الداخلة لأول مرة … طافت كثير من الصور والأسئلة بالذهن في الطريق إلى مطار محمد الخامس، ثم على متن الطائرة في اتجاه مطار الداخلة، صور من التاريخ ومن الحاضر القريب عبرت من خلال الشاشة الصغيرة إلى الذاكرة والوجدان، مع صور باقي مدن الصحراء المغربية، هل تشبه الصور واقع الحال على الأرض أم تخالفه ؟ …. أول شيء من الواقع، من هذه الأرض العزيزة أحسسناه ونحن نخرج من قاعة الاستقبال من مطار الداخلة ليلا، كانت الرياح القوية التي تهب على هذه المدينة، رياح خير بالتأكيد. فالرياح أصبحت في العصر الحالي نعمة كمصدر بديل للطاقة، والداخلة إحدى مدن المملكة التي تتوفر على إمكانيات مهمة لدخول عالم الطاقات النظيفة والمتجددة. والرياح أيضا على الشواطئ والسواحل عنصر جذب للرياضات البحرية، وفي ذلك اكتسبت الداخلة سمعة كبيرة، وأصبحت رائدة في «الكيت سورف» و«الويند سورف» وباقي الرياضات الأخرى المشابهة لها، وتلك قصة أخرى تأتي بعض تفاصيلها في اللاحق من السرد والحكي، سألت سائق «الميني بيس» ونحن في الطريق إلى تناول العشاء، ثم معرفة الفندق الذي سوف نستقر فيه مع بعض المشاركين في النسخة الأولى من المنتدى السوسيو ثقافي والاقتصادي المغربي الإسباني، والذي سوف يركز بالأساس على العلاقة بين جهة الداخلة وادي الذهب الكويرة وجزر الكناري، سألته عن الشيء الذي تشتهر به الداخلة في المقام الأول ويغري بالزيارة والمشاهدة، فلم يتردد في الجواب: البحر، والبحر كان أول شيء أحاول أن أكتشفه في الصباح الدافئ على خلاف الليل البارد. وقبل الإطلالة سوف أكتشف أسماء زعماء مغاربة سميت بها شوارع في الداخلة، علال الفاسي ثم فيما بعد محمد بلحسن الوزاني، ثم جاءت لحظة الاكتشاف لحظة الدهشة والانبهار وأنا أرى بحر الداخلة هادىء صاف مغر يتهادى ويتخايل كأمير بلباس آخاذ منسوج من الطبيعة، التي تحيط به ومن ألوانها التي يتلون بها، بحر متفرد لا يشبه البحار الأخرى، ( هادي البداية ومازال مازال ) … إنك في مكان استثنائي وفريد من نوعه ويعد بكثير من المفاجآت في مائه وبره، إنه شبه جزيرة الداخلة، وهو ما يذكرك به النصب في ساحة الحسن الثاني بالمدينة، وإنه أيضا خليج وادي الذهب الذي تقدر مساحته بأربعمائة كلمتر مربع.. في الطريق إلى قصر المؤتمرات ( لاحظوا أن للداخلة قصر مؤتمرات )، مكان افتتاح المنتدى المغربي الإسباني سوف أبدأ باكتشاف بعض عمران الداخلة في عصر النماء والتطور … دار الثقافة، المسبح المغطى، وفضاءات أخرى للسياحة والترفيه تغري باكتشافها، ومعالم عمرانية كانت تلقي علينا التحية ونحن في طريق تحمل كامل مواصفات الطرق المريحة والحديثة. بعد الجلسة الافتتاحية للمنتدى، والتي أنصت فيها لكلمات الوفود المشاركة، وخاصة ممثلي المؤسسات المحلية والوطنية عن موارد وثروات الجهة ومسلسل التنمية بها ومنه مشاريع النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، التي سوف ترفع من سرعة التعمير والاستثمار في الداخلة وادي الذهب الكويرة، كان هناك مستع من الوقت لجولة سريعة في داخل المدينة. في انتظار الاكتشاف الأكبر