* عبد الكريم : جيولوجيا مزمنة في المغرب والعالم حلّت في هذا الشهر – يوم 6 فبراير تحديدا – الذّكرى الثّالثة والخمسون لوفاة عبد الكريم الخطّابي جسمانيّا، واستمراره العالي فيزيائيّا ورمزيّا وتاريخيّا. لم ينل الموتُ سوى من الّذين اعتبروه ميتا واعتقدوا أنّهم نفضوا أيديهم الملتبسة من أمره الكاشف. وبدَلَ أن تحجُبَه غربتُه في قبر بعيد عن أجدير، رفَعتْه وحوّلتْه إلى قامة سامقة تكسّرتْ عندها الحساباتُ الظّرفيّة، مثلما تكسّرت بين الأجراف الرّيفيّة المهيبة، الّتي أنجبتْه، جيوشٌ وترسانات وقوى أذّلتْها ودوّختْها محاولته الجَسورة (ممّا هو موثّقٌ ومدقّقٌ ومرقّمٌ في كتاب "عبد الكريم : ملحمة الذّهب والدّم" الّذي ألفتْه الصّحافية المقتدرة زكية داود، وصدرتْ ترجمتُه بتوقيعي سنة2007 ضمن منشورات وزارة الثقافة). لقد جعل الخطّابي الاستعمار الإسباني يجثو على ركبتيه في أنوال ويغوص في هزيمة زلزاليّة توالت موجاتها الارتداديّة داخل الأراضي الإيبيريّة والفرنسيّة والمغربيّة، وانتشرتْ رجّاتُها حتّى الشّرق البعيد والغرب الأمريكي الأبعد، بما مثّله عبد الكريم الكوني من مرتكز مُلهم لرموز ثوريّة من عيار تشي غيفارا وهوشي منه وماو تسي تونغ. لذلك يظلّ دفين مقبرة الشّهداء بالقاهرة مُمْعنا في الحياة، وساخرا بشموخ من مسافات الحَجْب الّتي ظنّتْه جسدا يُطْوَى فيما هو تركيبة جيولوجية مزمنة وراسخة في المغرب وفي العالم. * أبو القاسم الشابي: سبعةُ أعماق للوجْه الذّهبيّ "اسكني يا جراح / واسكتي يا شجون / مات عهد النّواح / وزمان الجنون / وأطلّ الصّباح / من وراء القرون…". بهذه الأبيات الحدوديّة المستقطرة من آلام حدوديّة، استشرف أبو القاسم الشّابّي الموتَ الآتي كصباح بدائيّ شاف لكلّ الجراح. ومن وراء القرون، في قلب تونس الخفّاق بالحياة وسط تاريخنا العربيّ الميت، حيث يسهر الآن الفتى الذّهبيّ بجوار حبيبته الّتي روّعه موتها المبكّر، أراه من هنا، وهو دائما هنا والآن. لقد أمكنه، باجترائه البروميثيوسي، وحساسية روحه العالية، أن يهبط بقلبه الجوهريّ العليل إلى سبعة أعماق كبرى : عمق الزّمن، عمق الأرض ، عمق الحبّ، عمق الحرف، عمق الألم، عمق النّور وعمق شعبه الوثّاب. ذلك ثراؤه السّحيق وبرهانه الوثيق. مثل طائر بهيّ من طيور فريد الدّين العطّار، جاب أودية هذه الاختبارات السّبعة وطلع منها بالكنز المرصود لمن هم من عياره الكونيّ، الصّفيّة – وليس المؤلّفة – قلوبهم. منذ البدايات، تخطّى الفتى المتألّق الجريح محدودية مسار شعريّ إلى لانهائية مصير وجوديّ انصهر فيه كيانه المطلق بجغرافيات مطلقة، وذلك حتّى قبل أن يصير رمزا وطنيّا لتونس الخصيبة الّتي تبرّكت بوجهه الوارف على عملتها واستضاءت بأبياته الملحميّة في نشيدها القوميّ، وحتّى قبل أن تتقدّم هذه الأبيات المنتصرة الطّلائع الأولى لجموع ثورة الياسمين المفتوحة لتؤكّد بأنّ شعب الشّاعر هو شعب الأعماق الّذي يطلع، ولو بعد حين، من وهاد الخنوع، لأنّه شعب الحياة الّذي يستجيب له القدر ما وراء التّدجينات المحكمة وترسانات الضّبط والإكراه الّتي يطوّقه بها زبانية الاستبداد أنّى كانوا. لذلك نزل الشّابّي باكرا إلى مناطق الجذور الّتي يتمّ فيها استنبات أو اجتثات كلّ شعب، ولمّا عاين بروحه الخبيرة تيبّس الأوصال وموات الجذوع صرخ بشعبه : "أيّها السّعب ! ليتني كنت حطّابا / فأهوي على الجذوع بفأسي.!.. ليت لي قوّة العواصف يا شعبي / فألقي إليك ثورة نفسي !