وهو لا يتكشّفُ، في النهاية، سوى عن حجارة كبيرة صمّاء؟ لعلَّهُ الصممُ ذاتُه الذي يسمُ جوف العصا "السحرية" المنفصِلة عن وعدِها الموسوي(النبي موسى). لذلك لا مجال لانتظار "عصا" الحياة "تفسخُ جِلْدَ الحية الرقطاء". العصا ليست أكثر من عصا، ولذلك فهي، بذات الصفة، أقلُّ من عصا. ورغم أن الشاعر تجرأ على الفعل (وهو نادرا ما يفعلُ) وألقى بتلك العصا على الثرى، فهي "لم تفضْ/ أخشابُها باللَّحم والدِّماء". لمْ تتفتقِ العصا عن مُعجزة، لأنَّ اليدَ التي ألقتْ بها لم ولن تبرحَ مقامَ اللعنة. لذلك، عُوقِبتْ ب "البرص الأبلق" يَستفيضُ ليس فقط في أرجائها، بل حَتى في صميم "رجائِها" المُستحيل. لا مستقبل للكلام الشِّعريِّ المُنفصِل عن ينابيعه السِّحرية والأسطورية. من هنا مُكابدة صمتٍ متعاظم ما يَفتأ ينشقُّ في وجه الكلام مثل القبر. الصمتُ قبرٌ والكلامُ كذلك، لكنَّ المأساويّ أكثر يكمن في انتشار "أشلاء" لا تعثرُ على اليدِ الرحيمة التي تواريها التراب. تنعق كثيرٌ من طيور "الخرائب" في كتابة المجاطي، لكن ليس بينها غراب حكيم يَسُنُّ الدّفنَ. لذلك، لا قبر يُواري الموت المُتناثِر على سطوح الحياة. هو موتٌ متعفِّن، لكنْ ما من أمل في التخلص منه، لأنَّ العبارة تفتقِدُ إلى مائها المُخلِّص المُطهِّر، مثلما تفتقد إلى تلك الحِدّة الشاقولية، القادِرة على حَفرِ مأوىً لِمَوْتٍ جماعيٍّ فاقِدٍ لجدارة الموت. هذا الحَفرُ من شأنه أن يفتحَ قلبَ الحياة لبداية جديدة، لكن هذا البذخَ لا يَتسِّعُ له قلبُ النشيدِ المجاطي في يأسه الوجودي المُحكَم. البذورُ لا تستحكِمُ في الطيَّات (هل هناك بذور فعلا؟)، والقبور مجرد صمتٍ مشقوق لا يسعُ الأجداث. مُجرَّدُ حُفَر متوارثَةٍ في الكلام والأرض والصّمت، تنغلقُ أو تنفتحُ لكن بلا جدوى، فيما يَبقى الموتُ متعفِّنا "يملأ الرحب" بالليل كما في النهار. الموتُ بائسٌ مثلما الحرفُ والمكانُ الذي يَحتضِنُهم. صياغةٌ مُعمَّمةٌ قديمةٌ لماء مُتجمِّدٍ وثلجٍ يَستريح على المحيط. الموجُ يَفقِدُ توَثُّبَه "ويَتسمَّرُ" على الرِّمال. هُو مَوْجٌ حديدٌ هامِدٌ. مَوجٌ حَجَرٌ، بلا منافذ يُطِلُّ منها "المُرجَفون" على حاضرهم، أو غذهم. إنها مُجدَّدا أغنيةُ "الماء " الأثيرة التي يَغُصُّ بداخلها كُلُّ زخم الحياة، فلا تتكشَّفُ سوى عن مَوت بلا دفن ودونما عزاء. كيف السبيلُ إلى شقِّ "طريق لِلمرقى" يُحَوّلُ "العذابَ" إلى أملٍ في البعث؟ هذه ال "كيف" مُعذِّبة، وستُكابدُ عَوَزا أبَدِيًّا للجوابِ الشافي. السُّحُب "مبلولة" بالموت، والريحُ مَرَّةً "بابٌ" بلا قَلْبٍ يَسمَعُ الطَّرقات، وأخرى "زورَقٌ بلا رجال/ وبعضُ مجداف/ وعنكبوت". الريحُ تكفُّ عن أن تكونَ عُنصرا مُواتيا لِلإبحار (البحر ذاته ليس أكثر من حَجَر). الريحُ تكفُّ عن أن تكون علامة تموزية، لِأنَّ تحوّلاتِها الرَّمزيةَ مشدودةٌ لِقلبٍ ميّت مُفرَغ من علامات الحياة. الريحُ مكانٌ أخر لِمَوتٍ لا يُعشِّشُ بداخله سوى "العنكبوت". بين "مقبرة لِلحروف/ ومحبرة لِلسيوف" لا ينعَمُ الجِناسُ بتراسلاته الإيقاعية، إلا لِيؤكِّدَ تراسُلا أنطولوجيا هو مِن صميم النسيج الداخلي لِليأس والعَوَز. إن "المقبرة" هي "المحبرة" التي تنحني عليها الذاتُ الكاتبة لتوقيع أثرِها الشعريِّ. والقلمُ هو السيفُ الذي يَغُوصُ في طيّات الموت حتى الصدأ. أنْ يَكتُبَ الشاعرُ، في هذا السياق، هو أن يَحْفُرَ قبرا لِلصرخة، ولِلقلم السيفِ، حتى يبقى الموتُ موتا مُتناثِرا ومنثورا بلا قيَّامة ولا مجد. أنْ يَكتبَ الشاعرُ، في سياق هذا العالَم المأساويِّ، المَفصول عن أفقه البطولي (غياب الفارس)، المَوسوم ب "صمت الإله"، يَعني أن يَفتحَ "جوفَ صَدِره للغراب" وأن يَتدبَّرَ شعريا لعنة "الحَدب" الذي لم يُصِبْ ظهرَهُ فحسب، بل صاغ "وجْهَهُ" (وجهك الأحدب)، الذي لم يَعُد مكانَ انبثاق الإنساني، الذي تلثمُه الشمسُ كلَّ صباح. حَدَبُ الوجه دفنٌ للإنساني فيه. إغراقُه في تشوُّه اللَّحْم وخراب الأدِلَّة، الذي يُصبِحُ مَشهَدا مُعَمَّما: "قيل أفرَختْ حِرباءُ في وجوههم/ وقيل باضتْ/ قبرة". "القبرة" تقتسم مع "القبر" جناسا، ينعطف لتوكيد رؤيا الموت، فيما يذهب دالُّ "الحرباء" إلى إغراق "الوجوه المُحدَّبة" في نوع من الاضطراب السلبي للأدلة. تتكشَّفُ "مدينةُ" المجاطي عن بيداء. لعلَّه الفضاءُ الذي يناسِبُ أكثر "الفروسية" القديمة، لولا أن الزمن الثقافي "الحديث" لم يَعُد يُؤمِّن شروطَها. يُكابِدُ الشاعر عذابا لا بطولة فيه ولا ملحمة، لِأنَّ الفروسية غارتْ في مجدِها القديم، ولم يبقى منها غير علامات طوَّقَها الغسق. وترتبط طوبوغرافيا البيداء، في تجربة الشاعر، بدوال الطيور والحيوانات والعمامة والخيمة والرمل والفيافي والمغارة والضب والشيح والطلول والخناجر والسيوف. طبوغرافية غارقة في العتمة، عليها ينسجُ "العنكبوت" بيتَه، وفوقَها تحلِّق "كاسراتُ الطير"، مُرخية ظلال أجنحتها على وُجوه "مُحَدَّبة" تنوءُ بجراح أصحابها. بيداءُ الشاعر طوبوغرافيا واسعة لِلمَوت والخراب والعَطش المَفصول عن الينابيع. في هذه الطوبوغرافية، يَكونُ مُجرَّد مُوارة "رائحة الموت" الثرى عملا بطوليا. أليستْ هي تلك الرائحة التي "تهزأ بالفصول"، بانتظار "فارس" لا يأتي لِيُخلِّص منها الثرى والهواء؟ أليس "الفارسُ" المنتظَرُ هو ذلك الشبحُ، الذي صار "يمضغ عظم ناقته" مِن سَغب؟ ألَمْ يَغُرِ الفعلُ، قبل كل ذلك وبعده، في طيّات العَجْز والعَوَز، وصار الكلامُ مُجرّد "رُفات"؟ إنها طبوغرافيا سوداء، تُغرقُ نَفَسَ التجربة التموزي المُكابِد لولادة مستعصية، في فضاء موتٍ بلا بطولة ولا مجد. فضاءٌ لا تلوحُ في ليله التشاؤمي الكبير مَخايلُ فكرٍ شعريٍّ يخترقُ الحُجُبَ، لٍيُنبئ عمّا يَعتمِلُ في البيداء من إرادة قوة صامتة. وليستِ "الخمَّارة" في هذا الفضاء مكانا شعريا لِاحتضان بذرة ديونيزوسية مقاومة، بل هي مكان لتدبير اليأس بإغراقه في قهقهات السكارى. لقد رمى الشاعر بعصاه بتلك البيداء، ولما لم تفِض أخشابُها ب "اللحم والدماء" عاج ليداري يأسه في "خمارة البلد" كَشَقِيٍّ مُنقطِع عن تُراثه النواسيِّ (أبي نواس)، بما هو البدرة العربية لديونيزوسية مُقتحِمة وفعَّالة. لذلك نتساءل: هل أضاعتْ تجربة المجاطي مُمْكِنَها الكبير، وهي تغرقُ في غسقِها الخاص، باتجاه الصمت الذي لا يُنبِئ سِوى عَن أطلال الكلام ورفات الألفاظ؟