عبر رحلة قبل ساعات من اختتام المنتدى… الداخلة مدينة هادئة، فسيحة ونظيفة الشوارع. الداخلة مدينة لا تحس فيها بالعياء الذي تحسه في المدن الكبرى. الداخلة مدينة لها ولسكانها إيقاع خاص، ليس فيها عمارات كما في المدن الكبرى في المغرب، وهذا شيء يمنح المدينة ميزة خاصة ويحفظها من شر العمارات والمكاتب الشاهقة. كل شيء متوفر في متاجرها وكل الخدمات الضرورية متاحة لمن يرغب فيها. وحتى هي الأخرى لها نصيب من «الفراشة» من مدن مغربية وحتى من دول جنوب الصحراء يتخذون من بعض أرصفة المدينة فضاءات لعرض سلعهم الخاصة.
تثمين الثروة السمكية أول وجهة في رحلتنا الاستكشافية بعد الندوة الصحافية بفندق باب البحر لتقديم الاتفاقية الموقعة بين جمعية أسدي (الجمعية الصحراوية للتنمية المستدامة وتشجيع الاستثمار) وغرفة الفلاحة بالجهة، وكونفدرالية رجال الأعمال بجزر الكناري لتشجيع الاستثمار في الجهتين، وقبيل ساعات من اختتام المنتدى المغربي الإسباني، كانت الوحدة الصناعية « كينغ بلاجيك » لتثمين المنتوج السمكي ( السردين والماكرو واللاتشا)، التي تشغل 1250 عامل وعاملة، ويوجه منتوجها في معظمه للتصدير ( 75 في المائة للتصدير و25 في المائة للسوق المحلية ). أول شيء أثار انتباهنا ونحن نلج هذه الوحدة الصناعية عبر البوابة الرئيسية هي شروط النظافة، التي كان علينا الالتزام بها قبل بدء زيارة مختلف وحدات المصنع من خلال ارتداء ملابس خاصة، وانتعال أحذية طويلة وتغطية الرأس، وهو شيء ليس غريبا في مصنع يعد السمك من أجل الاستهلاك الداخلي والخارجي، ويسعى إلى أن يحافظ على شروط النظافة وضمان الجودة. بعد هذه الإجراءات الضرورية بدأ الاكتشاف، اكتشاف وحدة متطورة جدا بآليات حديثة وأقسام متعددة لتصنيع السمك ( التبريد والتجميد، المعالجة والطهي، التعليب …)، بل إن هذه الوحدة الصناعية تتوفر على مختبر للتحاليل يتم فيه إخضاع المنتوج للمراقبة حفاظا على معايير وقابلية المنتوج للاستهلاك وأيضا معايير الجودة. «لقد وقعنا عقودا مع مستوردين وزبناء تلزمنا باحترام كل شروط النظافة والجودة في سوق تعتبر صعبة والتنافس فيها شديد، وإذا ما وقع وأخللنا بأحد الشروط والمعايير فإن ثمن ذلك يكون باهضا، ولذلك فإننا نعمل كل ما في جهدنا من أجل أن نرفع من مستوى عملية تثمين المنتوج السمكي»، يوضح المدير العام لهذه الوحدة الصناعية شامي الخزرجي رضا، وبطبيعة الحال للحفاظ على الأسواق الحالية واستهداف أسواق أخرى ( منتوج التجميد يوجه نحو جنوب إفريقيا وإسبانيا والمعلبات نحو الاتحاد الأوروبي وألمانيا بالخصوص وأيضا الشرق الأوسط ونيجيريا). قد ننبهر بالآلات وطرق التصنيع كما انبهر بها بعض أعضاء الوفد الكناري المرافق لنا في هذه الزيارة، ولكن الصورة لن تكتمل بدون الاستفسار عن ظروف اشتغال اليد العاملة التي هي الأخرى تعتبر من علامات الجودة في تصنيق أي منتوج. وعندما استفسرنا المدير العام لهذه الوحدة الصناعية حول الأمر، أجابنا بأن العمال لهم السكن الخاص بهم وأيضا وسائل النقل التي توفرها لهم الشركة، ولهم المطعم الخاص بهم، ويستفيدون