… أنت في الكون قوّة كبّلتها / ظلمات العصور من أمس أمس!.."، وكأنّ أبا القاسم المنير، الّذي شبّه نفسه بالنسر الشّاهق، اخترق ببصيرته – بصيرة النسر فعلا – مدار العبارات ليتّحد وينصهر بأرض الآلام والبشارات، فكان أن تحوّل إلى جيولوجيا هادرة بالغضب والفرح والحبّ والثّورة والجمال. وكان كما سيكون دوما في المستقبل الّذي يأتي منه في كل لحظة، وجها يتجمهر فيه الشّعائريّ والفجائعيّ والفردوسيّ. هو القاتم والبهيّ والمرير والاحتفاليّ. كالوجود في احتدام عناصره وتجلّياته. لم تكن لديه سوى خمس وعشرين سنة لينجز مهمّته الهرقلية الجبّارة على الوجه الأكمل، أي على الوجه الأكثر تورّطا في العالم، مستضيئا، في اللّيل التّاريخيّ والشّخصيّ العاصف، بنور قلبه، مبتهلا إلى حبيبته – قبل أن يختطفها الموت منه – بمثل هذه الكلمات اللامعة أبدا في هيكلها : "أنت تحيين في فؤادي ما قد / مات في أمسي السّعيد الفقيد… أنت أنشودة الأناشيد غنّاك / إله الغناء ربّ القصيد… أنت أنت الحياة في قدسها / السّامي وفي سحرها الشّجيّ الفريد… أنت قدسي ومعبدي وصباحي / وربيعي ونشوتي وخلودي…" ، ومرسّخا ذلك اليقين الحاسم بأنّ بمقدور الكلمات، حين تكون بنات الأعماق حقّا وصدقا، أن ترى وتسمع وتجيب وتسافر عبر الزمن، كما بإمكانها أن تجيء إلى كلّ مكان، مثلما يجيء فتاها التّونسيّ الكونيّ الأشمّ طالعا باستمرار من أعماق القرون. * رابعة العدويّة : الانخطاف إلى "الحبيب الأكبر" بثمانية قرون قبل القدّيسة تيريزا الأفيلية، الّتي اختطفها – دون أن يعيدها إلى مكانها – عشقُها المطلق ل"الحبيب السّماوي" حدّ اشتهائها النّهائي الفناء فيه، تسامقت رابعة العدويّة مشتعلة بتجربة حدوديّة عبرت فيها من جموح صاخب وعربيد إلى التّخوم القصيّة لحبّ إلهي مضفور بحروف طالعة من ليل الأحشاء. هي الّتي كانت فتنة العالم في سهراتها القديمة المحتدمة ، لم تعد تسكُن هذا العالم بعدما انخطفت، حسّيا وروحيّا، إلى رحاب "الحبيب الأكبر"، لا ترافقها من متاع الأرض سوى كلمات معراجية ترتقيها كلّ ليلة نحو الوجه الماورائيّ، متضرّعة إليه من قلب عزلة غير بشريّة أحرقت عند أجرافها كلّ مراكبها الأرضيّة : تصاعُد أنفاسي إليك جواب. . . . .. .. وكلّ إشاراتي إليك خطاب وإن لاحت الأسرار فهي رسائل. . . .. فهل لرسالات المُحبّ جواب فليتك تحلو والحياة مريرة. . . . .. . . وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الّذي بيني وبينك عامر. . .. . . وبيني وبين العالمين خراب إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن. . . . .. وكلّ الذي فوق التّراب تراب فياليت شربي من وردك صافيا. . . .. وشربي من ماء الفرات سراب * ما وراء البوّابة الخضراء "لستُ بحاجة لأن أُسمّيها، لأنّ اسمها الثورة الدائمة"، بهذا المقطع المندلع، كثورة الأعماق، تناهى إلينا الصوت الكوني لجورج موستاكي المنتسب إلى سلالة غنائية آتية من المستقبل، فيما نحن نقتربُ، أنت وأنا، من بوابة عالية تنهمر على قوسها أعراش اللّبلاب المقدَّس، الذي سمّاه قدماء المصريين "نبات أوزيريس" لاخضراره الغامق والدائم. أضاء نورٌ من البوابة الخضراء فقلت لي : * هذا منزلي ولَيْلي ووجهي. قلتُ لك وأنا أجتاز العتبة النورانية خَلْفَك وأرى ما أرى : * ثمة منازل كثيرة في منزلك، وليال لا حَصْر لها في لَيْلك، وأوديَةٌ وجنان في وجهك. * كورتاثار وكارول دانلوب : ثُنائيّ غراميّ كونيّ لدى العديد من القبائل الهنديّة بأمريكا اللاتينيّة توضع الولادات واللقاءات المصيريّة تحت علامة نجميّة أو نباتيّة أو حيوانية تكون لها بمثابة رقية مقدّسة تشملها بضوئها السرّي وتدرأ عنها الأخطار. لكنّ لقاء الكاتب الأرجنتيني الكبير خوليو كورتاثار(صاحب "كتاب مانويل" و"كلّ النّيران نار" و"الأسلحة السرّية" و"لشدّما أحببنا غليندا") بالكاتبة والمصوّرة الكنديّة كارول دانلوب (صاحبة "ميلاني في المرآة" و"العزلة غير المكتملة") يجدر وضعه تحت علامة التّانغو، هذه الرّقصة الملحميّة ذات التّجاذبات المرهفة والتّناغمات العالية بين الشريكين المتحاورين في زمنها .وكانت الكتابة المتوهّجة هي رقصة التّانغو الكبرى الّتي جمعت كورتاثار وكارول، مثلما جمع بينهما انتصارهما للحركات التقدّميّة في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبيّة، وولعهما بالموسيقى وبالحياة كلعب طفوليّ... وحينما بدآ العيش معا في باريس في أواسط السبعينيات من القرن الماضي – وهو العيش المشترك الّذي توّجاه بالزواج بعد بضع سنوات – كان كلاهما قد مرّ بتجربتين زوجيتين، وفي روحه ومساره أخاديد وجوديّة عميقة وظلمات وأضواء وحدائق ونيران. وذات يوم من شهر ماي 1982 قرّرا معا خوض تجربة جيو- شعريّة (هي أيضا لعبة طفوليّة عالية) تمثّلت فيى تخطيطهما وتنفيذهما لرحلة استثنائيّة بسيّارتهما الفولكسفاغن – الّتي أعادا تسميتها بالمناسبة "فافنر" تيمّنا بتنّين فاغنر – عبر الطريق السيّار الرّابط بين باريس ومرسيليا على امتداد ثلاثة وثلاثين يوما – وهذا الرّقم هو عدد الأعوام التي كانت كارول تصغره بها، مثلما هو، ياللصّدفة أو الضّرورة الرّوحانيّة ! ، عدد السنوات الّتي عاشها المسيح. وقد تقيّد "ربّانا الطّريق الكونيّ" (هكذا سمّيا نفسيهما في الكتاب الّذي يحمل نفس العنوان والّذي وثّقا فيه هذا السّفر البرّاني-الجوّاني) باستكشاف وتدوين وتصوير مختلف تمظهرات الحياة النّباتية والحيوانيّة والإنسانية والتّاريخية على جانبي الطريق، وتسجيل ما اعترضهما من مخاطر صادرة في معظمها عن خشونة بعض سائقي الشّاحنات وبعض رجال الدّرك... وعند