من حصة (بونيس) من السمك. كما أن المجتهدين منهم تمنح لهم منح على حسب الإنتاجية، وكل 15 يوما يتم منح هدية للمصلحة أو القسم الأول في الشركة من حيث العمل والإنتاجية، وذلك بطبيعة الحال من أجل تحفيز العمال. دائما في عالم السمك لكن هذه المرة في أحد المطاعم «بارك دي زيتور» لتناول وجبة الغذاء هنا سوف نكتشف دليلا آخر على غنى وتنوع الثروة السمكية للداخلة: المحار الممتاز الذي يربى في عين المكان، والسمك اللذيذ الذي له طعم خاص أبهر حتى الضيوف الكناريين. البحر الساحر والرياضات البحرية بعد الغذاء كانت وجهتنا نحو المنطقة السياحية «الداخلة أتيتيد»، هناك سوف تكون المفاجأة كبيرة، إقامات سياحية لن يدور بخلدك أنه يمكن أن تجدها في هذا الفضاء الصحرواي، ولكنها حقيقة على أرض الواقع تذكرك بأشهر المناطق السياحية في الكاريبي أو الباسفيك، التي تسحر بصورها حتى الذي لم يزرها في يوم من الأيام، ولكن بحر الداخلة في هذه المنطقة أكثر سحرا ويعجز الكلام عن وصفه، لأنك عندما تراه تظل مندهشا ومأخوذا، وعندما تريد أن تصفه يعجز اللفظ والحرف عن ذلك. بحر حتى في شهر فبراير يبقى مغريا بالسباحة وبممارسة الرياضات البحرية، التي تشتهر بها هذه المنطقة من «ويند سورف» و«كايت سورف» وغيرهما. شبان مغاربة وأجانب منهم الهواة والمحترفون يستمتعون بالتزلج على الماء المغري، متسعينين بريح المنطقة. نوادي لهذه الرياضات تنتشر هنا وهناك، وفي أحدها التقينا شابا قادما من الصويرة دخل الميدان عن طريق أخواله، والسياح الجانب الذين كان يترددون على بلدته لممارسة هذه الرياضات البحرية، لكنه لم يكتف بالهواية بل أضاف إليها دبلوما ليصبح معلما أو مونيتور. «هناك هواة يأتون لممارسة الوبند والكايت سورف، ولكن هناك أيضا محترفون يأتون للمنطقة التي تنظم بها بطولات عالمية في هذا النوع من الرياضات». طماطم الداخلة كالفاكهة الزراعة حقيقة في الصحراء وليست من الخيال، والدليل مرة أخرى من الداخلة ومن الضيعة الفلاحية «تاورطة» لزراعة الطماطم عبر تقنية البيوت المغطاة (وخارج التربة)، والتي تمتد لمساحة 60 هكتارا. «زراعة هذه النوعية من الطماطم ( الصغيرة ) تستفيد هنا من عوامل ملائمة، وهي الطقس والضوء ودرجة الحرارة» يشرح أحد المسؤولين عن هذه الضيعة، أضف إلى ذلك التربة الغنية التي تعطي ذوقا خاصا لهذه الطماطم يجعل منها قريبة من الفاكهة، كل ذلك يتم باقتصاد للماء ( اقتصاد 40 في المائة ) وإنتاجية مهمة ما بين 80 إلى 100 طن في الهكتار سنويا، والمنتوج بطبيعة الحال يصدر في معظمه إلى فرنسا وسويسرا ألمانيا وروسيا. على سبيل الختم هذا شيء قليل جدا ويبقى مجرد ارتسامات عما رأته العين في بضع ساعات في جهة الداخلة ووادي الذهب، التي تمثل مساحتها 20 في المائة من مساحة المغرب. وتعود قصة عودتها إلى الوطن الأم إلى 36 سنة، أكثر من ثلاثة عقود من البناء والتنمية والمستقبل يعد بمشاريع كبرى مهمة جدة. وبهذا وذاك تواصل الداخلة سحرها وإدهاشها لنا نحن في المغرب من شماله إلى جنوبه وفي الخارج وإغرائنا جميعا بزيارات لها لا تنتهي.