بلوغهما مرسيليا بكت كارول من شدّة الفرح والتّأثّر، دون أن تعلم أنّها ستموت بعد ذلك بوقت قصير، تاركة لكورتاثار مهمّة إنهاء كتابهما المشترك بمفرده، قبل أن يهتصره نفس الدّاء الوبيل الّذي أودى برفيقته الباذخة ويلحق بها بعد سنتين من رحيلها ويُدفن بجوارها في مقبرة مونبارناس حيث لابدّ أنهما استأنفا سفرهما في الليل الماورائي المفتوح... * ميّ وجبران : قلب واحد عابرٌ للقارّات لا يمكن ذكْر ميّ زيادة إلاّ مقترنة بجبران خليل جبران، ولا يمكن ذكر جبران إلاّ مقرونا ب "ميّ" ...جمعهما الحرف دون أن يريا بعضهما فلم يفرّقهما شيء، لا الجغرافيات الشّاسعة الفاصلة بينهما – المكوّنة من قارّة بأكملها ومحيط بأكمله -، ولا الغياب المطلق، ولا تواتر السّنين ...من خلال حروفهما المتبادلة على امتداد عشرين عاما انتصرا على القوانين الفيزيائية الّتي تبني العلاقات العادية وتهدمها، لأنّهما ابتكرا رابطا روحانيّا أقوى من المسافات الخصيمة… أغرب قريبن هما وأقرب بعيدين... ارتبط جبران بنساء عديدات في مهجره الأمريكي استمرّ "خلالهن" منشدّ الأعماق إلى وجه الحبيبة المشعّ من برّية الفراعنة، وانخرطتْ ميّ بوقدة موهبتها في الحياة الأدبية القاهرية متعهّدة حركيّتها في صالونها الثّلاثائيّ الشّهير، فيما ظلّ قلبها وكيانها مشرئبّين إلى جبرانها النّائي الحاضر، ناذرة دواخلها إليه حدّ رفضها الزّواج رغم توالي العروض المغرية، وحدّ انهيارها الكبير بعد وفاة "محبوبها" الكبير سنة 1931، وهو الانهيار الذي لم تبرأ منه حتّى وفاتها في الخامسة والخمسين من عمرها. ذات ليلة، وكانت قد مرّت سنوات عديدة على تراسلهما حرصت خلالها على مغالبة مشاعرها تجاهه، وجدت نفسها تكتب إليه ما يلي : "لقد كتبت كلّ هذه الصّفحات لأتحايد كلمة الحبّ . إنّ الّذين لا يتاجرون بمظهر الحبّ ينمّي الحبّ في أعماقهم قوّة ديناميكيّة رهيبة… ما معنى هذا الّذي أكتبه ؟ إنّي لا أعرف ماذا أعني به !! ولكنّي أعرف أنّك "محبوبي"، وأنّي أخاف الحبّ… كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرّط فيه؟… لا أدري… الحمد لله أنّي أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنّك لو كنت حاضرا بالجسد لهربت خجلا من هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلاّ بعد أن تنسى… حتّى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا لأنّي بها حرّة كلّ هذه الحرّية… قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى… فإنّي أثق بك وأصدّق بالبداهة كلّ ما تقول!! … وسواء كنت مخطئة فإنّ قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظلّ حائما حواليك، يحرسك ويحنو عليك. . ." * رسالة فرجيليو إلى دانتي في نهايات المطهر عندما أوصلَ فرجيليو دانتي إلى نهايات المطهر، على مشارف الفردوس الأرضي حيث ستجيئُه بياتريسا دون أن يعلم، قال له، قبل أن يختفي دون وداع : "الآن أتوّجك على نفسك وأُكلّلك، وستأتي من هي أعلمُ وأَقْدَر منّي لتقودك". محمد الشركي